الحلقة الثالثة والعشرون : عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه. من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدارالبيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات. اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدارالبيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل. في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل. طلحة جبريل (صحافي سوداني مقيم في المغرب) [email protected]
كيف سارت الأمور بينك وبين المسؤول الإداري المعين حديثا في مكتب «الشرق الأوسط»؟ - في كل يوم كانت الأمور تزداد توترا، خاصة أنه ظل يتدخل في أمور تحريرية لا يفهمها، مثلا كان يقول «أريد أن أعرف مع من اتصل المحرر الفلاني»، و«لماذا طالت هذه المكالمة أزيد من عشر دقائق»؟ و«لماذا تكلم عشرين دقيقة»؟ و«لماذا تقرر أن ينتقل هذا المحرر إلى المكان الفلاني»؟ و«ما هي المادة التي أنجزها؟». كان يريد أن يفهم أشياء لا يمكن أن يستوعبها إلا من كانت مهنته الصحافة. بعض الإداريين في الصحف تعجبهم الألقاب والمناصب، لذلك يبحثون عن سلطات وهمية، اعتقادا منهم بأن التحرير يجب أن يخضع لأسلوبهم في الإدارة، سواء كان صائبا أو خاطئا، ويقررون للمحررين ماذا يفعلون ومتى يتحركون وكيف يجرون مكالماتهم الهاتفية. هذه الأمور لم تكن تحدث عندما كنت تجمع بين الإدارة والتحرير؟ - أبدا، ولم يعرف محررو «الشرق الأوسط» في المغرب مثل هذه الأمور على الإطلاق، ولم يكن ممكنا أن تحدث لأني كنت مسؤول التحرير ومدير المكتب في الوقت نفسه، أي كنت أجمع بين الأمور التحريرية والإدارية في الوقت نفسه، لا أقول إن ذلك كان وضعا سليما، لكن على الأقل كان ذلك هو الواقع. لنتحدث عن مصير باقي الصحفيين في مكتب «الشرق الأوسط».. - أقول صادقا إنه بعد أن طلب مني النزول من العربة، كما يقال، أقصد مغادرة الصحيفة، تعرض بعض الصحافيين لمضايقات، وكان يقال إن فلانا من المحسوبين على طلحة جبريل، وهو أمر ليس فقط غير منطقي، بل لعله ينم عن بؤس حقيقي في التعامل مع حقائق الأشياء، لأن جميع الذين عملوا في مكتب «الشرق الأوسط» قبل أبريل 1996 كنت أنا الذي عينتهم، وطوال عملي لم يحدث أن فرض علي توظيف أي شخص باستثناء مرة واحدة عندما كنت رئيس تحرير صحيفة «الصباح»، وسأتحدث عن هذه الواقعة بتفصيل عندما نصل إلى مرحلة «الصباح». إذن عندما يقال إن فلانا أو علانا محسوبا علي، فهذا الأمر، نظريا وعمليا، لا يمكن أن يكون صحيحا. هذا الافتراض يصبح حقيقة عندما يتم تعيين شخص ما دون موافقة مسؤول التحرير، وهذا لم يحدث على الإطلاق. وكان أن تعرض بعض الصحافيين لمضايقات، في أشكال مختلفة، ونتيجة لذلك غادر محمد الأزهري منسحبا في هدوء وكرامة، وفصل كل من حسن العطافي ومحمد بوخزار بعد ذلك، وقرر عثمان العمير نقل حاتم البطيوي إلى لندن، حيث عين محررا هناك. أما من تبقى فربما يكونون الأقدر على الحديث عن ظروف عملهم، لأني قلت بعد أن غادرت الصحيفة «المفروض عندما تصفق الباب خلفك ألا تصيخ السمع لما يحدث داخل الشقة». وكنت أقول أيضا «إن الإنسان الجميل يظل جميلا مهما فعلت به الأيام، إلا إذا كان قبيحا في الداخل». المهم أني غادرت وتركت الجمل بما حمل. وسأسمع بعد ذلك إساءات وإتهامات بما في ذلك أني اختلست الكثير من الأموال. والمفارقة أني وقفت بعد ذلك على الحافة، وعشت ظروفا قاسية، وكادت أسرتي تتشتت، لكن كنت في تلك الأيام أتمثل بيتا من الشعر يقول: «وها أنا في خندق العيش أحمل قوسي وأدرأ بالكبرياء المصائب». بعد خروجي من «الشرق الأوسط» ستبدأ فصول «صحافة تأكل أبناءها». طيب كيف كانت ظروف مغادرتك «الشرق الأوسط»؟ - حتى لا يختلط الأمر على الناس، أود أن أشدد على مسألة في غاية الأهمية، وهي أنني ربما الصحافي الوحيد في «الشرق الأوسط» الذي أعيد إلى العمل مرتين، وكان ذلك يرتبط بترقية معنوية ومادية أيضاً. وهو مايؤكد أريحية أصحاب هذه المؤسسة. ودعني أطرح سؤالا منطقيا: «ماذا يعني إعادتي مرتين، باقتراح من الصحيفة نفسها»؟ من حقي أن أقول، وأنا ما زلت أعمل في الصحيفة عزيزا مكرما حتى الآن، إن الأمور تصحح نفسها في نهاية المطاف، إذ لم نسمع قط أن المختلسين واللصوص، ومن تتسم إدارتهم بالفوضى، تتم إعادتهم إلى مواقع أفضل من مواقعهم السابقة، وإلا ماذا يعني أن تقرر الصحيفة إسناد مهمة إدارة أكبر وأهم مكاتبها، وأعني مكتب واشنطن، إلى هذا «اللص» و«المختلس»، والشخص الذي ألصقت به مسألة الفوضى الإدارية. نعود إلى تفاصيل مغادرتك صحيفة «الشرق الأوسط» عام 1996؟ - دعني أروي لك ما حدث، وكما حدث. في مطلع أبريل 1996، كنت أمر بضائقة مالية خانقة. وفعلا تراكمت علي الديون وأصبح حسابي في البنك ليس مكشوفا فحسب، بل قل إنه تعرى تماما، ولم يعد بإمكاني سحب ولو درهم واحد من البنك. كان ذلك بسبب مسؤولياتي تجاه أبنائي وأسرتي، وأيضا بسبب تعاملي السيء مع المال. كنت مبذرا؟ - فعلا، كنت مبذرا ولا أزال ومؤكد أني سأظل كذلك، بل أستطيع القول إن التبذير من صفاتي التي أعاني دائما بسببها. فكرت مليا في أوضاعي المالية، وقلت لا يوجد حل سوى مصارحة محمد معروف الشيباني، الذي كان أيامئذ عضو مجلس الإدارة المنتدب للشركة السعودية للأبحاث والنشر، التي تصدر «الشرق الأوسط»، بالأمر لعل وعسى أن أجد عنده حلا. اتصلت هاتفيا بمكتبه في إدارة الشركة في جدة يوم الخميس 5 أبريل 1996، لكني لم أجده. قلت لأنتظر حتى يوم السبت بداية أسبوع العمل في السعودية. وفي منتصف النهار تلقيت اتصالا هاتفيا من محمد معروف الشيباني. لا أخفي أني سررت بهذا الاتصال كثيرا، إذ كنت أبحث عن كيفية للتحدث معه وها هو يبادر بالاتصال، وسعدت أكثر حين أبلغني أنه سيكون في الرباط يوم السبت وطلب مني انتظاره في المكتب في حدود الحادية عشرة صباحا، وسألني عما إذا كان لدي ارتباط سيحول دون وجودي في المكتب، فقلت له: «هذا أحسن خبر أسمعه»، وأبلغته بأني سأكون في الموعد على الرغم من أن ذلك اليوم كان يوم عطلتي الأسبوعية. كانت العلاقة بيني وبين المسؤول الإداري والمالي في المكتب بالرباط قد فترت تماما وبلغت أسوأ مراحلها، واعتقدت أن مجيء الشيباني يشكل فرصة سانحة لإيجاد حل حاسم لهذا الوضع، وخمنت أن زيارة الشيباني للرباط تدخل في إطار زياراته المعتادة لمكاتب الشركة الرئيسية. ولم أكن أعلم بالطبع أنه قادم إلى الرباط وهو يحمل في جيبه قرار الاستغناء عن خدماتي وإنهاء علاقتي بصحيفة «الشرق الأوسط». ولعلني أقول الآن إن الخبر الوحيد الذي كنت دائما أفشل في الحصول عليه هو خبر فصلي من معظم الصحف التي عملت فيها. والمفارقة أن الخبر كان يتعلق بي شخصيا. صبيحة السبت 7 أبريل عام 1996 جئت إلى المكتب باكرا، وكنت قد تكتمت على خبر زيارة الشيباني بناء على طلبه. كنت أرشف كأسا من الشاي كما هو معتاد، وتصفحت الصحف، وقرأت ما بثته وكالات الأنباء ورحت أنتظر قدوم الشيباني. جاء إلى المكتب الاخ حسن أوريد في زيارة عادية، ورحنا ندردش، كما هي عادتنا في ذلك الزمان، حول بعض الأمور العامة. في غضون ذلك، اتصل بي الشيباني من الرباط وأبلغني أنه سيتأخر قليلا عن الموعد على أن يصل في حدود الساعة 12 ظهرا. طلبت من الصديق أوريد البقاء وواصلنا تجاذب أطراف الحديث، وقلت له إن ضيفا سيزورني في حدود الساعة 12. لذلك حين وصل الموعد المحدد، استأذن أوريد وانسحب، ورحت أنتظر. هل وصل الشيباني في الوقت المتفق عليه؟ - لا، لم يصل إلا في حدود الواحدة بعد الظهر، ويبدو أنه جاء مع المدير الإداري لمكتب الصحيفة بالرباط في سيارة واحدة، وأذكر أن المصور الصحافي مصطفى الشرقاوي دخل عندي، ليخبرني بأن الشيباني وصل إلى المكتب. طبعا الكل كان يعرفه، لأنه كان أكبر مسؤول في الشركة. وربما اعتقد الشرقاوي بأني لم أعرف بوجوده في الرباط. دخل الشيباني المكتب لوحده وبعد أن تبادلنا سلاما وتحية حارة، طلب مني إخبار الكاتبة عدم تحويل أي مكالمة هاتفية وألا يقطع اجتماعنا أحد. أدركت وقتها أن موضوع الاجتماع له أهمية قصوى. طلبت إبريقا من الشاي الأخضر، فقد كنت أعرف أنه يفضله على ما عداه من مشروبات ساخنة. وبدأ الشيباني يتحدث عن مسيرته الشخصية داخل المؤسسة، وبدايته في صحيفة «عرب نيوز»، ثم الانتقال إلى رئاسة تحرير «الشرق الأوسط»، وعودته مجددا إلى جدة في منصب نائب المدير العام، ثم مديرا عاما للشركة إلى أن رقي إلى منصب عضو مجلس الإدارة المنتدب، وقال لي إنه حين ترك منصب رئاسة تحرير «الشرق الأوسط» لم يكن يعتقد أن ظروفه وأوضاعه ستتحسن، لكن ذلك ما حدث، وذكرني بأنني أمضيت في الشركة ما يناهز سبعة عشر سنة، ويجب الآن أن أتحول إلى وظيفة مراسل متجول نظرا للرصيد الذي أمتلكه من المعلومات والمصادر. هنا أيقنت أن الشيباني جاء يبلغني بانتهاء علاقتي ب«الشرق الأوسط». لكنني بقيت صامتا ولم أعقب على ما قاله حتى يصل إلى صلب الموضوع. بعد ذلك أبلغني بالقرار، وقال بكل تهذيب: «تقرر طي صفحة عملك مع الشركة وإنهاء علاقتك الوظيفية بها». وأضاف «سنحاول أن نفكر معك في المستقبل». وراح الشيباني يتحدث بإسهاب وأنا مازلت صامتا أصغي إليه دون أن أنبس بكلمة واحدة. وحتى تلك اللحظة كنت أعتقد واهما بأنهم ربما قرروا بالفعل نقلي إلى موقع آخر. لكن الشيباني بدأ يتحدث حديثا مسهبا حول إمكانية التعاون معي في مجال الإشهار مثلا... مقاطعا) هل تقصد القول أنه اقترح عليك أن تتحول من صحافي يدير مكتبا إلى مندوب تجاري متعاون مع الجريدة؟ - نعم، كان هذا اقتراح الشيباني، بل أكثر من هذا، فقد أكد لي على أنني سأحقق فائدة كبيرة إذا ما تحولت إلى مندوب تجاري، وأن الشركة على استعداد للتعامل معي إذا أنشأت مكتبا للأشهار. أعترف أني أحسست بألم وبمرارة شديدة، لكنني تمالكت نفسي وحافظت على رباطة جأشي. بعد ذلك طلب مني الشيباني التعقيب على ما قال. ماذا قلت بعد أن سمعت قرار الاستغناء عنك؟ - كان السؤال الذي يلح على خاطري، وهو يتحدث، هو «لماذا وكيف اتخذ هذا القرار المفاجئ»؟ قلت له قبل أن أقول شيئا «هل لي أن أعرف سبب الاستغناء عني»، فأجاب بكل لطف: «طرأت في الآونة الأخيرة مستجدات داخل الشركة تقرر على إثرها انتهاج سياسة جديدة بشأن المواقع الرئيسية في المؤسسة بتعيين سعوديين في هذه المواقع»، وأوضح بأن هذا القرار شمل حتى الآن مناصب رؤساء تحرير المطبوعات ونواب رؤساء التحرير، وسيبدأ تطبيقه على المكاتب. عقبت قائلا: «على أي حال، أنتم أصحاب الشركة وطالما أن هناك قرارا بإعادة النظر في المراكز الأساسية لا أملك إلا أن أمتثل له، لكني أود أن أسألك أيضا هل الأخ عثمان العمير على علم بقرار الاستغناء عني»، إذ اعتقدت طوال فترة الخلاف داخل مكتب المغرب مع المسؤول الإداري أن العمير يقف إلى جانبي، وبالتالي إلى جانب المحررين في المكتب، فأجابني بأنه تم تبليغه بالقرار. كان هناك أيضاً عبد الرحمن الراشد رئيس تحرير «المجلة»، وهو بدوره بقى متعاطفاً معي، لكنه ظل ينأى بنفسه باستمرار عن الأمور الإدارية. قلت للشيباني: «حسنا، الآن سأعقب»، وأضفت «هل تذكر حين زرتكم في جدة في يناير عام 1994»، وكان في نيتي تذكيره بأنني أنا الذي اقترح تعيين مدير إداري للمكتب، لكن من أسند له هذا المنصب راح يتصرف معنا جميعا، أي الصحافيين، كأنه رئيسنا. لكن قبل أن أكمل قاطعني وطلب مني عدم العودة إلى الماضي، وإلى الخلافات التي كانت سائدة في المكتب. أيقنت وقتها أن لقاءنا خطط له أن يقتصر على تبليغي بالقرار وتسوية مستحقاتي. وهكذا شرعنا في الدخول في تفاصيل موضوع المستحقات. كان الرجل قد جاء ومعه كل الوثائق المطلوبة للتسوية: عقد عملي مع الشركة، بعض القروض التي حصلت عليها من الشركة، كشف بالإعلانات التي لم يتم تحصيلها، كشف آخر بديون مستحقة لأعمال أنجزت في الشركة المغربية للطباعة والنشر التابعة للصحيفة. ولاحظت أن كل شيء أعد مسبقا، وأن المطلوب مني فقط هو التوقيع. وعلى الرغم من ذلك سألني: «كم تقدر مستحقاتك؟» فقلت له: «إذا كان الأمر يتعلق باحتساب سنوات الخدمة فأعتقد أن أمرها سهل. إن القانون يحدد ذلك. لكن إذا أردنا تقييم حصيلة الجهد، الذي بذلته خلال 17 سنة، فلا أعتقد بأنني أستطيع أن أحدد رقما، لأن ذلك الجهد، وخاصة جانبه غير المرئي، وبكل موضوعية، لا يقدر بثمن». وأضفت: «بدأت العمل مع الصحيفة وهي توزع بالكاد بضع نسخ في المغرب، وها أنذا أتركها اليوم وهي توزع آلاف النسخ في كل المنطقة. ليس ذلك فحسب، بل أصبح لها رصيد من العلاقات وعلى كافة المستويات، وأنتم تدركون ذلك، لذا أترك لكم تقدير الأمر برمته». ماذا كان تعليقه على ذلك؟ - طلب مني أوراقا رسمية للشركة وراح يكتب بخط يده ما سماه ب«التسوية النهائية». ما هو المبلغ المالي الذي اقترحوه عليك؟ - لا داعي للدخول الآن في تفاصيل تلك التسوية، لأننا سنعود إليها لاحقا، لكن المؤكد أن التسوية لم تكن منصفة، لأنه حتى الرقم الذي اقترحته الشركة حجز نصفه حتى تسدد مؤسسات حكومية مغربية إعلانات نشرت في الصحيفة، ويسدد كذلك زبناء للشركة المغربية ديونهم للشركة. وجدت أنه من الأفضل لي ولكرامتي المهنية التوقيع على ما يقترحونه. لقد أخذتني العزة بالنفس، رغم أنني سأكتشف لاحقا أن حجز مستحقاتي يتنافى مع القوانين الجاري بها العمل في المغرب، وهو ما سيشكل نقطة خلاف مستقبلية. وماذا جرى أيضا مع الشيباني في هذا اللقاء؟ - كان سي الشيباني يسألني بين الفينة والأخرى عن رأيي في هذه الفقرة أو تلك من وثيقة التسوية النهائية، وكان جوابي الذي تكرر بأني موافق على كل ما تقترحونه. بعد ذلك طلب مني كتابة استقالتي بالأسلوب الذي أراه. وبالفعل كتبت استقالة مقتضبة جدا، أقول فيها «إنني أقدم استقالتي من المؤسسة ابتداء من السابع من أبريل عام 1996». وبعدئذ اقترحت عليه أن أنقل فورا جميع أوراقي وملفاتي من المكتب إلى شقتي في زنقة آسفي في حي «بلاس بتري» بالرباط. اتصلت بزوجتي وقلت لها باقتضاب إنه طلب مني تقديم استقالتي، وطلبت منها ألا ينزعجوا لأن ملفاتي وأوراقي ستنقل تباعا من المكتب إلى الشقة. شرع إداريون في نقل أشيائي إلى منزلي وهم يتهامسون عن سبب هذا الإجراء، لكن لعلهم أدركوا بالحدس أن علاقتي بالصحيفة انتهت. اقترح علي الشيباني أن نجتمع في اليوم التالي مع المحررين لإبلاغهم بانتهاء علاقتي الوظيفية مع الشركة، على أن نقول لهم «إنني قدمت استقالتي وتمكست بها». من الواضح أنه كان يريد إخراجا هادئا لقرار الاستغناء عني، وهو أمر مفهوم، لكني أبلغته بأني سأقول الحقيقة للمحررين، فحاول إقناعي بالصيغة التي اقترحها، لكني تشبثت برأيي، وقبل أن تكتمل عملية نقل ملفاتي وأوراقي استأذنته في الانصراف. كانت الساعة آنذاك في حدود السادسة والنصف مساء، ولم أكن قد تناولت بعد وجبة الغداء. كانوا قد أحضروا لنا بعض الساندويتشات، لكني لم أقترب منها. عدت أدراجي إلى شقتي، وأبلغت بعض زملائي بالهاتف بما جرى وألححت عليهم حضور اجتماع الصباح. وماذا وقع بعد ذلك؟ - قبل أن أغادر مكتب الصحيفة في شارع أبو فارس المريني في وسط الرباط. اتفقت مع سي الشيباني أن يكون الاجتماع مع المحررين في حدود العاشرة صباحا، على أن أحضر إلى المكتب في حدود التاسعة صباحا لكي ننهي سويا بعض الأمور العالقة. وماذا جرى في صباح اليوم الموالي؟ - جئت في الصباح، وجلست في مكتب الكاتبة، فقد كانت تتم عملية تنظيف المكتب، الذي شغلته طوال سنوات، استعدادا لمن سيخلفني في موقعي كمسؤول للتحرير. وحين حضر الشيباني أصر على أن نجلس في مكتبي السابق. وبعد تسوية الأمور العالقة، طلب مني مجددا أن تكون الصيغة التي تبلغ للمحررين، هي الصيغة التي اقترحها علي، أي أنني قدمت استقالتي وأن الشركة طلبت مني عدم الاستقالة، لكني تمسكت بها، فكان ردي حاسما: «على أي حال، سأبلغ زملائي بالصيغة التي أراها». وماذا جرى في الاجتماع مع المحررين؟ - عندما دخلت قاعة التحرير وجدت جميع الزملاء في حالة وجوم. بدأ الشيباني يتحدث عن الخدمات التي أسديتها للصحيفة ولسائر المطبوعات وللشركة، ونوه بي تنويها حارا وشكرني كثيرا، وقال إنني قدمت استقالتي وألححت عليها فقبلتها الشركة، وتمت تسوية جميع مستحقاتي بالتراضي. بعد ذلك تناولت الكلمة وقلت إنني سأغادر موقعي بعد دقائق وأنا مرفوع الرأس، فقد كان مكتب المغرب الذي أسسته من أنجح مكاتب الصحيفة، بفضل الجهود التي بذلها الجميع، وتمنيت لهم التوفيق والاستمرار على الوتيرة نفسها. وبعد ذلك قلت لهم إنه طلب مني الاستقالة لأن هناك سياسة جديدة في الشركة بالنسبة للمواقع الأساسية. ثم ختمت كلمتي بالآية القرآنية «والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر». هل تناول الكلمة في هذا اللقاء بعض الزملاء من الصحافيين؟ - كان الوحيد الذي تحدث من المحررين هو علي أنوزلا، وكان متأثرا للغاية، وقال إن بصماتي ستظل موجودة في مكتب المغرب، وأثنى ثناء حارا على ما قمت به، في حين التزم الآخرون الصمت. وهكذا انتهى اجتماعي الأخير مع زملائي المحررين وودعتهم واحدا واحدا، في ظل أجواء حزينة، وكان الألم يعتصرني اعتصارا، ثم دلفت إلى بقية المكاتب الأخرى التي يوجد بها الإداريون والكاتبات وودعت الجميع. رافقني سي الشيباني إلى باب البناية التي توجد بها مكاتب الصحيفة، وسألني سؤالا عابرا عن بطاقة الصحافة التي تسلمها وزارة الإعلام للصحافيين، وما إذا كان الأمر يتطلب إعادتها إلى الوزارة. فهمت مغزى السؤال، لكني لم أجب. وعند باب البناية، تحدث معي حديثا طيبا وودودا، وأكد ضرورة استمرار الاتصال بيننا، وقال لي «إنه مستعد لتقديم أي مساعدة أطلبها، وأنه قد يطلب استشارتي إذا اقتضى الأمر ذلك». ودعته واتجهت نحو شقتي راجلا. وجدت أبنائي في حالة وجوم شديد: الحيرة تمزق قلوبهم الصغيرة، ونظراتهم زائغة. عانقوني بحرارة وقالت لي ابنتي سلمى وهي تبكي: «يا بابا لا عليك». وسألني ابني امرؤ القيس، وكان وقتها في السادسة من العمر، «هل صحيح أنك ستبقى معنا دائما؟». زلزل ذلك السؤال كياني، وشعرت بأنني بحاجة إلى بكاء ممض، لكني تمالكت نفسي وكبحت مشاعري وقلت له: «نعم سأبقى معكم. هل لديكم مانع؟».