اشتهر الموساد بعملياته الاستخباراتية عبر العالم، خاصة ضد العرب والناشطين الفلسطينيين، إلى حد أن البعض جعل منه أسطورة الجهاز الذي لا يُقهر، والحال أن العمليات التي يقوم بها الجهاز بدعوى «مكافحة الإرهاب وتعقب الإرهابيين» تشكل في الحقيقة نوعا من الإرهاب الدولي المكشوف. آخر فضيحة في هذا الاتجاه هي فضيحة انكشاف جريمة اغتيال القيادي في حماس، محمود المبحوح، بدبي، على يد كومندو من الموساد، وقبلها كانت عمليات استهدفت أبو جهاد، ومقاتلي «أيلول الأسود» والنازيين الفارين إلى أمريكا الجنوبية، والمفاعل النووي العراقي واختطاف طائرة حربية عراقية... الحلقات التي ننشرها عن عمليات الموساد في هذا الركن، ليست تمجيدا للجهاز ولا تزكية لعملياته الإرهابية بقدر ما هي استجلاء لعالم الاستخبارات الغريب، الذي تغيب فيه الأخلاق وتتقوى فيه المصالح. الحلقات مقتبسة من كتاب «التاريخ السري للموساد- من 1951 إلى اليوم-» لمؤلفه غوردن توماس. إلا أن توماس لم يكن محايدا في تحريره ل «تاريخ» الموساد، بل يشعر القارئ بأنه يميل إلى تبني الأطروحة الإسرائيلية حول «الفلسطينيين أو العرب الإرهابيين» لأن الكثير من التفاصيل استقاها من مصادر إسرائيلية ومن أشخاص تلوثت أيديهم بدم من اغتالهم الموساد ذات زمن. في ذلك الوقت، عقد الزعماء اليهود لقاء تاريخيا في حيفا سنة 1942 شارك فيه دافيد بن غوريون وإسحاق رابين. اتفق المشاركون بسرعة على استقبال الناجين من المحارق النازية في فلسطين. لا أحد كان يعرف عددهم بدقة، لكن الزعماء كانوا يعرفون أن مجيئهم إلى فلسطين سيزيد من إذكاء نار الغضب بين عرب فلسطين. إلا أنه في هذه المرة، عارض البريطانيون القرار اليهودي. فقد أعلنت حكومتهم مرارا أنها ترفض استقبال اليهود الناجين في فلسطين بعد هزيمة هتلر، لأن إجراء مثل هذا من شأنه أن يتسبب في خلل ديمغرافي خطير. إلا أن بن غوريون ظل متشبثا بموقفه الذي أيده فيه بقية المشاركين في اللقاء. كان الزعيم اليهودي يطمح إلى تعزيز صفوف الهاغانا بمزيد من المخبرين والجواسيس، بل تم التفكير في إنشاء وحدة لمكافحة التجسس لكشف اليهود الذين يتعاونون مع البريطانيين و«اليهود الشيوعيين والمعارضين». تكلفت هذه الوحدة بإحصاء النساء اليهوديات اللائي يتعاملن مع الضباط البريطانيين، والتجار الذين يتعاملون معهم وأرباب الحانات التي تخدمهم. وفي عز الليل، كان «الخونة» يمثلون للمحاكمة العسكرية على يد أفراد الهاغانا، فكان المتورطون يتعرضون إما للضرب أو يعدمون جملة برصاصة في الرقبة. فكانت هذه الطريقة العقابية، إذن، مؤشرا على ما سيكون عليه جهاز الموساد مستقبلا. في العام 1945، تعززت الهاغانا بوحدة جديدة مكلفة بالتموين العسكري، فصارت المليشيا تستقبل السلاح الإيطالي والألماني المحجوز في شمال إفريقيا بعد هزيمة الزعيم النازي روميل. كانت العمليات تتم في سرية تامة على يد جنود يهود يعملون في وحدات الحلفاء بسيناء المصرية. كانت الأسلحة تصل إلى فلسطين على متن شاحنات أو على ظهور الجمال قبل أن تخبأ في حفر بالصحراء. بعد هزيمة اليابان في غشت 1945، عاد عدد من اليهود إلى فلسطين بعد أن اشتغلوا في مركزيات استخباراتية عسكرية تابعة للحلفاء، فنقلوا معهم تجربتهم ومعارفهم للهاغانا. هكذا اجتمعت جميع الشروط الضرورية لتحقيق حلم بن غوريون: «الحرب من أجل استقلالنا». أما الشرارة التي ستشعل هاته الحرب – بن غوريون كان يعرف هذا الأمر جيدا- فهي ما يسمى في العبرية بال«بريشا»، أي عملية استقدام اليهود الناجين من المحارق النازية إلى فلسطين. كانوا يصلون بعشرات الآلاف. الكثير منهم كان ما يزال يرتدي بذلة المعاقل النازية ورقم الاعتقال الموشوم على أياديهم. أتوا من البلقان برا وعلى متن القطارات، ثم عبروا المتوسط إلى الساحل. تعبأ اليهود لشراء أو كراء المراكب وكل ما يمكنه أن يطفو ويسبح على الماء. جل التمويلات تكلفت بها منظمات أمريكية يهودية رغم أن أسعار الكراء والشراء كانت مرتفعة. عمل البريطانيون على مكافحة هذه الهجرة وإرجاع النازحين من حيث أتوا. في خلال ذلك، حدثت مواجهات عنيفة أحيانا على الساحل، لكن في أحايين كثيرة كان الجنود البريطانيون يغضون الطرف عن الإنزالات اليهودية. لكن بن غوريون لم يعبأ بهذا التساهل البريطاني. بالنسبة له حان الوقت لكي يرحل البريطانيون. وهو الأمر الذي لا يمكن أن يحصل إلا بالقوة. وفي سنة 1946، وبعد أن عمل على توحيد الحركات السرية اليهودية، أمر بإطلاق حرب العصابات ضد البريطانيين والعرب في وقت واحد. جميع اليهود كانوا يعرفون أن استراتيجية بن غوريون خطيرة العواقب لأنها تعمل على واجهتين في وقت واحد. فكان الفشل ونفاد الموارد شبحا يخيفهم. لأن أي فشل سيكون محبطا للغاية. أمام هذا الوضع، سمح بن غوريون بجميع ما يمكن أن يتخيله يهود الهاغانا من ضربات وفظاعات، فصار باب الفظاعات مفتوحا على مصراعيه من جميع الأطراف: يهود قتلوا لمجرد الشبهة في اتصالهم بالهاغانا، جنود بريطانيون كانوا يغتالون بشكل منتظم وتدمر ثكناتهم، قرى عربية بأكملها أحرقت. فقد عمت قساوة إجرامية تعود إلى العصور الوسطى بين جميع الأطراف. كانت الهاغانا تعتبر التجسس أمرا حيويا، خاصة لتوهيم البريطانيين والعرب، من خلال الإشاعة الكاذبة، بأنهم أكثر عددا مما هم عليه في الأصل. ومع مرور الوقت صارت المليشيات اليهودية صعبة المراس، خفية الضربات... في مقابل ذلك، بدأت معنويات الجنود البريطانيين تتهاوى شيئا فشيئا. في فبراير من العام 1947، قبلت بريطانيا الانسحاب من فلسطين في أفق شهر ماي 1948. وبداية من هذا التاريخ، ستصبح الأممالمتحدة هي المكلفة بمعالجة مشاكل ما سيسمى، قريبا، دولة إسرائيل. ولما كان بن غوريون وضباطه مقتنعين بأن الخلاف المفتوح مع العرب لا مفر منه من أجل ضمان استمرار وجود الأمة الجديدة، فإنهم أدركوا بسرعة ضرورة الاستمرار في الاعتماد على مصالح استخباراتية أكثر كفاءة من الخصم. فظلت تلك المصالح تجمع المعلومات والأخبار الحيوية لدى السلطات العربية، العسكرية وغيرها. في هذا الإطار، نجح جواسيس يهود بالقاهرة وعمان في الحصول على مخططات هجومية وضعتها القوات المصرية والأردنية. ومنذ انطلاق ما سيسمى حرب التحرير، حقق الإسرائيليون انتصارات عسكرية باهرة. غير أن بن غوريون أدرك جيدا، حتى قبل نهاية المعركة، أن الانتصار النهائي لا يمكنه أن خفقت إلا بفضل الفصل الواضح بين الأهداف العسكرية والسياسية. إلا أنه بعد أن خمدت أصوات الأسلحة سنة 1949، لم يتحقق ذلك الفصل المبتغى بالشكل المطلوب. وهو ما أثار نقاشا عنيفا داخل المصالح الاستخباراتية الإسرائيلية حول الدور الذي ينبغي أن تلعبه في حال السلم.