إدانة نفاق الدولة وزبانيتها تحت غطاء الخطب المزيفة، وإدانة الارتشاء والمحسوبية التي تحاربها الدولة وتكرسها في آن واحد.. تلك هي غاية الكتاب كما يقول صاحبه الذي خصص فصلا مستقلا للمسار المتقلب للمغربي هشام المنضري ومسلسل ملاحقاته من قبل أجهزة الاستخبارات المغربية والدولية قبل أن يتم اغتياله بإسبانيا في غشت من عام 2004. تعزز الجنس الاستخباراتي بصدور كتاب جديد «هيا انهض، سنؤمن لك الحماية.. مخبر في خدمة الدولة»، لصاحبه باتريك باطونديي، رجل الاستعلامات الفرنسي المتابع حاليا بتهمة الارتشاء وإفشاء المعلومات الآلية والتورط في اختراق البطائق الاستعلامية المنمطة، وهي تهم قد تعرضه إلى عقوبة حبسية نافذة تتجاوز الخمس سنوات، بعد أن قضى أربعة أشهر ونصف الشهر قيد الاعتقال المؤقت. قضى الكاتب 25 سنة في خدمة الدولة الفرنسية، منها 22 سنة كدركي وثلاث سنوات كمخبر في الإدارة الترابية، قبل أن ينشئ سنة 2003 وكالته الاستعلامية «إيريس» التي وضعها في خدمة الشركة الأمريكية «كرول» الرائدة عالميا في مجال الاستخبارات المالية والاقتصادية بفضل شبكاتها الواسعة التي تضم كبار المخبرين المتخصصين في الارتشاء والفساد بمختلف أشكاله، الاقتصادي والانتخابي والإداري والسياسي وحتى الإنساني.. شبكات ذات تمويل ضخم تتحرك في الخفاء داخل المؤسسات المالية العالمية والمقاولات الصناعية والتجارية الكبرى لترصد العمليات الاحتيالية وتراقب الشخصيات الوازنة في عالم المال والأعمال. يقسم الكاتب أنه لم يفعل سوى تنفيذ التعليمات بشأن إفشاء المعلومات التي استجمعها عن الإدارات والشخصيات التي رصد تحركاتها لفائدة الأجهزة المختصة في ما يصطلح على تسميته في لغة الاستخبارات بالذكاء الاقتصادي. ويؤكد بقوة أن لديه ما يلزم من حجج ودلائل تثبت أنه كان يعمل بإمرة واتفاق مع الإدارة الترابية الفرنسية وتحت مراقبتها. نفس الإدارة التي تتابعه بتهم يجزم بأنها باطلة حتى أنه أصبح اليوم يعيش في عزلته تحث ثقل سؤال واحد: ألم يكن ضحية سذاجته؟ وهو سؤال لم يجد للإجابة عليه من سبيل سوى الحكي ثم الحكي تحت عنوان عريض اسمه «الإدانة».. إدانة أجهزة الدولة والأجهزة الخاصة المكلفة بجمع المعلومات عن المؤسسات الكبرى وأصحابها.. إدانة نفاق الدولة وزبانيتها تحت غطاء الخطب المزيفة، وإدانة الارتشاء والمحسوبية التي تحاربها الدولة وتكرسها في آن واحد.. تلك هي غاية الكتاب كما يقول صاحبه الذي خصص فصلا مستقلا للمسار المتقلب للمغربي هشام المنضري ومسلسل ملاحقاته من قبل أجهزة الاستخبارات المغربية والدولية قبل أن يتم اغتياله بإسبانيا في غشت من عام 2004. «علمت، يقول الكاتب، أن الرجل كان في وقت من الأوقات مقربا من الأسرة الملكية المغربية، قد يكون اختلس في يونيو 1998 حوالي 12 شيكا تحت اسم الحسن الثاني. وقد يكون سحب، بعد أن قلد بدقة إمضاء الملك، ما يناهز عشرة ملايين دولار من الثروة الهائلة التي استجمعها أمير المؤمنين. وبعد ذلك بسنة، تعرض لثلاث طلقات نارية اخترقت إبطه بوسط أحد شوارع بوغوتا، عاصمة كولومبيا، ونقل على إثرها للعلاج قبل أن يلجأ مع زوجته وطفلته إلى الولاياتالمتحدة ملاحقا بأجهزة الاستخبارات التابعة لعدد من الدول بسبب تورطه في التهريب والمتاجرة بالنقود». «وخاتمة المسار أن لقي حتفه ليلة الرابع والخامس من غشت 2004 برصاصة أصابته في مؤخرة الرأس بموقف للسيارات محاذ لمحطة الاستحمام فيونجيرولا بالقرب من مالقة بإسبانيا»، يقول الكاتب قبل أن يسترسل بأن القتيل وإن كان يهوى مؤانسة الصحفيين، فقد اعتاد على تزويدهم بمعلومات غامضة عن الدور الذي يحتله لدى الحسن الثاني. «كان يشهر تقربه من محمد المديوري، المسؤول عن الأمن بالقصر الملكي، ومن فريدة الشرقاوي، محظية الملك، ويذهب إلى حد التلميح إلى أنه نجل الملك». «طلبت من فرانسوا هنريون (عضو نافذ في الإدارة الترابية) أن يدلني على هذه المرأة التي كانت تدعي أنها عشيقة المنضري، والتي أسندت لي شركة «كرول» الأمريكية مهمة البحث عن هويتها.. ولم أجد من بد أمام تريثه وتردده سوى ربط اتصالات ولقاءات مع مخبرين آخرين، فأفادوني بأنها كانت تقيم بالدائرة الباريسية 17 مع أحد المتاجرين في المخدرات، وأخبرني هنريون في النهاية بأن تواريخ ميلادها تنطبق على الزوجة الشرعية لهشام المنضري الذي كان يستعمل اسمها الشخصي (حياة) للاصطياد في الحانات الليلية. ثم شرع في تزويدي بأدق التفاصيل عن دفترها المدني، موضحا أن لها أختا تدعى حياة تقول إنها موظفة إدارية بالمغرب.. سلمني رقم التأشيرة التي حصلت عليها من التمثيلية الفرنسية بالرباط وأيضا معلومات عن رخصة السياقة التي سلمت لها بالضاحية الباريسية شارتر. ويضيف أن المثير في هذه القضية أنها تملك وثيقة الإقامة بفرنسا وأن هذه الوثيقة سلمت لها بطلب من مصالح الاستخبارات المغربية». «فهمت من كلامه أن عناصر الإدارة الترابية الجزائرية وأيضا المغربية يتجولون بحرية في التراب الفرنسي، وكذلك الشأن بالنسبة إلى نظرائهم الفرنسيين بالمغرب والجزائر.. وبدأت أشعر أنني تائه في دوامة عاتية من اللصوص والمخبرين والمصالح الاستعلامية المتشابكة. لم أتمكن من تفكيك رموز وألغاز هذه القضية إلى أن علمت في ماي 2006 بأن السلطات الإسبانية تمكنت بتعاون مع باريس والرباط من تحديد هوية قاتل المنضري. ويتعلق الأمر بمواطن مغربي، حميد بوهادي، المعتقل آنذاك بفرنسا بتهمة القتل. كان الرجلان على علاقة ببعضهما منذ 1987، وكانا مختصان في نهب أموال أثرياء الخليج المقيمين بأفخر الفنادق الباريسية. كانا يوزعان مهامهما بين الأول، أي المنضري الذي كان يتقن لعبة التظاهر بالبدخ أمام ضحاياه الخليجيين، فيتحين فرصة الولوج إلى الصناديق المؤمنة بالشقق الفندقية التكميلية، والثاني، بوهادي، الخبير في تفكيك أنظمة التأمين، يلتحق به للظفر بالخزينة. ظل الصديقان على هذه الحال إلى أن اكتشف بوهادي بأن صديقه المنضري تحايل عليه بعد أن سلمه مبالغ ضخمة من أوراق الدولار المزيفة، فقرر الانتقام». «أتذكر مع ذلك أنني تلقيت في شهر نونبر 2005 خبرا في منتهى السرية يفيد بأن إدارة مراقبة التراب المغربية قد تكون وراء اغتيال المنضري.. فطنت بعد ذلك، وبنوع من الاستغراب، إلى أن هذا الأمر لم يرد ضمن حصيلة التصنت الملحقة بملفي القضائي». ويستعرض الكتاب بأسلوب تقريري جاف مشاهد مثيرة من عالم التجسس الاقتصادي والمالي يتجلى فيها تشابك مصالح الدولة وتداخلها مع المصالح الاقتصادية الكبرى التي تحرك بقوة دواليب السياسة الداخلية والدولية وإفرازاتها المختلفة بين رابح يدوس كل من حوله، وخاسر يتكفن ويتشهد ليزول تدريجيا من المشهد الغابوي القائم على قانون القوة والسلطة والمال. والكتاب، وإن كان صغيرا من حيث الحجم والصفحات (155 صفحة)، فهو يبسط بشيء من التفاصيل واقع الذكاء الاقتصادي والانحطاط الاحتيالي الذي يمارسه بعض الأباطرة، مستعينين بشبكات واسعة من الشركات المتخصصة في النصب وتبييض الأموال في أملاك عقارية وصناعية تنتعش بها بعض العواصمالغربية والآسيوية. وغاية الكتاب أيضا، في رأي الكثير من المحللين والإعلاميين، تصفية حساب بين صاحبه باتريك باطونديي وبعض أجهزة الاستخبارات الفرنسية.