الحلقة التاسعة والعشرون : عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه. من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدارالبيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات. اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدارالبيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل. في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل. طلحة جبريل (صحافي سوداني مقيم في المغرب) [email protected]
لنتحدث الآن عن آخر لقاء لك بالبصري. - بعد مغادرتي «الشرق الأوسط»، لم ألتق به سوى مرتين أو ثلاث مرات. وبعد قرار إقالته في نوفمبر 1999، لم نلتق حينها. لكن جرى آخر لقاء بيننا في سبتمبر 2002، أي بعد مرور قرابة ثلاث سنوات على قرار الإقالة، وهو لقاء له قصة تروى. كنت آنذاك قد عدت إلى صحيفة «الشرق الأوسط» بمبادرة من عبد الرحمن الراشد، رئيس تحرير الصحيفة في تلك الفترة، وكان يفترض أن أعمل مراسلا متجولا «senior reporter»، لكني بقيت في المغرب ريثما يتم ترتيب الأمر إداريا. كنت أرسل الأخبار والتقارير مباشرة إلى لندن دون المرور عبر مكتب الصحيفة في المغرب. وقد تلقيت أيامئذ خبرا من القيادي حاليا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عبد الهادي خيرات مفاده أن إدريس البصري شكل لجنة محلية في سطات بغرض أن يترشح للانتخابات البرلمانية. نشرت الخبر موثقا بأسماء بعض أعضاء اللجنة. وفي اليوم التالي، اتصل بي البصري، وكان أول اتصال بعد فترة طويلة، فسألني: «هل هذا فلان؟»، فأجبت بالإيجاب. كنت بالطبع أعرف صوته. قلت له: «أهلا معالي الوزير»، لكنه أجاب محتدا: «لا أهلا ولا سهلا»، ثم زاد قائلا: «كيف تقول إني سأترشح للانتخابات؟ هل سأصبح برلمانيا وأنا رجل دولة؟»، قالها بالفرنسية. ولم يترك لي فرصة لأتحدث، بل راح يشتمني شتائم مقذعة، طالت أسرتي وبلدي. كال لي شتائم بذيئة لا أستطيع حتى كتابتها. التزمت الصمت. وفي آخر المكالمة، قال: «إذا كنت رجلا أتحداك أن تأتي عندي»، فأجبت: «أنا على استعداد لذلك. ما عليك إلا أن تقول لي أين وسأحضر فورا. أنا لا أخشى شيئا»، وزدت قائلا: «لو كانت لدي سيارة لجئت عندك أينما كنت، لكني لا أملك سيارة»، وكانت هذه هي الحقيقة، فقال لي: «سأرسل إليك سيارة وأتحداك أن تأتي»، فقلت له: «أنا في مكتبي بأكدال، ويمكن لسائقك أن يأتي عندي في أي وقت. بعد ذلك أغلق الهاتف». وهل فعلا أرسل لك البصري سائقه بعد هذه الاتصال الغاضب؟ - نعم، بعد فترة قصيرة اتصل بي سائقه، كان اسمه نور الدين، وطلب مني عنوان المكتب، وقال لي: «سأحضر لأصطحبك». وفي انتظار أن يأتي سائق البصري، اتصلت بالمصور الصحافي الأخ عبد اللطيف الصيباري، وطلبت منه أن يأتي إلى مكتبي في أكدال، وهو المكتب الذي بقيت أحتفظ به سنوات طويلة ومازلت. أبلغت الصيباري بأن لدي لقاء مع إدريس البصري وأريده أن يكون موثقا بالصورة. وفعلا، جاء السائق وأخبرنا بأننا سنذهب إلى الوزير في منزله ببوزنيقة، ولم أكن أعرف أين يوجد المنزل. المهم أننا ذهبنا إلى هناك. وعندما صعدنا إلى الطابق الأول، أنا والصيباري، وجدت البصري يقف وسط الصالون. كانت هناك كنبات عادية، وفي ركن توجد طاولة وضعت عليها قنينات من مياه سيدي علي وأخرى غازية. كان يجلس معه في الصالون أنس دينيا، وهو أحد أصدقائه، الذي ظل معه عندما انفض الناس من حوله. كان دينيا يعمل موظفا في بنك الإنماء الاقتصاي والصناعي «بي إن دي أو». هل وجدت البصري غاضبا؟ - لا، كانت ملامحه عادية، وكان الوقت منتصف النهار. لم أصافحه، إذ كنت في غاية الغضب من سيل الشتائم التي أسمعني إياها في الهاتف. قلت له: «صباح الخير معالي الوزير»، لكنني لم أمد يدي لمصافحته. طلب منا الجلوس، وغادر الصالون بعد ذلك. وبقى معنا أنس دينيا. شعر دينيا بأني لست مرتاحا، فقال لي: «تعرف أن سي إدريس يقدرك. عليك إذن أن ترطب قليلا». لم أقل شيئا، وطلب مني دينيا أن أشرب شيئا، لكني لم أفعل. تأملت تلك الطاولة، وما وضع فوقها من قنينات، معظمها مفتوح، وكأنها طاولة في مقهى شعبي. في الماضي، أي قبل قرار الإقالة، عندما كنت أذهب إلى منزل البصري، كنت أجد طاولة مليئة بكل ما لذ وطاب من الحلويات والمشروبات، لكن الوضع اختلف الآن بعد الإقالة، إذ كنا لحظتها نجلس حول طاولة خشبية عادية، بدون غطاء وكان فيها نوع من البسكويت العادي وقنينات لكوكاكولا وفانتا. ليس معنى ذلك أن البصري أصبح فقيرا، لكني استنتجت أنه بات قطعا يعيش حياة عزلة بدون أبهة، كأنه انتقل من وميض النهار إلى عتمة الليل. أيقنت بأن الزمان دار دورة صعبة على الرجل الذي كان يملأ دنيا المغرب ويشغل ناسها. عاد البصري بعد فترة قصيرة وسألني: «ماذا تشرب»؟، فقلت له: «لا شيء». وعندما أصر، قلت له «سأشرب قليلا من الماء». واستهل الحديث قائلا: «هل تريد أن تسألني عن الانتخابات»، لاحظت كيف استطاع البصري الاستدارة حول الموضوع الذي استدعاني من أجله رأسا على عقب. كان ردي عليه: «السيد الوزير، قبل أن نبدأ، أنت شتمتني، وأنا جئت حتى أبين لك أنني لا أخشى شيئا»، وقبل أن أكمل كلامي قال لي: «خدم السجالة»، في إشارة إلى أن أسجل ما سيقوله. هو الذي طلب منك تشغيل آلة التسجيل؟ - نعم، هو الذي طلب ذلك، وكان معنا أنس دينيا والصيباري، وهما يشهدان على هذه الواقعة. ضغطت على زر المسجل، وقال البصري موجها كلامه إلى أنس دينيا: «يا سي دينيا، عرفت اثنين من الصحافيين في هذا البلد محترمين: هذا وستيف هيوز، في حين كان كثيرون يأتون إلي لطلب المال والامتيازات». بهذه الطريقة أنهى موضوع «الشتم والسب»؟ - نعم، بالنسبة إلي، كان الموضوع قد انتهى. وراح البصري يتحدث بعد ذلك عن الانتخابات والأحزاب والأشخاص، وعن تقييمه لكل واحد. كان حديثا طويلا. وبعد أن أنهيت الحوار، وقفنا في الشرفة، وسألني: «ما هي الأخبار؟»، فقلت له: «أنا حاليا بعيد عن أجواء الأخبار، أشتغل على بعض المواضيع الجانبية، في انتظار أن أشرع في جولات صحافية خارج المغرب، لا يتصل بي أحد ولا أتصل بأحد، وحتى من أعرفهم داخل الحكومة أو الدولة لم أعد شخصا مهما بالنسبة إليهم. لذلك لا أستطيع أن أفيدك في هذا الجانب». قلت ذلك من باب اللباقة، لكن حتى لو كنت أعرف أخباراً، مؤكد أني لم أكن سأنقلها له، ذلك ليس دوري ولا هي مهمتي، ولم أكن مدينا له بشيء حتى أفعل ذلك. ونحن في الشرفة، التقط لنا الصيباري مجموعة من الصور، وطلب البصري مني قبل نشر الحوار أن أرسله إليه ليطلع عليه، فوعدته بذلك، ثم اقترح عنوانا لهذا الحوار يقول إنه سيبقى في خدمة جلالة الملك. قلت له: «هذه النقطة ستنشر ضمن الحوار، لكن من الأفضل أن نختار عنوانا إخباريا، وكان أن اخترت العنوان الذي نشر به الحوار في 18 سبتمبر 2002، وكان ذلك العنوان هو: «لن أصوت في الانتخابات، وإذا قدر لي التصويت سأدلي بصوتي لصالح الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية». ما هي الأمور الأخرى التي قالها لك ولم تنشر؟ - من الأمور التي قالها وكتبتها، لكنه طلب حذفها، قوله إنه إذا كان سيترشح للانتخابات، لن يترشح مطلقا باسم حزب الاستقلال، وقال ما نصه: «هؤلاء بيني وبينهم خلاف عميق». كما انتقد نظام الانتخابات باللائحة، وقاله إنه سيشتت الخارطة السياسية. وأتذكر أنه كان قاسيا على الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي تأسس نتيجة انقسام داخل منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، ثم اندمج بعد ذلك في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وقال إنهم لن يحصلوا على ربع مقعد. كما كان قاسيا بالقدر نفسه على الاتحاد الدستوري ورئيسه محمد أبيض، وقال «إن أبيض حتى لو ترشح وسط أهله سيسقط». كما تحدث عن أبراهام السرفاتي، وقال في هذا الصدد إن محمد بنسعيد، الأمين العام آنذاك لمنظمة العمل الديمقراطي، نقل له عن طريق الحسين كوار، رحمه الله، أن السرفاتي مستعد للدخول إلى المغرب، وأشار إلى أنه أبلغ الملك الحسن الثاني بذلك، وطلب الملك أن يرسل السرفاتي رسالة يقول فيها إن «الصحراء مغربية»، لكن السرفاتي رفض. وقال أيضا حول هذا الموضوع إن عبد الرحمن اليوسفي، وكان وقتها وزيرا أول، تدخل لدى الملك من أجل السماح للسرفاتي بالعودة، ولم يكن اليوسفي، كما قال البصري، يعرف بحكاية الحسين كوار وما نقله عنه محمد بنسعيد. وقال اليوسفي للملك الحسن الثاني إن الأمين العام لمنظمة العفو الدولية طلب عودة السرفاتي، فكان رد الملك على اليوسفي: «إذا لم أصبح ملكا في هذه البلاد آنذاك يمكن للسرفاتي أن يعود للمغرب». وماذا قال لك البصري في نهاية حوارك معه؟ - سألني قائلا: «هل أنت متأكد بأن هذا الحوار سينشر». قلت له: «سأنشره وستقرؤه في المغرب، لاعتبار يتعلق بي شخصيا»، ولأقول للجميع «إنني أملك الشجاعة التي تجعلني أجري معك حوارا، ربما يضر بي ولا يفيدني في شيء». بعد ذلك ودعته، وأبلغني أنه سيتصل بي، لكنه لم يفعل، وبدوري لم أبادر إلى ذلك. وكان أهم ما في ذلك اللقاء حديثه المسجل بصوته، والصور التي التقطت خلاله. ولم نلتق بعد ذلك حتى وفاته في غشت 2007. وهل أعربت بعض الجهات في دواليب السلطة المغربية عن انزعاجها بعد نشر هذا الحوار مع البصري في «الشرق الأوسط»؟ - في اليوم الذي نشر فيه ذلك الحوار، اتصل بي علي أنوزلا، الذي كان قد أصبح مديرا لمكتب «الشرق الأوسط» في المغرب، وأبلغني بأنه تلقى مكالمة هاتفية من مسؤول في الدولة. وطبقا لما رواه أنوزلا، فإن المسؤول كان في غاية الاستياء من نشر حوار مع إدريس البصري في «الشرق الأوسط»، وقال إن الصحيفة منحت البصري فرصة للظهور من جديد بعد أن انطفأ. أوضحت للأخ أنوزلا أني ذهبت عند البصري لملابسات وغرض مختلف تماما. وكان قد ساد رأي داخل أوساط رسمية بأني بادرت إلى إجراء ذلك الحوار ل«رد الجميل» إلى إدريس البصري لأنه تدخل من أجل عودتي مجددا إلى «الشرق الأوسط». وهل الأمر كذلك؟ - أبدا، وليست هذه هي الحقيقة على الإطلاق. وما هي حقيقة عودتك إلى «الشرق الأوسط»؟ - الحقيقة أني عدت إلى الصحيفة بناء على قرار من رئيس تحريرها عبد الرحمن الراشد، الذي يشغل حاليا مديرا عاما لقناة «العربية». وكان الراشد يعتقد بأنني يمكن أن أكون مفيدا في تغطية المؤتمرات الإقليمية والدولية. وتشاء الصدف أن ألتقي بالراشد في واشنطن حين جاء لحضور حفل افتتاح مكتب «العربية» في بناية الصحافة بالعاصمة الأمريكية، وحين رويت له ما كان يقال داخل بعض الأوساط المغربية، علق قائلا: «هل كنت أحتاج للبصري ليقول لي من هو طلحة جبريل؟». المؤكد أن الحوار الأخير مع البصري لم تكن له علاقة برد دينٍ لا يوجد أصلا. عشتم مرحلة صعبة أثناء حرب الخليج فيما يخص الانتقادات التي وجهت إلى الخط التحريري ل«الشرق الأوسط» الداعم لدول التحالف ضد العراق؟ - هذا صحيح، لكن الصحيفة كان لا يمكنها إلا أن تتخذ ذلك الموقف الذي اتخذته، لأن الأمر يتعلق باجتياح دولة خليجية وضمها عنوة الى العراق. طبعا كانت السعودية تتوقع أن يخرج صدام حسين من الكويت ولم تكن تتصور أنه سيبقى هناك، خاصة بعد أن قدم وعودا عن طريق طه ياسين رمضان للقيادة السعودية، وبالتالي ستهدأ النفوس، لكن صدام حسين نكث بوعوده، وهو ما أحدث صدمة في دول الخليج. تقصد القول أن المسؤولين في السعودية فوجئوا بقرار غزو الكويت من طرف صدام؟ -نعم، فوجئوا تماما، إلى درجة أن «الشرق الأوسط» خلال الأيام الأولى للغزو لم تكتب حرفا واحدا عن غزو الكويت، ولنا أن نتخيل هذا الموقف الصعب. «الشرق الأوسط» صحيفة العرب الدولية لا تكتب خلال ثلاثة أو أربعة أيام ولا كلمة واحدة عن موضوع غزو الكويت، كأن ما وقع لم يقع. كان هذا يدل إلى أي مدى شعرت القيادة السعودية بصدمة وخذلان مبين من طرف العراق. أتذكر في تلك المرحلة أن الملك الحسن الثاني عقد اجتماعا طارئا في صبيحة يوم الغزو في الثاني من غشت، وقرر فيه إدانة ما قام به صدام حسين وطلب منه أن يخرج فورا من الكويت. كيف تعاملتم مع الموضوع بعد أن اتخذ الملك الحسن الثاني موقفا واضحا من الغزو؟ - كنت باعتباري مسؤولا للتحرير أتولى عادة الأخبار التي تتعلق بالملك وقضية الصحراء. أرسلت تقريرا عن موقف الملك الحسن الثاني، لكن الزملاء في لندن أبلغوني بأنهم لن ينشروا حرفا واحدا حول الموضوع. من كان رئيس التحرير آنذاك؟ - كان عثمان العمير، وأقول للتاريخ إنه كان في ضيق وحرج شديد نتيجة ذلك الوضع، لكن لم يكن أمامه خيار سوى الامتثال للتوجيهات التي تلقاها، حيث لم يكن الأمر يتحمل أي اجتهاد. شعر بالحرج نظرا لعلاقته بالملك الحسن الثاني؟ - لم تكن علاقته قد توطدت بالحسن الثاني في ذلك الوقت، لأننا نتحدث عن واقعة تعود إلى عام 1990. كان العمير يشعر بالحرج بعد أن طلب منه ألا تكتب الصحيفة حرفا عن الموضوع. أتذكر أنه اتصل بي وقال لي: «حاولوا إرسال أي أخبار باستثناء خبر الغزو وما حدث». كان ذلك أمرا ليس صعبا فحسب، ولكنه يدخل في باب المستحيلات، إذ العالم كله مشدوه للحدث، وكان مطلوبا منا ألا نتطرق إليه، ولو تلميحا، أي ألا نقترب مطلقا من الموضوع. وأستطيع أن أخمن أنها كانت من أصعب الفترات التي عاشها عثمان العمير كرئيس تحرير. أستطيع أن أقدر ذلك لأني كنت قريبا جدا منه، وكنت أشعر بمدى الحرج الذي كان يعيشه. كان قرار الحسن الثاني بإدانة الغزو سابقا حتى بالنسبة لموقف الغرب، بما في ذلك الأمريكيون والأوربيون. لكننا لم نكتب حرفا واحدا حول الموضوع. هل تلقيت أي استفسار من جهة رسمية في المغرب؟ - طبعا. اتصل بي المستشار أحمد بنسودة، وطلب مني الحضور فورا إلى الديوان الملكي. جرت العادة عندما يكون لي موعد في الديوان الملكي أن أدخل من البوابة الرئيسية ثم أنتظر في مكتب صغير عند مدخل الديوان، و بعد ذلك أنتقل إلى مكتب في الطابق الأول، قبل أن يطلب مني التوجه إلى مكتب بنسودة. ذلك اليوم طلب مني عند المدخل الذهاب فورا إلى مكتب أحمد بنسودة. كان معه بعض الناس، وسألني حتى قبل أن أجلس: «قل لي ماذا حدث؟». تظاهرت بأني لم أعرف موضوع الاستفسار. كنت أشعر بحرج بالغ. من جهة، لا يمكن أن أتحدث عن التوجيهات التي تلقاها التحرير في لندن، ومن جهة أخرى، لم يكن هناك أي تفسير مقبول لعدم نشر موقف الملك الحسن الثاني، خاصة أنه ترأس اجتماعا لمجلس الوزراء في الصباح، وهو أمر لم يحدث من قبل على الإطلاق. كنت في الطريق من مكتب «الشرق الأوسط» في شارع أبو فارس المريني الى الديوان الملكي، أفكر ماذا سأقول. وجدت نفسي في موقف لا يحسد عليه، بين الحفاظ على التوجهات الداخلية للصحيفة طي الكتمان، وبين تقديم تفسير لتجاهل خبر يتعلق بملك البلاد. أبلغت بنسودة بأنه ليس لدي تفسير لعدم نشر خبر إدانة المغرب للغزو، وقلت له: «على أي حال، سأعيد الاتصال بلندن وأعود لك بجواب». حاولت أن أمنح نفسي فرصة إضافية من الوقت، أفكر فيها مع التحرير في لندن حول ماذا سأقول. وقال لي بنسودة «إن الملك في كل الأحوال ينتظر توضيحا». وما الذي وقع بعد ذلك؟ - عدت إلى مكتبي واتصلت بهيئة التحرير في لندن، ونقلت لهم ما حدث. وتلقيت جوابا وضعني في مأزق إضافي، قالوا لي: «تصرف». بادرت إلى الاتصال بأحمد بنسودة، وقلت له: «إنني لم أتلق تفسيرا من لندن، لكن لعلكم تلاحظون أن الصحيفة لم تكتب حتى الآن سطرا واحدا يشير إلى أن العراق غزا الكويت، وأعتقد أن هذا الأمر ربما يفسر الأشياء». لم يعقب بنسودة، رحمه الله، على هذا التفسير، ولا شك أنه استنتج ما يريد استنتاجه. بعد ذلك نعرف كيف سارت الأحداث في المغرب، والمسيرة التي نظمت في الرباط، وموجة التعاطف العارمة في المغرب مع العراق، وقد قدرت أحزاب المعارضة أن الذين شاركوا فيها، كما ورد في العناوين الرئيسية لكل من «العلم» و«الاتحاد الاشتراكي»، بحوالي 700 ألف، وكان رقما له دلالته لأنه ضعف الرقم الذي شارك في «المسيرة الحضراء». هل معنى هذا أن الاستقلال والاتحاد كانا يردان على الحسن الثاني من خلال مسيرة الرباط المساندة لصدام حسين؟ - نعم، والأمر لا يحتاج إلى عناء تفكير، بل إن امحمد بوستة هو من قال لي شخصيا إن رقم 700 ألف متظاهر في الرباط هو ضعف الرقم الذي شارك في المسيرة الخضراء. ماذا حدث لكم بعد ذلك داخل «الشرق الأوسط»؟ - عشنا أياما عصيبة وانحدرت المبيعات وكادت تصل إلى حوالي ألفي نسخة، ولم يعد الصحافيون متحمسين للعمل معنا، وكانت الصحف المغربية تطلق علينا صفة «الخونة» . أكثر من هذا، أحرقت صحيفة «الشرق الأوسط» داخل الأحياء الجامعية والجامعات المغربية... نعم، هذا ما حدث، لكن كان خياري هو الصمود، كما حدث عام 1984 عندما طبعت «الشرق الأوسط» في الدارالبيضاء واحتجبت الصحف الوطنية احتجاجا على هذه الخطوة. بالنسبة إليك كصحافي، كيف كنت تتواصل مع الوسط السياسي خلال تلك الفترة من حرب الخليج؟ - لم تكن هناك أخبار يمكن أن تنشر عن المغرب في هذه الأجواء العدائية. على الرغم من ذلك، كتبنا عن المسيرة التي شارك فيها المغاربة. شخصيا، وجدت، من الناحية الأخلاقية والمهنية، أنه لا يمكن أن أقفز من السفينة وهي تواجه الرياح العاتية. لا أدعي بطولة، لكني كنت مثل ربان سفينة عليه أن يواجه الموت غرقا. الذين عاصروا تلك الفترة يدركون ما أقول. كنا نتلقى سيلا من المكالمات الهاتفية، وشبعنا في تلك الايام سبا وشتما، ثم كان أن تلقينا مكالمة هاتفية تقول إنه وضعت متفجرات داخل مكتب «الشرق الأوسط» في شارع أبو فارس المريني بالرباط، وتلقت هذه المكالمة سيدة اسمها «أسماء»، لم أعد أتذكر اسمها العائلي، كانت تعمل موظفة هاتف معنا. ماهي تفاصيل تلك المكالمة؟ جاءت عندي تلك الموظفة مرعوبة، وقالت لي إن شخصا اتصل بها وقال لها: «أيها الكلاب بعد قليل لن يبقى فيكم أحد. لقد وضعنا متفجرات في مكتب الصحيفة». وماذا كان ردك أنت؟ - اتصلت بالسلطات الأمنية المغربية. وعلى الفور جاء إلى مكاتب الصحيفة رجال أمن بالزي المدني، ومن شاركوا في تلك التحقيقات يتذكرون الواقعة بلا شك. استمعت تلك المجموعة الأمنية للموظفة في مكتبي. وأبلغوني، بعد أن استمعوا لأقوالي وأقوالها، بأنهم سيتخذون الاحتياطات اللازمة. هل صحيح أن الأمن المغربي خصص لك حراسة في تلك الفترة؟ - هذا «الخبر» غير صحيح على الإطلاق، وأتذكر أن الصحيفة التي نشرته هي صحيفة «العلم». ودعنى أقول في هذا السياق: «لا أنا طلبت حراسة ولا هم فعلوا ذلك»، علما بأن الوضع الطبيعي عندما تكون حياة صحافي في خطر أو يتم تهديده أن يخضع لمراقبة لصيقة، لكن استمرت حياتي العادية دون أي تغيير. كنت في بعض الأحيان أتعرض إلى إساءات مثل أن يبصق أحدهم حين أكون في الطريق ويشتم كأن يقول «الله يلعنكم يا مرتزقة.. يا عملاء»، وكلام من هذا القبيل. كانت الصحف المغربية تكتب أيضا كلاما حادا، كلاما لم يكن لائقا من الناحية المهنية ولا الأخلاقية، واستمرت الأمور هكذا إلى أن انتهت حرب الخليج وهدأت المشاعر المتأججة، واتضحت حقائق الأشياء.