اشتهر الموساد بعملياته الاستخباراتية عبر العالم، خاصة ضد العرب والناشطين الفلسطينيين، إلى حد أن البعض جعل منه أسطورة الجهاز الذي لا يُقهر، والحال أن العمليات التي يقوم بها الجهاز بدعوى «مكافحة الإرهاب وتعقب الإرهابيين» تشكل في الحقيقة نوعا من الإرهاب الدولي المكشوف. آخر فضيحة في هذا الاتجاه هي فضيحة انكشاف جريمة اغتيال القيادي في حماس، محمود المبحوح، بدبي، على يد كومندو من الموساد، وقبلها كانت عمليات استهدفت أبو جهاد، ومقاتلي «أيلول الأسود» والنازيين الفارين إلى أمريكا الجنوبية، والمفاعل النووي العراقي واختطاف طائرة حربية عراقية... الحلقات التي ننشرها عن عمليات الموساد في هذا الركن، ليست تمجيدا للجهاز ولا تزكية لعملياته الإرهابية بقدر ما هي استجلاء لعالم الاستخبارات الغريب، الذي تغيب فيه الأخلاق وتتقوى فيه المصالح. الحلقات مقتبسة من كتاب «التاريخ السري للموساد- من 1951 إلى اليوم-» لمؤلفه غوردن توماس. إلا أن توماس لم يكن محايدا في تحريره ل «تاريخ» الموساد، بل يشعر القارئ بأنه يميل إلى تبني الأطروحة الإسرائيلية حول «الفلسطينيين أو العرب الإرهابيين» لأن الكثير من التفاصيل استقاها من مصادر إسرائيلية ومن أشخاص تلوثت أيديهم بدم من اغتالهم الموساد ذات زمن. في 9 شتنبر، نفذت حماس ضربة أخرى أصيب فيها اثنان من الحراس الشخصيين للملحق الثقافي بسفارة إسرائيل التي فتحت مؤخرا في عمان بالأردن. بعد ثلاثة أيام من الحادث، اجتمع نتنياهو بمدير الموساد ياتوم فعاتبه على الهفوة التي جعلت رجال حماس يصلون إلى الملحق الثقافي وطلب منه أن يقتل خالد مشعل. شعر ياتوم بالضغط الكبير جراء الملاحقة التي ظل يمارسها عليه الوزير الأول طيلة 6 أسابيع فانفجر غاضبا في وجهه موضحا له أن أي عملية تنفذ في عمان من شأنها أن تقضي على العلاقات الجيدة مع الأردن التي عمل سلفه إسحاق رابين جاهدا على صيانتها مع الملك حسين. كما أن قتل مشعل على التراب الأردني سيعرض أنشطة الموساد للخطر في بلد تعبر منه معلومات مهمة حول سوريا والعراق والفلسطينيين، واقترح عليه التريث حتى يغادر مشعل الأردن. غير أن نتنياهو لم يتقبل تلك الأقوال التي اعتبرها مجرد أعذار واهية، مبررا إصراره بأن الشعب يريد أفعالا ملموسة. بعد ذلك، بدأ العملاء الإسرائيليون يجمعون معلومات حول مشعل بعمان ويرصدون تحركاته ويرسلون تقاريرهم إلى تل أبيب. كما استطاع ضابط الموساد في العاصمة الأردنية أن يلتقط صورة للقيادي في حماس، إلا أنه طلب من مدير الموساد أن يحاول ثانية إقناع نتنياهو بالعدول عن فكرة اغتيال مشعل في عمان لأن من شأن هذه العملية أن تنسف الجهود التي بذلت على مدى سنتين مع الأردنيين في مجال مكافحة التجسس بالتعاون مع المسؤولين المحليين. لكن نتنياهو رفض الاقتراح من جديد. في تلك الأثناء، كان الموساد يحضر في السر فريقا من 8 عملاء للقيام بالعملية. إثنان منهم كلفا باغتيال مشعل في واضحة النهار، فيما كلف الآخرون بتقديم الدعم اللوجستيكي اللازم، وإحضار سيارة للفرار. كان مقررا أن يعود الكومندو كله إلى إسرائيل عن طريق البر. أما أداة القتل فلم تكن اعتيادية. لا يتعلق الأمر بمسدس، بل بجهاز قاذف لغاز سام يؤثر على الأعصاب. كانت هي المرة الأولى التي يستعمل فيها عملاء الموساد هذا الجهاز الذي اعتاد العمل به عملاء ال «كا جي بي» السوفياتي ومصالح استخباراتية أخرى في بلدان المعسكر السوفياتي القديم. وقد استطاعت إسرائيل الحصول على هذه التقنية بفضل علماء روس هاجروا مؤخرا إليها وقدموا للموساد عددا من الغازات السامة القاتلة المحظورة بموجب الاتفاقيات الدولية. هذه المواد تسبب الموت السريع أو البطيء، وفي الحالتين معا يصاب الضحية بآلام قوية يتمنى معها الموت من أجل الخلاص. هذه هي النهاية التي بُرمجت لنشطاء حماس. في 24 شتنبر 1997 حل عملاء الموساد بعمان قادمين إليها من أثينا وروما وباريس حيث قضوا بضعة أيام للعبور. بعضهم كان يحمل جوازات سفر فرنسية وإيطالية، بينما القاتلان كانا يحملان جوازي سفر كنديين باسم باري بيدس وسين كيندال، اللذين صرحا لموظفي فندق أنتركونتينونتال بأنهما جاءا لغرض السياحة. الآخرون استقروا بالسفارة الإسرائيلية غير بعيد عن الفندق. في اليوم الموالي، التحق بهم بقية عناصر الكومندو حيث راجعوا جهاز القتل الذي لم يكن أحد يعرف أي غاز مخزن فيه. أما ضابط الاتصال للموساد المقيم بعمان فكان يمد الكومندو بتفاصيل تحركات مشعل الأخيرة. ضابط الاتصال هذا هو نفسه الذي كان يعمل في لندن سنة 1978 حين اغتيل عميل بلغاري، جيورغي ماركوف، انفصل عن ال «كا جي بي»، بواسطة غاز سام حقنه به شخص مجهول في الشارع بواسطة رأس مظلته. وقد مات العميل البلغاري بعد أن عانى كثيرا من الآلام دون أن تُعرف هوية القاتل. قبل منتصف الليل بقليل عاد العميلان بيدس وكيندل إلى الفندق. صباح اليوم الموالي، على الساعة التاسعة، تقدم بيدس إلى مصلحة الاستقبال وقع عقد كراء سيارة أولى، تويوتا زرقاء ثم ثانية، هيونداي خضراء، لزميله كيندل الذي صرح لأحد موظفي الاستقبال أنهما سيزوران جنوب البلاد. على الساعة العاشرة، توجه مشعل إلى مكتبه على سيارة يقودها سائقه. وفي الخلف، جلس أطفاله الثلاثة، ولد وبنتان، فيما تعقبه بيدس على سيارة تويوتا في الوقت الذي لم يكن بقية العناصر بعيدين عنه. عند دخول السيارة إلى حي الحدائق، أخبر السائق مشعل أنهما مراقبان، فالتقط مشعل في الحال هاتفه ليبلغ شرطة عمان بنوع السيارة التي تتعقبه ورقم لوحتها. إلا أن سيارة بيدس تجاوزت سيارة مشعل بينما حيا أطفاله السيارة كما اعتادوا أن يفعلوا مع السيارات الأخرى التي تمر جنب سيارة والدهم، وبعد وقت قصير تجاوزته سيارة هيونداي التي كان يسوقها العميل كيندل قبل أن تختفي السيارتان وسط زحام العاصمة الأردنية. بعد حين، اتصل ضابط من المفوضية المركزية لشرطة عمان بمشعل وأخبره بأن السيارة التي أدلى برقم لوحتها مكتراة من قبل سائح كندي، فاطمأن قلبه. لكن حوالي الساعة 10و30د دخلت سيارة مشعل شارع وصفي التل حيث كان كيندل وبيدس ينتظران وسط جمع من الناس أمام مكاتب حماس. لم يكن حضورهما غريبا في ذلك المكان، لأن السياح اعتادوا الوقوف أمام مقر المنظمة للتعرف عليها وعلى مطالبها... قبل مشعل أطفاله بسرعة قبل أن يترجل من السيارة بينما تقدم العميل بيدس نحو ليسلم عليه. في هذا الوقت، كان العميل كيندل، يمد يده إلى كيس بلاستيكي. سيد مشعل؟، قال بيدس بابتسامة. في تلك اللحظة، انتاب مشعل بعض الشك. في الوقت نفسه، أخرج كيندل القاذف وحاول رش الأذن اليسرى للقيادي في حماس، غير أن الأخير تراجع شيئا إلى الخلف رافعا يده نحو أذنه في رد فعل تلقائي. حاول كيندل مرة ثانية رش سمه نحو مشعل بينما كان المتحلقون في المكان يفيقون من دهشتهم ليحاولوا القبض على العميلين الإسرائيليين.