هذه الحلقات هي سفر في تضاريس حياة الملك خوان كارلوس دبريون الذي كتب اسمه بمداد من ذهب في سجل الانتقال الديمقراطي بإسبانيا، فلم يكن شخصية معادية لنظام الديكتاتور فرانشيسكو فرانكو، بل خرج من رحم نظامه بعدما التقطه الجنرال ولقنه دروس السياسة وجعله يعيش بين ذئاب النظام ويرضع من حليبهم حتى يشتد عوده، وعندما مات الرجل القوي الذي لم تعرف إسبانيا غيره منذ نهاية الحرب الأهلية، وجد خوان كارلوس نفسه يمسك بمقود السفينة في عين الإعصار، قد أبان عن قوة داخلية وهو يلعب دور المروض لحديقة من سباع الجيش والنخبة السياسية التي كانت محيطة بالديكتاتور، لأجل كل ذلك تظل حياة خوان كارلوس فصلا مهما في درس الانتقال الديموقراطي الاسباني. زاد قلق النخبة المحيطة بالجنرال فرانكو بعد تزايد ظهور أعراض المشاكل الصحية التي بات يعاني منها، وبدأ بعض المقربين منه يطالبونه بتعيين خليفة له، وفي 14 يناير 1965 استغل وزير التعليم لورا تمايو صداقته بفرانكو ليخبره: «البلاد كلها تسير وراءك وتريدك وتؤيد خطاك، عليك تعيين رئيس للحكومة ووضع نظام سياسي يضمن المستقبل، باقي الوزراء يشاطرونني الرأي في هذا المجال، لكنني لا أكلمك باسمهم، وإن لم يقولوا لك هذا الكلام فذلك راجع لكونهم لا يشعرون بالثقة التي أشعر بها إزاءك، لقد شاهدتك ترتدي سروالا قصيرا ولعبنا معا، وإذا لم أكلمك أنا بهذا الشكل فمن سيكلمك؟ من يستطيع أن يفعل ذلك؟ ستبقى شخصيتك التاريخية معلمة بفضل ما تكمله من أعمال وما تحققه من منجزات، فالناس قلقون بشأن المستقبل». كان فرانكو يستمع إلى خطاب صديقه وزير التعليم وابتسامة خفيفة مرسومة على محياه، وقال إنه كان يشتغل على قانون الولاية، وسيكون جاهزا حتى قبل الوقت الذي يتوقعه وزيره في التعليم. وخلال ربيع عام 1965 كانت هناك عدة قلاقل في الجامعات الإسبانية، خصوصا في برشلونة ومدريد، إلى درجة أن مجلس الوزراء خصص فقط للحديث عن مظاهرات الطلبة ولم يخف كاريرو بلانكو رأيه في كون كل هذه القلاقل ناتجة عن الخوف من مرحلة ما بعد فرانكو، وفي 11 مارس من العام نفسه وجد بلانكو الجنرال فرانكو يشتغل على قانون الولاية في مكتبه، وفي بداية أبريل كانت مسودة القانون الأولى جاهزة، لكن الجنرال فرانكو قرر بعد الاستشارة مع المقربين منه عدم تعيين الخليفة الآن، وفضلوا التريث بعض الوقت رغم أن القانون كان شبه جاهز. وكان القانون يسهل تولي أحد أفراد العائلة الملكية الحكم، كما أنه شكل الوثيقة الدستورية الأعلى خلال الحقبة الفرانكاوية ويتعارض في أشياء قليلة مع القانون الأساسي الذي قام عليه نظام الجنرال، وهو القانون الذي عرض على الاستفتاء في وقت لاحق. وقبل عرض القانون على الاستفتاء بأيام قليلة اتصل الأمير خوان كارلوس بوالده دون خوان يطلب استشارته بشأن تصويته على القانون، وكتب له والده أن الملوك لا يصوتون، لأن عليهم احترام القوانين كيفما كانت، وفي يوم 14 دجنبر توجه الجنرال فرانكو إلى الشعب الإسباني عبر الراديو والتلفزيون يطلب منه فيه التصويت ب«نعم» على القانون الجديد، واستجاب الإسبان لنداء الجنرال بحيث صوت ثمانية وثمانون في المائة منهم عليه، بعضهم فعلوا ذلك باعتباره عرفانا منهم بالاستقرار الذي عرفته إسبانيا في عهد الجنرال القوي، وآخرون لمسوا في ذلك بداية لمسلسل تحرر إسبانيا من قبضة فرانكو واتجاهها صوب الديمقراطية. وكان وضع هذا القانون بمثابة مؤشر قوي على قرب تعيين خوان كارلوس خليفة لفرانكو، وهو ما أظهرته المقالات الصحافية التي صدرت في تلك الفترة، لكن صراعا من نوع آخر سيبدأ مع دون خوان الذي كان يبدو أنه متمسك بحقه في عرش دي بوربون. وفي عام 1967 قام خوان كارلوس بمعية زوجته دونيا صوفيا برحلة إلى الولاياتالمتحدة كانت مبرمجة ضمن مشروع تلميع صورة الأمير في الخارج تحضيرا له لخلافة الجنرال، وفي ندوة صحافية عقدها خوان كارلوس سأله صحافي «نيويورك تايمز» بنجامين ويلز إذا ما كان يقبل أن تكون عودته إلى العرش مرتبطة بمسلسل دمقرطة سريعة، وهو ما وضع الأمير الشاب في مأزق حقيقي، فالإدلاء بتصريحات في هذا الشأن يمكن أن يقلص حظوظه في خلافة فرانكو أو يسبب له بعض المشاكل على الأقل، والصمت عن الإدلاء بتصريحات مطمئنة في هذا الشأن يضر كثيرا بصورته لدى القوى الديمقراطية الإسبانية، وبما أنه لم تكن أمامه عدة اختيارات، فقد قال كلاما كان يريد فرانكو أن يسمعه، وللتو حمل ألفونسو ميري ديل بال، سفير إسبانيا في واشنطن سماعة الهاتف واتصل بفرانكو وأخبره أن خوان كارلوس قال بالحرف: «إن أي عودة محتملة للملكية في إسبانيا ستبقى وفية لمبادئ الحركة والنظام، كما أن أي حركة دمقرطة سريعة تعني نهاية الملكية في إسبانيا، بل يجب أن تسير في نفس النهج الذي خطه سعادته وقانون الولاية يعد مثالا حيا على ذلك». لكن خوان كارلوس يعلم أن توليه خلافة فرانكو لا يعني فقط نهاية مرحلة، وإنما أيضا بداية مرحلة تاريخية أخرى، مثلما أن الشعارات التي كانت تملأ الشوارع توضح بجلاء موقف اليساريين منه، وحتى يتمكن من خلافة الجنرال القوي كان عليه أن يتأكد من أن ماكينة الحكومة ستعمل إلى جانبه، مما يعني أنه كان عليه أن يعتمد على غالبية الطبقة السياسية التي تشتغل مع فرانكو، مثلما كان يعلم أن فرانكو هو ضامن بقائه في موقع الخلافة، وهو لا يريد أن يرتبط مستقبل الملكية بشكل قوي بشخصية مثل الجنرال، لذلك نصحه لوبيث رودو بتقوية موقعه وألا يقوم بأي تصرف يمكنه أن يثير غيرة الصقور المحيطين بفرانكو. لا شك في أن فرانكو كان يحمل تقديرا وإيمانا بخوان كارلوس زاد مع مرور الوقت، بيد أن هذا الإيمان بشخص الأمير الشاب لم تكن تتقاسمه معه المعارضة اليسارية أو عدد من صقور النظام بغض النظر عن الدعم الذي كان يقدمه له كاريرو بلانكو ولوبيث رودو، فإحساس خوان كارلوس بالحزن كان نابعا من كونه «ضيفا لم يوضح له بعد ما إذا كان سيجلس للعشاء أم لا»، لكن نهاية عام 1969 كانت تحمل إليه منصب الخلافة التي ثار حولها الكثير من النقاش ليجد نفسه في فوهة المدفع.