إذا كان المعتقلون على خلفية الأحداث الإرهابية، التي عرفها المغرب منذ ماي 2003، سواء تلك التي دخلت حيز التنفيذ، أو تلك التي لم تتجاوز النوايا والتخطيط واستقطاب المشاركين المحتملين، أفلحوا في شيء، فهو أنهم حولوا قضيتهم إلى مسألة إعلامية تخفت وتظهر بين حين وآخر، والسبب في ذلك أن الظاهرة الإرهابية تشكل حطب النار في التعاطي الإعلامي من جهة، إضافة إلى ربط أوضاع المعتقلين، الذين يشنون إضرابات متقطعة عن الطعام، بإشكاليات احترام حقوق الإنسان. لذلك، لم يكن غريبا أن يجهر الرجل، الذي حاول تحويل مناطق في البلاد إلى برك دم، بأنه يتعرض إلى تهديد وأن أوضاعه تبعث على القلق. وبديهي أنه لا يمكن مؤاخذة حسن الحطاب، زعيم خلية “أنصار المهدي”، بمخاوف كان هو نفسه في مقدمة من أشاعها، يوم كان بصدد التخطيط لتنفيذ هجمات إرهابية ضد منشآت عسكرية ومدنية، ذلك أن إدانته من طرف القضاء بالتهم المنسوبة إليه لا تنفي حقه في أن يعيش آمنا في زنزانته، فالعقاب له معنى واحد، ولا يمكن أن يتكرر إلا بالاستناد إلى أفعال يعاقب عليها القانون. غير أن الأهم في هذه القضية وغيرها أن كافة الجهود التي بذلت من أجل طي صفحة الهجمات التي أودت بحياة أبرياء لم تقد إلى ترسيخ الاعتقاد بأن العدالة قالت كلمتها وانتهى كل شيء، إذ من الواضح أن الظروف التي رافقت عمليات اعتقال المطلوبين والمتورطين والمحرضين، لم تكن بالدقة والتحريات اللازمة التي تستثني الأشخاص الذين قد لا يكون لهم ضلع في تلك العمليات، ومصدر ذلك أن الصدمة كانت قوية إلى درجة أنها المرة الأولى التي واجهت فيها البلاد تحديات أمنية، عصفت بمفهوم الاستثناء المغربي في التأثر بالظاهرة الإرهابية، عدا أن المؤاخذات التي سجلت ضد اعتقال أكبر عدد ممكن من المتهمين كانت في محلها، مما حذا بمحاكم الاستئناف إلى معاودة النظر في كثير من الأحكام. هذا الواقع لا يلغي حقيقة أخرى، وهي أن ظاهرة العود التي يعرفها رجال القضاء، من خلال إصرار بعض المتابعين قضائيا على تكرار أعمالهم بعد الإفراج عنهم بعفو ملكي، أو بعد قضاء العقوبات الصادرة ضدهم، ظلت ملازمة لمسارات بعض المعتقلين، كما في حالة المعتقل حسن الحطاب وغيره ممن تورطوا في تفجيرات أخرى عبر أحزمة ناسفة أودت بحياتهم. كما أن استمرار تناسل الخلايا الإرهابية يؤكد أن المخاطر لازالت قائمة، وربما أكثرها وطأة يأتي من معتقلين سابقين، والحال أن معتقلين آخرين نزعوا إلى ممارسة قدر من النقد الذاتي واختلفوا فيما بينهم حول مفاهيم وقناعات كانت تتحكم في ضبط إيقاع العمليات الإرهابية. ما يلزم الآن ليس هو الاتجاه نحو سياسة ردود الأفعال إزاء ما يحدث في بعض السجون التي تتحرك بدوافع إشعار المسؤولين أن هناك قضية حسمت من طرف العدالة، لكنها لم تحسم على صعيد الواقع، وإنما البحث في مقاربة أنجع لطي هذا الملف، فثمة طرائق كثيرة لاستيعاب ما يحدث، أقلها المضي قدما في تحسين الأوضاع الإنسانية للمعتقلين، بصرف النظر عن التهم التي وجهت إليهم، لأن القصاص لا ينتهي بالتنفيذ الحرفي للعقوبات سالبة الحرية، وإنما بالقدرة على دمج المعتقلين في عالم جديد ينعش الآمال. غير أن المسؤولية في البحث عن هذا المخرج لا تقع على عاتق الدولة، بقدر ما تقع تحت طائلة قناعات المدانين، هل هم مستعدون للتسوية ونسيان ما اقترفوه، أم أنهم يكتفون بممارسة الضغوط للإبقاء على قضيتهم محورا للنقاش؟ وهل التوبة أملتها قناعات راسخة بالقطع مع الممارسات التي أذكت العنف واستباحة هدر أرواح الأبرياء، أم أنها مجرد فصل آخر في مواجهة من نوع آخر؟ فالثابت إلى حد الآن أن المغرب لم يخرج من نفق المخاطر التي تهدد الأمن والاستقرار، لكنه في الوقت ذاته لم يعد مستسلما في انتظار ترقب ما يقع، فقد دلت تجارب تفكيك المزيد من الخلايا الإرهابية على أن المبادرة انتزعت من بين الأنامل التي كانت تنهج القتل والعنف. هذا المكسب لم يكن له أن يتحقق لولا التعبئة الجماعية التي وضعت الأعمال الإرهابية في سياق تهديد مقومات المجتمع برمته، لأن المستهدف من وراء تلك العمليات هم مواطنون مغاربة أبرياء، بصرف النظر عن انتماءاتهم وقناعاتهم الفكرية، وقد يكون من بينهم متعاطفون مع التيارات الإسلامية ذات الميول المعتدلة، وبالتالي فإن صون هذه التعبئة والحفاظ على تماسك الصفوف في مواجهة أي مخاطر، يتطلب جذب جميع ذوي النوايا الحسنة للالتفاف حول مشروع حضاري يتسم بالتسامح والتعايش ونبذ التطرف والإرهاب. وإذا كان هنالك من بين المعتقلين المتورطين أو الذين زج بهم في أتون حملات غير دقيقة، من يأنس في نفسه الانضمام إلى هذا المشروع، فلا شك أن الوطن يبقى غفورا رحيما بأبنائه، ولنا في تجارب عديدة خير مثال على أن الصفح عند المقدرة يشكل أفضل دواء لالتئام الجراح. هنا تحديدا، تبرز مسؤولية شيوخ السلفية الجهادية وغيرهم ممن شكلت خطاباتهم أعواد الثقاب التي أشعلت حرائق تمكن المغاربة من إطفائها، والتزام المزيد من الحذر واليقظة حيال عدم تكرارها مرات أخرى، غير أن الاستئناس بالفضيلة لا يتم عبر محاولات لي الذراع، فهذه حسابات ثبت عدم جدواها. وفي مقابل ذلك، فإن الوعي بمخاطر الإرهاب، الذي يشكل التعصب وإلغاء الآخر أحد وجوهه البارزة، يجب أن يتحول إلى قناعة، ستكون أكثر مدعاة للتأمل حين تصدر عمن جربوا المشي في الطريق الخطأ. الأمر لا ينسحب على ملف الإرهاب وتداعياته فقط، ولكنه يطال الاندماج في سمات المرحلة التي يجب أن يطبعها المزيد من الحوار والانفتاح وغلبة الرأي الجماعي على ما عداه من أفكار ذاتية ونزعات سلبية. إن مجرد الإقرار بأن المغرب لم يفلت من تداعيات الظاهرة الإرهابية ذات الأبعاد الكونية، يعني أن الوقوع في أسر بعض الأفكار الانقلابية يكاد يكون من سمات العصر الذي اهتزت فيه الإيديولوجيات، ولا بأس من أن يعاد ترتيب البيت الداخلي على إيقاع يحكمه منطق الحق والقانون. فإذا كان هنالك من يجاهر ببراءته، فهناك أساليب يمكن اللجوء إليها، وإذا كان هناك من يعتبر نفسه متضررا، فإن هذا الاعتبار يجب أن يؤخذ في الحسبان، لكن شرط ألا تخضع العمليات لمنطق صراع يفترض أنه حسم مسبقا، فالصراع الحقيقي يكمن في القدرة على الاندماج في مشروع يصارع الآفات الكبرى، ومن بينها الفقر والمرض والهشاشة وبؤس الأفكار كذلك.