في مثل هذا اليوم، وقبل قبل ست سنوات، اندلعت أكبر أزمة سياسية بين المغرب وجارته الشمالية إسبانيا كادت أن تؤدي إلى مواجهة عسكرية وتعصف بكل اتفاقيات «الصداقة وحسن الجوار» المبرمة بين البلدين. واليوم يقوم رئيس الوزراء خوسي لويس رودريغيث ثاباتيرو بزيارة للمغرب تتزامن مع نفس يوم دخول الجنود المغاربة إلى جزيرة ليلى. «من صاحبة قطيع الماعز الذي يتواجد في الجزيرة؟»، كان ذلك سؤال وجهه موظف بوزارة الخارجية الإسبانية إلى الإدارة العامة للحرس المدني الإسباني أشهرا قبل اندلاع الأزمة. جواب مدريد جاء مقتضبا جدا: «صاحبة القطيع امرأة تدعى رحمة العشيري، وهي مواطنة مغربية تنتقل كل يوم إلى الجزيرة». أسابيع قليلة بعد ذلك سيصبح اسم رحمة مقترنا بشكل مباشر بالنزاع باعتبارها صاحبة قطيع الماعز الذي كان يتواجد على الصخرة أثناء اندلاع «الصراع» المغربي-الإسباني حول الصخرة. «إنها مريضة ولا تقوى على الوقوف، كما أنها لا تنطق سوى بضع كلمات بعد إصابتها بشلل نصفي»، تقول ابنتها أمينة ل«المساء» أثناء انتقال الجريدة هذا الأسبوع إلى منزلها بقرية بليونش. تفتح رحمة العشيري عينيها بصعوبة في شرود تام، فهي لم تعد تتذكر من نزاع جزيرة ليلى سوى القليل، وما خلفه لها النزاع من ضياع لأكثر من 22 عنزة كانت تبيعها وتبيع حليبها لكسب لقمة عيشها. «إنها ضريبة الحرب»، تقول إحدى جارات رحمة العشيري. لقد تداول العالم كله اسم رحمة، التي تبلغ 78 سنة من العمر، خلال احتقان أزمة الجزيرة بين المغرب وإسبانيا، خصوصا بعدما قررت مقاضاة الحكومة الإسبانية لمقتل رؤوس الماعز التي كانت تمتلكها أثناء النزاع حول الصخرة، «قد تكون ماتت بسبب العطش أو أفزعتها ضوضاء الطائرات الهليكوبتر الإسبانية مما جعلها تقفز في مياه البحر»، يقول محمد، وهو أحد أبناء المنطقة. على بعد مرمى حجر من منزل رحمة تمتثل أمامك شامخة جزيرة «تورة» كما يحلو لسكان بليونش تسميتها. «لقد أصابنا خوف وهلع كبير أثناء اشتداد الأزمة بين المغرب وإسبانيا، خصوصا بعد رؤيتنا لسفن حربية وغواصات وكل القطع البحرية»، تقول مليكة العشيري، وهي أيضا إحدى البنات التسع لرحمة. قبل يوم من اجتياح الإسبان للجزيرة، هاتفت آنا بلاثيو السفير الإسباني في الرباط قائلة له: «لقد قررنا أن تعود فورا إلى الوزارة»، دون أن تقدم له أية شروحات إضافية. وفي الثانية فجرا، وصل السفير أرياس سالغادو على متن سيارته إلى مدينة تطوان حيث كانت المخابرات المغربية تتعقب خطواته، وفق ما أشار إليه حينها الوالي محمد غرابي، الذي يقول في إحدى تصريحاته: «لقد تخوفت من أنه خلال ساعات سوف تنطلق الشرارة». أما هنا في بليونش، فقد زاد خوف عائلة العشيري وكل سكان القرية الهادئة لحظة رؤيتهم طائرات الهليكوبتر تنزل فوق الجزيرة، «كانت بمثابة حرب حقيقية. أصبنا بذعر شديد ونحن نرى كيف كان الجنود الإسبان يصوبون فوهات رشاشاتهم في اتجاهنا بالضفة الأخرى»، تضيف مليكة وهي تشكر الله على عدم نشوب حرب حقيقية بالمنطقة. لقد قررت الحكومة الإسبانية في فجر ذلك اليوم إعطاء الضوء الأخضر لتدخل عسكري حقيقي، حيث انطلق من إسبانيا سرب يتكون من سبع طائرات دقائق بعد الرابعة فجرا، وعلى الساعة السادسة كانت تعبر سماء مضيق جبل طارق. ثماني عشرة دقيقة بعدها، بدأت تحلق ثلاث طائرات من نوع كوغار، وعلى متنها 21 فردا وثلاثة أفراد من قوات التدخل الخاصة للجيش، «حلقوا فوق الجزيرة برهة من الوقت لاستكشاف الوضع، لكنهم ورغم سرعة الرياح القوية، بدأ الجنود الإسبان بالنزول إلى الجزيرة»، يتذكر محمد، مضيفا أن ثلاث طائرات هليكوبتر أخرى بقيت تحوم حول الجزيرة، «لقد كانت هناك بهدف حماية المتدخلين»، يقول مصدر عسكري إسباني ل«المساء»، فيما يقول محمد أن أحدهم «أخذ يتحدث عبر مكبر للصوت، طالبا من الجنود المغاربة بالعربية والفرنسية والإسبانية تسليم أنفسهم». بعدها ستقوم إسبانيا باعتقال وتقييد الجنود المغاربة وتغطية رؤوسهم بأكياس بيضاء وتسليمهم إلى المغرب عبر معبر باب سبتة، «صديقي مازال يتذكر إهانات الجنود الإسبان لهم»، يقول هشام ل«المساء» وهو زميل دراسة وصديق لأحد الجنود الستة الذين طردوا من الصخرة. رحمة العشيري كانت تقف شاهدة على كل الأحداث وكل اهتمامها منصب على مصير قطيع ماعزها الذي لم تعد تعرف شيئا عنه، «لقد جاءت عندنا زليخة نصري، ووعدتها بمكافأتها، لكن وإلى حدود اليوم لم تحظ والدتي بأية مكافأة من طرف الدولة عكس الوعود المقدمة لها حينها»، تتحسر أمينة وهي تكشف الغطاء عن وجه والدتها المريضة. أياما بعد ذلك سينصاع المغرب وإسبانيا إلى توجيهات كاتب الدولة الأمريكي في الخارجية، كولن باول. انسحبت إسبانيا من جزيرة ليلى، فيما انتقلت وزيرة الخارجية آنا بلاثيو إلي العاصمة المغربية للدخول في مفاوضات لإعادة الأوضاع إلى مجراها الطبيعي، أما كولن باول فقد أعرب عن حسرته على إضاعة خمسة ساعات من وقته في معالجة تطورات النزاع، قبل أن يأمر الطرفين بإعادة الوضع إلى ما كان عليه في السابق، واصفا الجزيرة ب«الصخرة التافهة». الاجتياح في شريط مصور تفاصيل دقيقة ومرئية خلال عشرين دقيقة التي استغرقت اجتياح جزيرة ليلى يوم 17 يوليوز 2002، وهي مدة كانت كافية لطرد الجنود المغاربة منها عبر الممر الحدودي لسبتة، فقد كان طبيب عسكري ضمن الوحدة العسكرية التي نفذت العملية، يراقب الوضع من أحد أطراف الجزيرة، في انتظار فرصة للتدخل بوصفه طبيبا، لكنه كان يحمل معه كاميرا سجل بها عملية الاجتياح بالصوت والصورة، حيث تظهر الممارسات العسكرية الإسبانية في حق ستة جنود مغاربة نزلوا فوق الجزيرة. الصور السرية للغاية، كما تصفها وزارة الدفاع الإسبانية، ظلت دفينة رفوف الوزارة في عهد الوزير السابق فيديريكو تريو حتى الأسبوع الأول من شهر دجنبر 2004. ثلاث مروحيات من نوع كوغار تضم الفرقة 31 من وحدة العمليات الخاصة الثالثة التي كانت مجهزة بمنظارات ذات رؤية ليلية ومعدات حربية متطورة لتنفيذ عمليات الإنزال على الصخرة. على متن المروحية التي نفذت العملية «المباشرة»، كان هناك القائد والطبيب العسكري الذي قام بتصوير الوقائع على الشريط، رغم أنه «ليس من المعتاد حدوث ذلك»، حسب مصادر من وزارة الدفاع الإسبانية، و«لكنها المرة الأولى التي يحدث فيها هذا، في حرب شبه حقيقية بعد 28 سنة من التاريخ العسكري لإسبانيا»، يضيف مصدر عسكري آخر من مدينة سبتة. لم تشهد عملية الاجتياح إطلاق الرصاص، وإن كان الجنود الإسبان مسموح لهم بذلك، من خلال رشاشاتهم Barret وHK-36التي استعملت في العملية التي أطلق عليها اسم روميرو سييرا فجر يوم 17 يوليوز التاريخي الشهير، على الساعة السادسة صباحا و17 دقيقة تحديدا، «رقم له أكثر من دلالة بالتأكيد»، يقول مصدرنا. وقائع وأحداث - وزيرة الخارجية الإسبانية، آنا بلاثيو، تجري اتصالا هاتفيا يوم 17 يوليوز 2002 مع نظيرها المغربي محمد بنعيسى على الساعة الرابعة و17 دقيقة صباحا، لتخبره فيها بأنه على المغرب سحب جنوده من الجزيرة وإلا فإن إسبانيا سترسل قوات عسكرية لاسترجاعها، وقد فوجئت برد بنعيسى بأنه لا يستطيع فعل أي شيء لأنه «لا يمكن إيقاظ الملك محمد السادس من نومه لإخباره بذلك»، حسب ما صرحت به آنا بلاثيو يومها. - إذاعة كادينا سير الإسبانية تنقل عن بنعيسى قوله: «لقد سبق أن قطعت وعدا، وأكرره الآن علنا: إن المغرب ليست لديه نية للعودة إلى الجزيرة عندما تنسحب منها القوات الإسبانية»، وهو التصريح الذي أدلى به الوزير الأول المغربي خلال مؤتمر صحفي عقده يوم الجمعة 19 يوليوز 2002 في العاصمة الفرنسية باريس بدعوة من نادي الصحفيين، لكن بنعيسى ينفي ما نسبته إليه الإذاعة الإسبانية. هذه الأخيرة التي اعتبرت تصريحاته تنازلا هاما من قبل الرباط بغية التوصل إلى تسوية للنزاع المغربي-الإسباني بشأن الجزيرة التي اجتاحها جنود إسبان في 17 يوليوز من سنة 2002. وأشارت القناة الإذاعية إلى أن هذا التنازل هو الذي كان وراء قبول مدريد بالانسحاب العسكري من الجزيرة. - الوزير الأول المغربي السابق عبد الرحمان اليوسفي، ينتقل يوم 16 يوليوز من الرباط إلى سبتة للمبيت هناك، قصد القيام بزيارة لمدريد يوم 17 يوليوز بهدف عقد مشاورات حول النزاع، لكنه استيقظ مذعورا على نبأ اجتياح الجنود الإسبان للجزيرة واعتقال وطرد الجنود المغاربة. - ورود تقرير سري للمخابرات الوطنية الإسبانية يعترف بفشل الجهاز الاستخباري في اختراق المحيط الخاص للملك محمد السادس، لأنه على حد قول التقرير «لم يستطع التعرف على نوايا المغرب بخصوص الدخول إلى جزيرة ليلى أثناء احتفال الملك بحفل زواجه». جزيرة ليلى صخرة غبر مأهولة تبلغ مساحتها 13.5 هكتارا وتقع على بعد أقل من 200 متر من الشواطئ المغربية في نقطة يفصلها 40 كيلومترا عن مدينة طنجة وتبعد ب8 كيلومترات إلى الغرب من مدينة سبتة. انتهت الحماية الإسبانية على الجزيرة الجرداء في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي بعد إلغاء الحماية الإسبانية التي كانت سارية على أجزاء من مدن شمال المغرب، وبذلك اعتبر المغرب أن الجزيرة عادت إلى حوزته. ظلت الجزيرة مهجورة إلا من بعض الصيادين ومربيي الماعز الذين كانوا يترددون عليها انطلاقا من منطقة جبل موسى المجاورة وكذلك بعض ممارسي رياضة الغوص في منطقة بليونش والقصارين. تحمل جزيرة ليلى العديد من الأسماء، فالبعض يطلق عليها جزيرة «تورة» وهو الاسم الذي يطلقه عليها سكان المنطقة، أما تسميتها بليلى فهي تسمية إسبانية وأصلها (لائيزلا) أي «الجزيرة».