الحلقة السادسة والعشرون : عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه. من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدارالبيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات. اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدارالبيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل. في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل. طلحة جبريل (صحافي سوداني مقيم في المغرب) [email protected] لنتكلم الآن عن علاقتك بإدريس البصري. كيف تعرف طلحة جبريل على أقوى وزير داخلية في تاريخ المغرب؟ - تعرفت على إدريس البصري عن قرب بعد حوالي أربع سنوات من بدء عملي مراسلا لصحيفة «الشرق الأوسط». كنت قد سمعت قبل ذلك بأن نفوذ إدريس البصري بدأ عام 1977 عندما كان يشغل منصب كاتب دولة في الداخلية في عهد محمد بنهيمة، وزير الدولة في الداخلية، وكان يتردد آنذاك أن المسلسل الانتخابي الذي انطلق عام 1976 كان كله من تدبير وصنع إدريس البصري. ونسب إلى بنهيمة قوله: «الانتخابات أنجزها هذا الشاب». كنت قد بدأت مسيرتي الصحافية في «العلم» عام 1978، ولم يكن متاحا لي الانتقال إلى دائرة العلاقات مع أصحاب القرار والتعرف على شخصيات لها نفوذ مثل إدريس البصري. كنت مجرد محرر مبتدئ في صحيفة يصدرها حزب اتسمت علاقاته مع البصري ووزارة الداخلية بالتأرجح صعودا وهبوطا. لكن حينما بدأت أعمل مع «الشرق الأوسط» منذ عام 1980 بدأت أحضر اللقاءات الصحافية، التي كان يعقدها إدريس البصري في وزارة الداخلية، لكن كنت مثلي مثل آخرين مجرد مراسل يحضر ندوات صحافية لمسؤول حكومي. بيد أن اسمي راح يتردد في بعض الدوائر، عندما غطيت أحداث يونيو 1981، ثم محاكمة عبد الرحيم بوعبيد الشهيرة، التي جرت في المحكمة الابتدائية في الرباط في سبتمبر من تلك السنة. حاولت إنجاز تغطية محايدة ومهنية للحدثين، وأتذكر أن البصري كان قد عقد لقاء بعد أحداث يونيو، قال فيه «إنه لم يكن هناك ضحايا وأن كل ما قيل حول تلك الأحداث ليس صحيحا». أتذكر أنه بعد انتهاء اللقاء الصحافي، وكان من عادته أن يصافح جميع الذين يحضرون لقاءاته الصحافية، قال لي جملة مقتضبة: «عندما تريد نشر أمر حول الأمن عليك أن تتصل بي». كانت تلك مجرد إشارة تنبيه لأن الاتصال مع البصري في ذلك الوقت دونه النجوم. أول مرة سأصبح محط اهتمام، كانت عندما نشرت خبر قرار قيادة حزب الاستقلال في يونيو 1983 بالانسحاب من الحكومة، كما سبق أن أشرت إلى ذلك. أذكر أن صديق المسكاني، وكان وقتها رئيس مصلحة الصحافة في وزارة الداخلية، وسيصبح بعد ذلك عضوا في ديوان البصري، استفسرني، لكن بطريقة ودية، عن مصدر ذلك الخبر. ويمكن القول إن الداخلية بدأت تهتم بالأخبار والتقارير الإخبارية انطلاقا من تلك الفترة، وأصبحوا يحرصون على دعوتي إلى أي لقاء يعقده البصري، لكني لم أكن قد تعرفت عليه بعد عن قرب. ذلك سيحدث بعد أن أجريت أول حوار مع الملك الحسن الثاني في يناير 1985. لنتوقف قليلا عند أحداث يونيو ومحاكمة عبد الرحيم بوعبيد؟ - ربما أكثر ما أثار استغراب وزارة الداخلية الجرأة التي غطت بها «الشرق الأوسط» تلك الأحداث، سواء اضطرابات يونيو أو محاكمة عبد الرحيم بوعبيد. كانت وزارة الداخلية تقول إنه لا يوجد قتلى وجرحى، لكن استنادا إلى مصادر نقابية كتبت أن هناك قتلى وجرحى. كتبت ما اعتقدت أنها رواية إخبارية متوازنة. لم أقل إن هناك مجزرة حدثت، كما كانت تقول المعارضة، لكن أيضا لم أكتب بعدم صحة وجود قتلى وجرحى، كما كانت تقول مصادر وبيانات وزارة الداخلية. هل كنتم تجدون كصحافيين سهولة في تغطية الأحداث التي كانت تقع في ذلك الوقت؟ - من عاش خلال تلك الفترة وعمل في الصحافة، وقارن بينها وما يحدث الآن، وإذا كان موضوعيا لابد أن يقول بكل نزاهة إن المغرب عرف تحولات جذرية. في ذلك الوقت لم تكن هناك سوى بيانات وزارة الداخلية، التي تبث عبر وكالة المغرب العربي للأنباء أو تذاع عبر الإذاعة والتلفزة. كان من الصعب، بل مستحيلا، أن تصل إلى مصدر رسمي ليدلي بأي إفادة. كانت وزارة الداخلية هي التي تصل إلى الصحفيين في الوقت الذي تريد، وتنقل لهم ما تعتقد أن عليهم كتابته. كل من يقول عكس ذلك بالتأكيد إما أنه لم يعش تلك المرحلة، أو أنه كان هناك ويريد الآن أن يختلق. كنا نعتمد بالدرجة الأولى على البلاغات التي ترسلها وزارة الداخلية إلى وكالة المغرب العربي والإذاعة والتلفزة. عدا ذلك لم يكن أحد يجرؤ على الحديث. وفي هذا السياق، أتذكر جيدا أن عبد الواحد بلقزيز، الذي أصبح وزيرا للإعلام في مارس 1979 وطوال فترة شغله هذا المنصب، لم يدل سوى بتصريح يتيم، وكان تصريحا مقتضبا من سطر واحد، ينفي فيه زيارة قام بها شيمون بيريز إلى مراكش. تركز اهتمام بلقزيز على افتتاحية صحيفة «الأنباء» التي كانت تصدرها وزارة الإعلام، والحرص على إذاعة تلك الافتتاحية. كان ذلك الوزير يسخر أمام مساعديه من الصحافيين الذين يتصلون به بحثا عن معلومة. ومتى تحدث إليك إدريس البصري بكيفية مباشرة؟ - كان ذلك بعد لقاء تم في وزارة الداخلية حول حملة لمكافحة المخدرات، لم أعد أذكر التاريخ، لكن المرجح أن الواقعة كانت في بداية الثمانينيات. تلك الحملة تمت في إطار محدود، ولم تكن في حجم الحملة التي انطلقت في يناير 1996. ماذا قال لك في ذلك اللقاء؟ - المؤكد أن اللقاء كان موجها للمراسلين الأوربيين، وتمت دعوتي أنا والزميل سمير شحاتة مراسل «وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية» رحمه الله، حتى يقال «إن مراسلين عربا حضروا اللقاء». وما هو الانطباع الذي خرجت به من هذا اللقاء المباشر مع إدريس البصري؟ - في ذلك اللقاء لاحظت أمرين، أن علاقة البصري باللغة العربية سيئة جدا. كان في معظم الوقت يستعمل الفرنسية، وعندما يتحدث معي أنا والزميل سمير شحاتة يستعمل اللهجة العامية، وهي لهجة عامية من «قاع الشاوية». أتذكر أنه التفت نحوي في ختام اللقاء وقال: «هل فهمت؟» قلت له: «القليل»، وعقب قائلا: «طيب عبد السلام الزيادي سيشرح ويلخص لكما ما قيل». كان الزيادي رحمه الله يعتبر إحدى الشخصيات القوية في وزارة الداخلية. وفعلا وقفنا قليلا مع عبد السلام الزيادي بعد انتهاء الندوة الصحافية، لكنه قال لنا كلاما فضفاضاً. كيف كان الصحافيون يتصلون بإدريس البصري في ذلك الوقت؟ - بالطبع لم تكن هناك هواتف محمولة (موبايل). وبالمناسبة، خلال سنوات من العلاقة مع إدريس البصري لم أعرف قط رقم هاتفه المحمول. كان يقال للصحافيين إذا أردتم الاتصال بالوزير عليكم الاتصال ب«المكتب 16». كان رقم ذلك المكتب في تلك الفترة يتكون من خمسة أرقام، لكني لم أستعمله قط، لأن الوصول عبر ذلك المكتب إلى أي مسؤول في الداخلية شبه مستحيل، وبالأحرى إدريس البصري. ظلت العلاقة فيها نوع من التباعد. كنت أحضر اللقاءات الصحافية وأسأل، لكن لم تكن هناك علاقة مباشرة إلى أن أجريت أول حوار مع الملك الحسن الثاني. بعد ذلك سيتغير الوضع. تقصد القول أنك تعرفت على الملك الحسن الثاني قبل أن تتعرف على إدريس البصري؟ - نعم، وهذه حقيقة لا تحتاج إلى تأكيد. وإذا كان المقصود المعرفة الشخصية، فأعتقد أن إدريس البصري كان يريد أن يعرف كيف استطعنا أن نصل إلى الملك الحسن الثاني، والواقع نحن لم نصل إلى الملك، بل الحسن الثاني هو الذي أراد إجراء حوار مع «الشرق الأوسط»، فاتصل بنا المستشار أحمد بنسودة مباشرة . لكن متى توطدت علاقتك بالبصري؟ -في نوفمبر 1985، أضاف البصري إلى وزارة الداخلية وزارة الإعلام، وأتذكر أنه بعد تعيينه وزيرا للإعلام التقى بالمراسلين في مبنى وزارة الإعلام القديم في شارع محمد الخامس في الرباط، وقال «إن تغييرا كبيرا سيتم في قطاع الإعلام»، وقال أيضا إنه يتوقع تعاون الجميع معه، مشيرا إلى أن المغرب سيعرف عهدا من الشفافية. بدا لي وقتها أن ما يقال غير منطقي. إذ كيف ستكون هناك شفافية والإعلام أصبح جزءا من الداخلية. أتذكر في ذلك اللقاء أن أحد المراسلين العرب اشتكى أن التلفزة المغربية تقدم أهم موادها بالفرنسية، وكان جواب البصري «اطمئن غدا أو بعد غد ستكون هناك ترجمة لكل المواد». وقتها شعرت بأنه يتهكم. بعد أن انتهى هذا اللقاء سيجري معي إدريس البصري أول نقاش مطول نسبيا. سألني: «لماذا لم تسأل؟» فقلت له: «ليس في ذهني سؤال محدد»، وزدت «هل كنت تتوقع مني سؤالكم حول ترجمة مواد التلفزة؟». وكان جوابه بأن «الأمور كلها ستتغير». لا أقول إن العلاقة توطدت عقب ذلك اللقاء، لكن أصبحت هناك علاقة مباشرة. هل حدث أن زودك إدريس البصري بخبر خاص؟ - لم يكن البصري يخص صحافيا بعينه بأي خبر، لكنه كان يختار فعلا مجموعة صحافيين لينقل لهم خبرا خاصا. لذلك لا أستطيع الادعاء مطلقا بأنه زودني بخبر خاص. وفي هذا الصدد، سأروي لك واقعة موثقة. في 18 ماي 1988 نشرت تقريرا حول العلاقات المغربية الجزائرية، يشير إلى قرار البلدين فتح الحدود وتبادل السفراء بينهما، وكان وفداً يتكون من أحمد رضا اكديرة، مستشار الملك الحسن الثاني، وإدريس البصري، وزير الداخلية والإعلام، زار الجزائر في 15 ماي 1988، وقد استقبل الوفد آنذاك من طرف الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، وصدر بيان بعد تلك الزيارة يعلن تطبيع العلاقات بين البلدين وفتح الحدود. وبعد عودة الوفد المغربي إلى الرباط، اتصل بي إدريس البصري وأبلغني أن تبادل السفراء سيتم خلال أيام، وأن اسم السفير المغربي سيعلن في وقت قريب، كان ذلك السفير هو الدكتور عبد اللطيف بربيش، الطبيب الخاص للملك الحسن الثاني آنذاك، وأمين سر الأكاديمية الملكية المغربية. أتذكر أني نشرت التقرير الإخباري واستعملت تعبير «أبلغ إدريس البصري الشرق الأوسط»، لكن البصري الذي كان تحدث هاتفياً مع مجموعة محدودة من الصحافيين، من بينهم الزميل محمد السلهامي، انزعج جدا لأني وثقت الخبر بالإشارة إلى اسمه، واتصل عندما قرأ الخبر، وقال لي غاضبا: «لم أطلب منك أن تكتب اسمي، وكان يكفي أن تكتب مصدر مغربي»، فقلت له إن ذلك كان سيضعف الخبر، لكنه لم يقبل بذلك التبرير، وقال لي بالحرف: «أنا لا أصرح. متى سمعتني صرحت». كانت تلك طرائق إدريس البصري. يريدك نشر الخبر الذي يروقه بشرط ألا تنسبه إليه. ألم يحدث أن انزعج إدريس البصري من خبر نشرته؟ - هناك خبر أثار لي بعض المتاعب، لكن في الوقت نفسه جعل العلاقة مع إدريس البصري تدخل طورا جديدا. في عام 1985 عرف المغرب أزمة خبز، وكانت قبل ذلك وقعت أحداث عنف بالغة الضراوة في تونس في يناير عام 1984 بسبب أزمة خبز كادت تطيح بنظام الرئيس الحبيب بورقيبة، وخشيت السلطات المغربية أن يتكرر في المغرب ما حدث في تونس وأن تنزلق الأزمة نحو أحداث عنف. كتبت خبرا في «الشرق الأوسط» حول وجود «أزمة خبز في المغرب». استدعيت في اليوم الذي نشر فيه الخبر إلى وزارة الداخلية. جرت العادة أن يتصل شخص من قسم الهاتف في الوزارة (الستاندر)، ويسأل بنبرة خشنة جدا، وبدون أن يلقي عليك حتى التحية: «هل هذا فلان؟. ثم بعد ذلك يبلغك رسالة مقتضبة: «عليك الحضور إلى مقر الوزارة». صوت رجل؟ - طبعا رجل، لم تكن هناك إلا أصوات رجالية. الأصوات النسائية كانت نادرة جدا في ذلك الزمان، كان المتصل لا يعرفك بهويته، ولا يقدم لك أية إيضاحات، فقط الجملة التي أشرت اليها. أتذكر أن ذلك الصوت سألني بنبرة قوية وبصوت مرتفع: «هل هذا طلحة جبريل؟» قلت له: «نعم». قال: «مطلوب حضوركم إلى ديوان السيد الوزير». ذهبت إلى هناك، وجرت العادة في وزارة الداخلية، ولا أعرف إذا كان ذلك مقصودا أو غير مقصود، أن تنتظر ساعة أو ساعتين أو حتى ثلاث ساعات، كأنك داخل مفوضية للشرطة، والمدة الزمنية تطول أو تقصر حسب أسباب استدعائك، فإذا كانت بغرض مساءلتك عن شيء لم يعجبهم تطول فترة الانتظار، أما إذا كان الغرض تزويدك بخبر أو معلومة، فإن الأمر لا يتأخر كثيراً. وكم دام انتظارك أنت في هذه القضية؟ - انتظرت زهاء ساعة. ووجدت أيضا الزميلة فريدة موحا، مراسلة إذاعة «فرانس أنترناسونال» بمقر الوزارة. جاء عندنا حفيظ بنهاشم، وكانت صفته وقتها «العامل الملحق في وزارة الداخلية». تحدث بنهاشم مع فريدة بالفرنسية حديثا لم أفهمه، ثم التفت نحوي وقال بلهجة حادة: «هل يوجد خبز في بلادكم؟ حتى تقول إنه لا يوجد خبز في المغرب»؟ كانت الإشارة إلى أني سوداني، والسودان يمر وقتها بظروف صعبة. في تلك اللحظة امتلكتني حالة غضب عارمة، لكن لم أنبس بكلمة واحدة. التزمت الصمت ولم أعقب على تلك الإهانة. واستطرد بنهاشم قائلا: «لا توجد أزمة ولا شيء من هذا القبيل، فقط هناك بعض المطاحن لم يصلها الدقيق. أنت جعلت منها أزمة ونشرت أن هناك أزمة خبز في الصفحة الأولى». لم أعلق على ذلك الحديث. وبعد ذلك طلب مني الدخول إلى مكتب إدريس البصري. وجدت مع البصري مدير ديوانه آنذاك عثمان بوعبيد. كانت نسخة من «الشرق الأوسط» فوق مكتبه، سلمها لبوعبيد وقال له: «اقرأ الخبر»، وراح بوعبيد يقرأ ما كتبت. سألني البصري: «ما هذا الذي كتبت؟»، فقلت له: «يا معالي الوزير قبل أن أرد على سؤالكم، أود القول إن بلدي هو أغنى بلد من الناحية الفلاحية في العالم العربي والعالم الثالث، وأن المنظمة العالمية للأغذية والزراعة (فاو) اختارته ليكون سلة غذاء العالم، ونحن لدينا إمكانيات أن نزرع من القمح ما يكفي العالم، وأنا سمعت بأن الخبز لا يوجد في بلدي، وأنا في كل الأحوال لا أسمح بالإساءة إلى وطني بغض النظر عن هذا الخبر أو ذاك، وأعتقد أنك أيضا لا تسمح لأحد بإهانة المغرب، بل حتى أنا الذي لا أحمل جنسية المغرب لا أسمح لأحد بإهانته». قلت هذا الكلام في وجه إدريس البصري أقوى وزير داخلية في تاريخ المغرب؟ - نعم، بل قلته بانفعال واضح، وكنت مستعدا لأقول أكثر. كان ذلك أول لقاء بمعنى «لقاء» مع إدريس البصري. وماذا كان رده؟ - لاحظت أن البصري لم يحتد، وحاول تلطيف الأجواء، وقال: «هذا خبر يمس بأمن البلاد»، وزاد «هناك مشكلة بسيطة جدا بشأن الدقيق ولا توجد أزمة». وعقبت قائلا «إن الخبر الذي كتبته صحيح ولدي ما يؤكد ذلك». هنا استشاط غضبا وقال: «هل لديك معلومات أكثر من وزير الداخلية؟ ماهي هذه المعلومات؟». قلت له: «يا معالي الوزير، أكيد أنكم تعرفون بأني أسكن في العمارة رقم 16 في زنقة آسفي في حي «بلاس بيتري» في الرباط قرب الإذاعة، وهذه الزنقة على وجه التحديد هي التي توجد فيها «مخبزة الجوهرة»، وكانت أكبر وأهم وأشهر مخبزة موجودة في الرباط في ذلك الوقت. هذه المخبزة هي الوحيدة التي كانت تعمل 24 ساعة»، وأضفت «أن شرفة شقتي تطل مباشرة على الزنقة، وشاهدت بعيني طابور الناس ينتظرون الخبز من بعد الظهر إلى منتصف الليل. هذا المشهد كان تحت شرفة شقتي، وعرفت أن هناك أزمة خبز، وبناء على ذلك كتبت الخبر». فعقب البصري قائلا: «على أي حال، هذه مشكلة بسيطة وسيكون هناك لقاء بعد قليل مع الصحافيين وستسمع الحقيقة». وفعلا خرجت إلى قاعة جانبية اعتاد أن يعقد فيها إدريس البصري لقاءاته الصحافية. كان هناك عدد كبير من الصحافيين في انتظار الوزير. خروجي مباشرة من مكتب إدريس البصري إلى القاعة جعل بعض الصحافيين يتهامسون. بعد تلك الندوة راجت تكهنات بأني كنت في مكتب الوزير، والمؤكد أنه زودني بأخبار ومعلومات خاصة. وظل هذا الأمر يتكرر في عدة مناسبات. لكن راج بقوة أن علاقتك بإدريس البصري، وقتها، لم تكن علاقة صحافي برجل دولة، وإنما كانت تتعدى هذا الأمر، بل هناك من قال «إن طلحة جبريل كان يشتغل وفق أجندة البصري». ما هو ردك؟ أنا أيضا سمعت مثل هذه الأقاويل التي روجها البعض بسوء نية وروجها آخرون بحسد مهني لا أقل ولا أكثر، لكن حقيقة علاقتي بإدريس البصري هي غير ذلك على الإطلاق، ولم تتجاوز حدود عملي الصحافي. كثير من الناس لا يعرفون مفارقة عجيبة لازمت كل لقاءاتي بإدريس البصري، تلك اللقاءات الخاصة كانت دائما تتعلق بتوبيخ أو انتقاد لأخبار كتبتها، ولم أكن مضطرا وقتها أن أشرح للناس حقيقة ما يجري في تلك اللقاءات، وظني الدائم أن الروايات تصحح نفسها في نهاية الأمر. لذلك سأتطرق إلى بعضها وما دار فيها، فقط من أجل أن ندرك حقائق الأشياء. لنرجع إلى الندوة الصحافية التي نظمها إدريس البصري حول «أزمة الخبز في المغرب»... - في هذا السياق، أتذكر أن مسؤولا من المكتب الوطني للحبوب والقطاني كان يوجد إلى جانب إدريس البصري عندما بدأت هذه الندوة الصحافية، وطلب منه البصري أن يتحدث، وراح ذلك المسؤول يسرد علينا أرقاما بلا حصر حول كميات الدقيق التي تم تزويد المطاحن بها. قدم المسؤول معطيات وإحصائيات حول توفر الدقيق في جميع المدن المغربية والمطاحن. بعد ذلك سيقول البصري إن بعض المطاحن كانت تبيع الدقيق في السوق الأسود لأنه يجلب لها أرباحا أفضل من الخبز، وأشياء من هذه القبيل، ثم قال بطريقته المألوفة: «هل تيقنتم بأنه لا توجد مشكلة»، وأجاب على السؤال الذي طرحه «بالطبع لا توجد مشكلة، وعليكم أن تكتبوا بأن الخبز متوفر في المملكة السعيدة». ثم التفت نحوي وسألني «يا سي طلحة هل لديك سؤال؟» فأجبت: «لا». كنت ما زلت منقبضا ومستاء. ذلك الموقف عزز اعتقاد الصحفيين بأن هناك علاقة خاصة مع الوزير، وإلا لماذا طلب مني على وجه التحديد أن أسأله. لم يكن أحد يعرف بأني «وُضعت فوق مشواة» كما يقول المثل الأمريكي. ذلك الخبر خلق لي علاقة مباشرة مع إدريس البصري، لكن دعني أقول، والرجل في ذمة الله، من ذلك الوقت بدأ يكن لي احتراما. شخصيا، شعرت بهذا الاحترام، وهو لم يتحدث عن علاقتي به إلا في مناسبتين، خلال لقاء مع صحافيين عرب في لندن عام 1989، والمرة الثانية في منزله ببوزنيقة في سبتمبر عام 2002 ، وسأتطرق إلى الواقعتين بالتفصيل. وكان يطلب مني في ندواته الصحفية في كثير من الأحيان طرح أسئلة. كان يردد باستمرار «mon ami talha» (صديقي طلحة). هذا الأمر كان يتم أمام الصحافيين، ومنهم من راح يقول، بعد إقالة إدريس البصري وانطفاء الأضواء حوله وانتقاله من ضوء النهار إلى عتمة الليل، «إنه لم تكن له علاقة قط بالبصري». أنا لا أقول ذلك أبدا. كانت لي علاقة به، لكن ما قلته وأقوله دائما، كانت علاقة صحافي بمسؤول حكومي واسع النفوذ. لا أنكر ذلك مطلقا، لكن لم أتلق منه شيئا ولا كنت سأقبل بذلك، ولم يكن ممكنا أن يقدم لي منصبا، لسبب بسيط هو أني لست مغربيا.