هناك من الرجال من يكون الموت هو آخر ما يخطر على بالهم، بيوتهم كهوف ومغارات ، هوياتهم ضائعة، لكنهم فرضوها على العالم بأسره عندما رفعوا شعار: هويتي بندقيتي. هناك رجال قادرون على الفرح في عتمة الليل.. قادرون على تركيب الوطن حجرا على حجر كأننا ندخل في النشيد الحافي أو نخرج منه واضحين على طريق واضح وحاد. هناك رجال حملوا شعلة الأمل وأضاؤوا ليل الأمة القاتم وقرروا. أن يموتوا رجالاً ولا يركعوا، فأضاؤوا ليل الأمة المظلم.. لكن على الجانب الآخر هناك رجال همهم الأول والأخير هو القضاء على تلك الكهوف والمغارات والهوية من خلال تصفيات جسدية أضحت عارا على جبين تاريخ الدول على وجه الأرض، معتمدين على تلك القاعدة التي تقول: إذا عجز اللسان عن الكلام وضاق الصدر بالصبر .. نطق سلاح الغدر وغاب عن العقل رشده، إنه حل بسيط يدل على العجز الفكري لإثبات خطأ فكرة الخصم...والغريب أن تلك الجماعات القاتلة التي قامت بالتصفية تخرج لتعلن أسفها الشديد، ثم لا تلبث أن تعيد الكرة مرات ومرات.. إنها ببساطة تصفيات واغتيالات تفعلها المخابرات في أبناء وطنها سرا وعلانية، وتفعلها الدولة في اعدائها وخصومها السياسيين كتابا ومفكرين ورجالات علم وسياسة، بغية إرهاب أنصار الضحية وإسكاتهم، أو توجيه رسالة إلى الآخرين بأن يد الانتقام طويلة.. إنها ببساطة الإغتيالات السياسية.. من جمعية الأخلاق الحميدة إلى جمعية منع المحرمات، اللتين كان الهدف منهما منع ارتكاب الآثام ومحاسبة مقترفيها، والتشجيع على أداء العبادات اليومية، بدأ حسن أحمد عبد الرحمن محمد البنا الساعاتي، الذي ولد بالمحمودية، إحدى قرى مركز ههيا/محافظة الشرقية بمصر، في الرابع عشر من أكتوبر من العام 1906، مشواره القيادي والثوري لتشكيل وزعامة جماعة الإخوان المسلمين التي أخذ بتشكيلها مع ثلة من رفاقه (حافظ عبد الحميد، وأحمد الحصري، وفؤاد إبراهيم، وعبد الرحمن حسب الله، وإسماعيل عز، وزكي المغربي) بمدينة الإسماعيلية في بدايات العام 1928، والتي سعى من خلالها إلى الدعوة إلى تجميع المعاني الإصلاحية، والعودة إلى الإسلام الكامل والشامل واتخاذه المنهج الأساسي للحياة من خلال التربية والتدرج وتكوين الفرد المسلم والأسرة المسلمة التي ستكوّن اللبنات الأولى والأساسية ونقطة الارتكاز الأولى لتكوين المجتمع الإسلامي ثم الحكومة الإسلامية.. فالدولة.. فالخلافة الإسلامية والوصول أخيرا إلى أستاذية العالم الإسلامي. هكذا، إذن، بدأ حسن البنا مشواره في إحقاق الحق وزجر الباطل في المجتمع المصري قبل الوصول إلى الجماعة الإسلامية، سواء من خلال مروره بعدد من الجمعيات الخيرية، التي حاول من خلالها استقطاب التابعين والمناصرين له، عن طريق الجمعية الحصافية الخيرية التي زاولت عملها في حقلين مهمين هما : نشر الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة ومقاومة المنكرات والمحرمات المنتشرة من جهة، ومقاومة الإرساليات التبشيرية، التي اتخذت من مصر موطنا لها للتبشير بالمسيحية في ظل مسالك التطبيب وتعليم التطريز وإيواء الطلبة ومساعدة المحتاجين، أو من خلال مدرسة دار العلوم العليا التي تلقى بها تعاليم مكارم الأخلاق الإسلامية التي واظب على محاضراتها في المساجد ودور الدعوة والجهاد، والتي حصل منها على دبلوم دار العلوم العليا عام 1927 وعيّن معيدا بها قبل أن ينتقل للتدريس بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية الخيرية. مشواره القيادي بدأ حسن البنا بقيادة الإخوان المسلمين (تكونت عام 1928) على مدى عقدين من الزمان (1928-1949) خاض خلالها العديد من المعارك السياسية مع الأحزاب المصرية آنذاك كحزب الوفد والحزب السعدي قبل أن يوجّه نشاط هذه الجماعة إلى ميدان القضايا الوطنية المصرية، التي احتدمت بعد الحرب العالمية الثانية من خلال نداءاته المتكررة لخروج مصر من الكتلة الإسترلينية للضغط على بريطانيا حتى تستجيب للمطالب الوطنية الرامية إلى الاستقلال، والقضايا الدولية التي شكلت فلسطين أولى اهتماماتها باعتبارها قضية العالم الإسلامي بأسره، مؤكدا في هذا الإطار على أن الإنجليز واليهود لن يفهموا إلا لغة واحدة هي لغة القوة والثورة والمقاومة ولغة الدم، داحضا بذلك قرار الأممالمتحدة القاضي بتقسيم فلسطين عام 1947 موجها نداءاته إلى الأمة العربية والإسلامية (بشكل عام) والإخوان المسلمين (بشكل خاص) للتوجه فورا للجهاد في أرض الجهاد بغية الاحتفاظ بها عربية إسلامية قائلا: «(...) إن الإخوان المسلمين سيبذلون أرواحهم وأموالهم في سبيل بقاء كل شبر من فلسطين إسلاميا عربيا حتى يرث الله الأرض ومن عليها»، ليتخذ بعدئذ القرار التاريخي رقم 35 في السادس من ماي عام 1948 والذي قرر من خلاله إعلان الجهاد المقدس ضد اليهودية المعتدية مرسلا بذلك كتائب المجاهدين من الإخوان إلى فلسطين الذين شاركوا في حرب 1948. غضب النقراشي باشا أدى القرار الذي اتخذه الإمام حسن البنا، والذي فتح من خلاله باب الجهاد في فلسطين إلى امتعاض النقراشي باشا (رئيس وزراء مصر آنذاك) المقرب من الولاياتالمتحدة وبريطانيا، والذي قرر(أي النقراشي باشا) في الثامن من ديسمبر 1948 حل جماعة الإخوان المسلمين واعتقال أعضائها ومصادرة أموالها على وجه السرعة، ليترك البنا وحيدا (أمر بعدم اعتقاله) ومجردا من الصلاحيات والحراسة بعد مصادرة مسدسه الشخصي المرخص به وسائقه واعتقال كافة أعضاء جماعته، الذين كان من بينهم شقيقاه عبد الرحمن البنا وجمال البنا اللذان كانا يرافقانه في كافة تحركاته. لحظة الاغتيال بعد اعتقال أعضاء التنظيم من قبل سلطات النقراشي باشا، زادت مطالب حسن البنا بالإفراج عن الإخوان بشكل عام وفوري وتوفير حراسة خاصة يتكفل هو بمصاريفها خوفا على حياته، التي باتت في خطر شديد بعد تلقيه العديد من التهديدات، وتزايد الشائعات والأقاويل بأن هناك من يتربص به ويريد قتله والتخلص منه، رفض النقراشي باشا هذه المطالب رفضا قاطعا لدرجة أنه لم يسمح حتى بالترخيص لحارس شخصي لحسن البنا، الشيء الذي أدى إلى اغتياله في الساعة الثامنة من مساء يوم السبت الثاني عشر من فبراير 1949 حينما كان البنا يهم بالخروج من باب جمعية الشبان المسلمين برفقة صديقه ورئيس الجمعية السيد عبيد مكرم القبطي برصاصات مسدس تم إطلاقها من داخل سيارة تحمل رقم 9979 والتي عرفت فيما بعد لدى الأجهزة الأمنية بأنها السيارة الخاصة والرسمية للأميرالاي محمود عبد المجيد، المدير العام للمباحث الجنائية بوزارة الداخلية، كما ثبت في مفكرة النيابة العامة عام 1952، ليلفظ أنفاسه الأخيرة في الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف ذلك اليوم (أي بعد أربع ساعات ونصف من محاولة اغتياله) ليسير إلى مثواه الأخير محمولا على أكتاف النساء بعد منع سلطات النقراشي اقتراب الرجال منه ومن بيته. وتم اغتيال النقراشي (محمود فهمي النقراشي) من طرف عبد الحميد أحمد حسن، أحد أعضاء الجماعة السرية في الثامن والعشرين من ديسمبر من العام 1949(بعد شهر تقريبا على اغتيال حسن البنا) باعتباره السبب المباشر لاغتيال حسن البنا وحل جماعة الإخوان المسلمين قبل ذلك. يتبع