لعل التكتيك التركي في مقارعة إسرائيل على نحو سلمي في ربيع 2010م بإرسال سفن كسر الحصار المضروب على غزة أغرى ديكتاتوري المنطقة بالرهان عليها، فساعة سمعنا عن تحرك ملالي إيران وساعة سفينة ليبية، والأتراك كانت حركتهم عالمية إنسانية حاولت المخابرات الثورية اختراقها، ولكن كانت حركة ذكية من الأتراك حرضت الرأي العام العالمي ضد إسرائيل وكشفت عورتها وأبانت سوأتها. لقد ورد في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل المدينة ناصبه العداء رجل اسمه عبد الله بن أبي بن سلول، شعر بأنه اغتصب حقه في الملك، وكان قومه يصنعون له تاجا من خرز. هذا الرجل بقي بيته مكانا للتآمر ضد الإسلام حتى لحظات موته الأخيرة. وفي يوم قال كلاما جعل أناسا يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلبون قتله. وكان جواب النبي: أتريدون أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ وعندما مات ابن سلول صلى عليه النبي. ثم نزلت الآية ولا تصل على أحد منهم مات أبدا. وفي يوم أعطى صدام الأمان لأصهاره بالعودة، ثم فتك بهم وسرت الشائعة أنه لم يتدخل ولكن حكم (القبائل) هو الذي قضى على الخونة ولم يكن أمام صدام وهو يرى الفتك بأصهاره إلا الخضوع لحكم القبيلة. والكل يعلم بأن العراق كان يحكمه رجل واحد لا راد لحكمه. فكان هروبهم نصف جنون وعودتهم جنونا مطبقا. ويعرف الناس يقينا أن مرض الغدر المستفحل مثل الوباء في أرض العروبة لم يترك مجالا لأي ثقة في وعد أي مسؤول. وأحيانا تظهر على الشاشات مناظر الفلسطينيين وهم يحملون أشلاء مقطعة من الجنود الإسرائيليين، أو العراقيين وهم يذبحون أمريكيا من الوريد إلى الوريد، كما كان يفعل الحجاج مع خصومه، أو جنكيزخان وتيمورلنك في العصور الوسطى بحز الرقاب بالمنشار لإحداث الجرعة القصوى من الرعب في قلوب أعدائهم. بزعمهم؟ وفي حضارة الأنكا في البيرو، كانت الاحتفالات الدينية تتم بتقييد شاب إلى المذبح، ثم يتقدم كاهن بسكين حادة إلى صدر الشاب، فيشقه مثل الكتاب، ثم ينتزع القلب وهو يخفق في غمرة هائلة من استحسان الجماهير ونشوتهم بالدم. ومع أن الحديث والسيرة كلها تنهى عن التمثيل بالقتيل، فإن فقهاء العصر المملوكي أيام أبو سعيد جقمقم نهضوا من قبورهم إلى الأنترنيت وبأيديهم كتاب عجيب بعنوان «هداية الحيارى في قتل الأسارى» يقول إن التمثيل جائز ويجب أن يحدث لإرعاب اليهود والأمريكيين ومن شايعهم من ذوي السلطان الأكبر. والمسألة هنا تدور حول نتائج الأعمال أكثر من الجدل في النصوص. ولم تنه النصوص يوما أي جدل. ويمكن للفرقاء المتخاصمين أن يحشدوا من الأدلة النقلية والعقلية بقدر نجم نتروني ليدلل كل فريق على أن موقفه هو الصحيح والقويم. ولكن الرأي العام يتفرج من زاوية مختلفة. ونحن نعلم اليوم بأن هناك شيئا اسمه «PR Public Relation»، أي فن إدارة العلاقات العامة مهمته معرفة ارتكاس الرأي العام وكسبه في معركة خفية غير معلنة. وأي إنسان أو مؤسسة يعيش من سمعته، فهذا قانون إنساني. وكما يقول روبرت غرين في كتاب «القوة»: سمعتك تسبقك، فحافظ عليها كما تحافظ على حياتك. والسمعة كنز يجب تجميعه وتخزينه بعناية وحمايتها بصرامة، ولاسيما في فترة البناء. ومسألة الرأي العام هي السمعة. والتفجيرات التي حدثت في نيويورك ليس المهم فيها «صدق الأفكار»، بل «فعالية الأفكار»، بمعنى أن التاريخ بعد خمسين أو مائة سنة قد يكشف عن الفاعلين الحقيقيين، ولكن لا قيمة للكشف يومها لأن سير الأحداث مشى حاليا ضد المسلمين، وخسر المسلمون معركة الرأي العام في أمريكا حتى حين. والغريب ليس هنا، فالخسارة قد تنقلب باتجاه الربح إن حدثت مراجعة، ولكن ما يحدث هو أن الرأي العام عندنا ما زال لا يفهم هذه اللعبة الصعبة ويراهن على القوة لأن عقله مستعبد لمفاهيم القوة حتى يرجع إلى مفاهيم «قوة الأفكار» وليس «أفكار القوة»، أي العودة إلى أثر الرأي العام العالمي، أنه أهم من فرق عسكرية كاملة. ولكن بيننا وبين هذه الفهم مسافة سنة ضوئية. ومشكلتنا أننا ما زلنا نعيش في استراحة الفقهاء أيام السلطان قلاوون الألفي قبل ألف سنة، ولم ندرك إضافات المعرفة لأننا لم نشارك في بناء العالم الحالي، فهو لنا مثل الجن الأزرق في قصص ألف ليلة وليلة. وعندما نذبح الأسرى نظن أننا نخدم قضيتنا، ولكن معاملة سجن أبو غريب أمكن مسحها (Delete) بشريط أبو مصعب الزرقاوي وكأن الثاني أوحى للأول من حيث يعلم أو لا يعلم أن يفعل فعلته. والثور حينما يهجم على المصارع الإسباني يظن أنه سيصيب منه مقتلا في الوقت الذي يقترب من الموت ذراعا. والعراقيون اليوم عندهم فرصة الألمان بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن تخلصوا من النازية البعثية في أن يبنوا عراقا جديدا ثم يقولوا للأمريكيين عودوا إلى بلادكم، وهو ممكن وسهل ولكن بين العراقيين، وهذه تربية شاقة لم يتدربوا عليها بعد أن قتل الطغيان الإنسان العراقي قتلا فلم يبق إلا المشوهين وأشباههم. وألمانياالغربية دفعت حتى اليوم 1250 مليار يورو من أجل دفع الحركة في مفاصل ألمانياالشرقية من أجل الحركة بدون فائدة. ونحن نعرف في الطب أن المشلول مشلول ثلاث مرات، فلو رجعت الوظيفة إلى الأعصاب فالرحلة طويلة أمام تيبس المفاصل وضمور العضلات. والديكتاتورية تفعل أفظع من ذلك في الأدمغة فتخرج مواطنا مسكينا ويتيما وأسيرا لا ينفع سوى في التصفيق في المظاهرات بحياة القائد إلى الأبد والقتل. ومن تعود القتل لم يحترم الحياة ولا الضمير فضلا عن الرأي العام. والمشكلة مع التشدد أنه مثل الوباء.. أوله تدين مقلوب، ومنتصفه حماس بدون وعي، وآخره قتل ودماء. وما ينتظر المنطقة المزيد من الدخول في الفوضى. والعالم العربي اليوم مثل الجثة التي تتفسخ في القبر. والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون. وفي كثير من الأحيان، أقول في نفسي لماذا تورطت أمريكا في العراق وكان بإمكانها التفاهم مع الطاغية، وكان الرجل مستعدا لكل شيء مقابل المحافظة على العرش. ولكن يبدو أن أقدار التاريخ تمشي وفق مخطط أكبر من البنتاغون. وأقدار التاريخ لا تمشي قط كما خطط لها أصحابها. وهي تفرز من الأمور الجانبية ما هو ضد مخططات وإرادة ورغبة من بدأ الحرب والضرب. ويبدو أن أمريكا حصل لها هذا. وقصة سجناء أبو غريب كانت تتكرر وما زالت في كثير من سجون العربان، ولأسباب أتفه وعذابات أشد وفترات أطول، وأنا شخصيا نزيل السجون العربية أربع مرات، فأعرف عمّ أتكلم. ولكن المحطات الفضائية جاءتها النخوة العربية على غير موعد، وهو جيد منه في طرف لأنه قد يفتح العيون على فظاعات السجون العربية. ويبقى السؤال عن سيكولوجية الذبح من الوريد إلى الوريد أو همجية حمل الأشلاء المقطعة، وهي تدل -كما يقول غوستاف لوبون في كتابه عن سيكولوجية الجماهير الذي صدر عام 1895 - على أن الفرد يتصرف لوحده بعقلانية وقدرة على النقد، فإذا انضم إلى القطيع محي الدماغ وخسف بالعقل وتصرفت الجموع مثل الجسد الذي يرتكس لمنعكسات النخاع الشوكي بدون أي تحليل عقلي. وهو الحاصل اليوم عند الجماهير العربية المنتشية بالدم، كما كان يحصل في قرابين الأنكا وقلب الشاب المنتزع من صدره الدافئ وهو يخفق؟ فهي تعيش ثقافة دموية ولا تعرف أهمية الرأي العام العالمي ولا تعرف مفاتيح تغيير الإنسان. وهذا هو السر في أن نقل الديمقراطية أو زرعها يحتاج إلى تربة. وأمريكا تعرف ذلك يقينا. وآخر ما تفكر فيه أمريكا هو الديمقراطية. وعندما نذبح الأمريكي يجب أن نعلم بأننا نذبح سمعتنا بأشد وليس أسوأ من قضية ناجحة يدافع عنها محام فاشل. ومباشرة بعد فضيحة سجن أبو غريب تم غسلها بدم نيك الأمريكي. جاء في كتاب خرافات الهند أن الغربان والحدآن اجتمعت في يوم فاتفقت على أن تقتسم غنائم الغابة مناصفة. وفي يوم أفلت ثعلب من مصيدة مثخن الجراح فوقع شبه ميت، فاجتمعت الطيور فوق رأسه مثل الغمامة الكثيفة. ثم إن الغربان اختارت منه نصفه العلوي للأكل وتركت نصفه السفلي للحدآن. والثعلب يفتح عينا ويغمض أخرى ويقول في نفسه سنرى من يأكل من؟ ثم إن الحدآن حينما اقتربت منه لبدء الوليمة قال لها أيها المغفلة كنت أظنكِ أذكى طيور الغابة وليس مثل الغربان السود المغفلة كيف تركتِ نصفي العلوي وفيه مخي ورأسي وكل ذكائي ومكري المشهور بهما؟ قالت الحدآن صدقت ثم رجعت لتغيير حصتها، قالت الغربان أتريدين أن تتركي لنا بطنه وأحشاءه وبرازه وقوائمه القميئة، لا والله لا يكون هذا أبدا ثم إنها اختلفت فتقاتلت فاشتدت فقتل معظمها وسقطت أشلاؤها قريبا من الثعلب، فاقتات عليها أياما حتى استرجع عافيته، فقام مرحا يضحك على المغفلة. فهذه هي قصص العربان والأمريكان.