هذه الحلقات هي سفر في تضاريس حياة الملك خوان كارلوس دبريون الذي كتب اسمه بمداد من ذهب في سجل الانتقال الديمقراطي بإسبانيا، فلم يكن شخصية معادية لنظام الديكتاتور فرانشيسكو فرانكو، بل خرج من رحم نظامه بعدما التقطه الجنرال ولقنه دروس السياسة وجعله يعيش بين ذئاب النظام ويرضع من حليبهم حتى يشتد عوده، وعندما مات الرجل القوي الذي لم تعرف إسبانيا غيره منذ نهاية الحرب الأهلية، وجد خوان كارلوس نفسه يمسك بمقود السفينة في عين الإعصار، قد أبان عن قوة داخلية وهو يلعب دور المروض لحديقة من سباع الجيش والنخبة السياسية التي كانت محيطة بالديكتاتور، لأجل كل ذلك تظل حياة خوان كارلوس فصلا مهما في درس الانتقال الديموقراطي الاسباني. عندما اجتمع الرئيس ريشار نيكسون وكيسنجر والجنرال فرانكو في محادثات سرية، أخبر هذا الأخير ضيفه الأمريكي بكون الجنرال شارل دوكول نصحه بعدم تجديد اتفاقية وجود قاعدة عسكرية للولايات المتحدة بشبه الجزيرة الإيبيرية، وحاول المسؤولان الأمريكيان خلال اللقاء تفادي أي حديث في مسألة الانتقال السياسي في إسبانيا، إلى حين شروع فرانكو نفسه في التطرق إلى الموضوع، وفي لحظة معينة بدأ كيسنجر يتحدث مع فرانكو في الوقت الذي انشغل فيه الرئيس نيكسون بالكلام مع خوان كارلوس، وأثار إعجاب الرئيس الأمريكي إتقان الأمير الشاب للغة الإنجليزية. وبدأ خوان كارلوس طريقه إلى العرش بالبحث عن وجود في الساحة الدولية، لذلك شارك في تدريبات بحرية بين القوات الفرنسية والإسبانية ما بين 21 و28 أكتوبر، وخلال هذه الأيام تناول عشاءه مع الرئيس الفرنسي بومبيدو بحضور وزيري الدفاع والخارجية الفرنسيين، لكن الدعم الأمريكي للأمير الشاب سيأتي منذ نوفمبر 1970، فخلال حفل بالبيت الأبيض تحدث الكونت مونتباتن للرئيس نيكسون عن خوان كارلوس، معربا عن إمكانية قيام واشنطن بدعمه والمساهمة عبر ذلك في ضمان استقرار إسبانيا على المدى البعيد، ولم يتردد نيكسون في أن يطلب من كيسنجر الاجتماع بخوان كارلوس. ومن جانبه، طلب الكونت مونتباتن من نيكسون أن يمارس ضغوطه على فرانكو حتى يسلم قيد حياته السلطة إلى خوان كارلوس. ونتيجة لهذه المحادثة الطويلة، استدعي خوان كارلوس في زيارة إلى الولاياتالمتحدة بداية عام 1971. وعندما أكمل الجنرال فرانكو ثمانية وستين عاما، كان يبدو أنه لم يكن مستشعرا بما يكفي أن الأجنحة داخل النظام بدأت تتموقع لاحتلال أمكنتها بعد وفاته، انطلاقا من اليمين المتطرف الذي يعد بلاص بينيار أحد رموزه، إلى التيار المنفتح الذي يمثله مانويل فراغا. وتمكن العسكريون اليمينيون من إقناع فرانكو بالرد بقوة على أنشطة تنظيم إيتا، وهو ما أدى إلى الحكم على ستة عشر شخصا، بينهم رجلا دين، وكانت ردود الفعل هذه تبين بجلاء شروع النظام في الانهيار. وبمضي الشهور، أعرب فرانكو عن قلقه من تزايد حدة الإضرابات وعدم نجاعة القمع ضد تنظيم إيتا وتزايد الصراعات في محيطه، وانتابه إحساس بأنه يفقد السيطرة على الأمور، وبعد مظاهرات فاتح ماي 1973، وحتى يهدئ من روع أقصى اليمين داخل النظام، قام فرانكو بحملة اعتقالات واسعة في صفوف اليساريين، ووضع كاريرو بلانكو عدة مشاريع لقمع أية حركة معادية للنظام في صفوف الجامعات أو الحركات العمالية، والوقوف في وجه أي حركة للانفتاح، لكن بلانكو لم يكتب له إنجاز كل هذه المشاريع القمعية، بحكم أنه في 20 دجنبر 1973، وبالضبط على الساعة التاسعة والنصف صباحا، قام مجموعة من نشطاء إيتا باغتياله بشكل بشع، بحكم أن سيارته طارت في السماء لعدة أمتار بسبب عبوة ناسفة وضعت له في شارع كلاديو كوييلو، وهو ما أدى إلى وفاته مباشرة، ولم يستطع فرانكو أن يستوعب الخبر في البداية، وعندما فهم أن بلانكو تعرض لعملية اغتيال، شعر بانقباض في القلب، وركض خوان كارلوس بمعية دونيا صوفيا إلى المستشفى الذي نقل إليه جثمان الرجل الثاني في النظام. بسبب الشيخوخة والمرض، فإن فقدان فرانكو لذراعه اليميني في النظام جعله يشعر بالتيه، وبدا أنه فقد الإحساس بما يدور حوله، وكانت الأجواء داخل الثارثويلا متوترة للغاية، وبدأ الحديث يروج عن خليفة لكريرو بلانكو حتى قبل دفنه، وأجاب فرانكو محدثيه بأن الوقت لم يحن بعد للحديث في هذا الموضوع، وظل غارقا في حزنه لفترة. أما أرياس نبارو، المسؤول عن الأجهزة الاستخباراتية، فقد كان الباعث على حزنه وألمه أنه وجد نفسه ملزما بتقديم استقالته، مثلما قال للوبيث رودو: «يبدو مقلقا ومفاجئا كون الأجهزة الأمنية للدولة لم تكتشف وجود تلك العبوة التي وضعت منذ أسابيع في شارع يمر منه رئيس الحكومة بشكل يومي». ولكن سيتم اختيار أرياس نبارو رئيسا للحكومة الجديدة التي ضمت عدة وزراء يؤيدون التوجهات التي بات يعبر عنها الأمير خوان كارلوس، رغم أن بعض التعيينات الجديدة لم ترق للأمير الشاب، لاسيما أن الجنرال فرانكو بدأ يغيب عن الساحة شيئا فشيئا، تاركا المجال لانتشار الشائعات وتناحر الأجنحة داخل النظام.