اشتهر الموساد بعملياته الاستخباراتية عبر العالم، خاصة ضد العرب والناشطين الفلسطينيين، إلى حد أن البعض جعل منه أسطورة الجهاز الذي لا يُقهر، والحال أن العمليات التي يقوم بها الجهاز بدعوى «مكافحة الإرهاب وتعقب الإرهابيين» تشكل في الحقيقة نوعا من الإرهاب الدولي المكشوف. آخر فضيحة في هذا الاتجاه هي فضيحة انكشاف جريمة اغتيال القيادي في حماس، محمود المبحوح، بدبي، على يد كومندو من الموساد، وقبلها كانت عمليات استهدفت أبو جهاد، ومقاتلي «أيلول الأسود» والنازيين الفارين إلى أمريكا الجنوبية، والمفاعل النووي العراقي واختطاف طائرة حربية عراقية... الحلقات التي ننشرها عن عمليات الموساد في هذا الركن، ليست تمجيدا للجهاز ولا تزكية لعملياته الإرهابية بقدر ما هي استجلاء لعالم الاستخبارات الغريب، الذي تغيب فيه الأخلاق وتتقوى فيه المصالح. الحلقات مقتبسة من كتاب «التاريخ السري للموساد- من 1951 إلى اليوم-» لمؤلفه غوردن توماس. إلا أن توماس لم يكن محايدا في تحريره ل «تاريخ» الموساد، بل يشعر القارئ بأنه يميل إلى تبني الأطروحة الإسرائيلية حول «الفلسطينيين أو العرب الإرهابيين» لأن الكثير من التفاصيل استقاها من مصادر إسرائيلية ومن أشخاص تلوثت أيديهم بدم من اغتالهم الموساد ذات زمن. ظلت منظمة التحرير الفلسطينية العدو الأول لإسرائيل، التي سعت دائما إلى استغلال فرص التخلص من زعمائها وإفساد علاقاتها مع البلدان المتعاطفة معها. ففي الثمانينيات، نجحت المنظمة في تحقيق تقارب إيجابي مع حكومة مارغريت تاتشر، وهو ما لم يرق إسرائيل. فوعد مدير الموساد ناحوم أدموني بأن ينجح حيث فشل سابقوه من خلال وضع حد للعلاقات المتميزة بين المنظمة وبريطانيا والتخلص، في الوقت نفسه، من زعيم القوة 17، الضاربة داخل المنظمة. لأجل ذلك سيسخر الموساد شابا عربيا فلسطينيا، الذي كبر على الصلاة والأمل في أن يتمكن من قتل ما أمكن من اليهود. في سنة 1977، وبينما كان إسماعيل صوان مراهقا يعيش في قرية صغيرة في الضفة، حقق معه ضابط في المخابرات العسكرية الإسرائيلية في إطار بحث روتيني أجراه الجيش الإسرائيلي. كبقية الفلسطينيين، كبر الشاب على حب الوطن واسترداد الأرض إلى غاية اليوم الذي شهد فيه عملية فلسطينية ضد حافلة كانت تقل يهودا نحو القدس، فرأى نساء وأطفالا يُقتلون أمام عينيه. في المساء لم تغمض له عين لأنه بات يفكر في العملية وفي أسباب الصراع الدموي الفلسطيني- الإسرائيلي وإمكانية العيش المشترك في سلام على أرض واحدة. كان عمره لم يتجاوز الخامسة عشرة. خلال لقائه مع الضابط الإسرائيلي، كشف الشاب عن مشاعره العميقة، فيما ظل الضابط ينصت إليه باهتمام ويطرح عليه بين الفينة والأخرى الأسئلة بكثير من الإصرار. فطن الضابط إلى أن الشاب الفلسطيني لم يكن مثل الآخرين وأنه لا ينظر إلى الإجراءات الأمنية الإسرائيلية المشددة بعين الغضب، بل بدا أنه يتفهم الأسباب التي تجعل إسرائيل تتصرف على ذلك النحو. كان طبيعيا أن يحال ملف الشاب صوان على مصالح التحليل في المخابرات العسكرية قبل أن يتخذ طريقه ببطء نحو مكتب أحد الضباط في الموساد، الذي ألقى عليه نظرة ثم عهد به لمكتب الاستقطاب. بعد ذلك، دُعي صوان إلى تل أبيب بدعوى الحديث عن مستقبله الدراسي لأنه كان قدم طلبا للدراسة في جامعة القدس. دام اللقاء مع ضابط الموساد الذي استقبله حوالي نصف النهار كله تأكد خلاله الأخير من المعلومات التي بين يديه وكل ما يتعلق بظروفه الحياتية ومساره التعليمي وقناعاته... وانتهى اللقاء بعرض من الموساد يقضي بتمويل الأخير لدراسته الجامعية شرط أن يخضع لتدريب خاص في مدرسة الموساد. قبل ذلك خضع صوان لسلسلة من التحقيقات الإضافية في أماكن مختلفة قبل أن يُبعث إلى مركز التكوين، في ضواحي تل أبيب. خلال التكوين أبدى الفلسطيني الشاب حماسا كبيرا واجتهادا في عدد من المواد، كما أن تعليقه على دور منظمة التحرير الفلسطينية اعتبره الإسرائيليون مهما بما يكفي لكي يعرض على أنظار المدير العام للموساد إسحاق هوفي. بعد نهاية التكون، أصبح إسماعيل صوان مكلفا بمهمة نقل الرسائل بين المقر العام ومختلف السفارات الإسرائيلية، فبدأت أسفاره تتعدد بين أثينا ومدريد وروما حيث كُلف بنقل وتسليم وثائق سرية تحت غطاء دبلوماسي. وبين الفينة والأخرى، كانت أسفاره تقوده إلى باريس وبون ولندن. ومقابل خدماته كان يتلقى 500 دولار في الشهر. لكن ما كان يجهله صوان هو أن الوثائق التي كانت تُعهد له لنقلها من مكان إلى آخر لم تكن وثائق سرية حقيقية، بل كانت وثائق عادية الغرض منها وضعه تحت التجربة ليس إلا. وفي كل مهمة، كان صوان يخضع للمراقبة اللصيقة من قبل عميل حديث التخرج يتدرب على تقنيات الملاحقة والمراقبة الجاسوسية. أما الأشخاص الذين كان يلتقيهم في إطار مهمته «الدبلوماسية»، فلم يكونوا دبلوماسيين حقيقيين، بل مجرد عملاء منتشرين في أمكنة متعددة من العالم. وبعد أن قضى بضعة أسابيع يؤثث وقته الفارغ بالتنقل بين عدد من العواصم الأوربية، تلقى الأمر بالذهاب إلى بيروت والتسلل إلى منظمة التحرير. كان صوان قد تلقى تدريبا في طرق التعامل مع أسئلة المحققين الفلسطينيين، لذلك لم يكن من الصعب عليه أن يلتحق بصفوف الفلسطينيين في المنظمة رغم نباهة وذكاء المسؤول عن عمليات الاستقطاب، قبل أن يُرسل إلى ليبيا ليخضع للتدريب العسكري والأدلجة. هناك أبدى استعدادا ذهنيا وبدنيا كبيرا للتكوين مع الحفاظ على هدوئه واتزانه لأنه يلعب لعبة مزدوجة خطيرة. في خلال ذلك، استطاع أن يلفت انتباه المدربين الفلسطينيين إليه. وعند انتهاء فترة التدريب، مُنح مكانا في مركز العمليات بالمنظمة. وشيئا فشيئا استطاع أن يتسلق المراتب إلى أن أصبح يلتقي كبار المسؤولين بالمنظمة بمن فيهم ياسرعرفات، كما أنه تمكن من زيارة المواقع التابعة لمنظمة التحرير في مختلف بلدان الشرق الأوسط ونجح في الحضور لجميع لقاءاته مع ضابط الموساد المسؤول عنه رغم ظروف الحرب التي كانت سائدة في بيروت. في سنة 1984، عندما أُبعد عرفات من لبنان نحو تونس، بعثت منظمة التحرير صوان إلى باريس لتعلم الفرنسية، فرأى مدير الموساد الجديد ناحوم أدموني، الذي خلف هوفي، في انتقال صوان إلى باريس فرصة مهمة للتسلل إلى داخل شبكة فلسطينيي منظمة التحرير الناشئة في أوربا، خاصة أن الكثير من العرب كانوا ينشطون في بعض أحياء باريس دون غيرها. بعد بضعة أيام، تعرف صوان على ضابط الاتصال الإسرائيلي الجديد بالعاصمة الفرنسية، والذي كان يقيم خارج السفارة الإسرائيلية، بالرقم 3، شارع رابلي، فيما اسمه الحركي كان هو «آدم».