هناك من الرجال من يكون الموت هو آخر ما يخطر على بالهم، بيوتهم كهوف ومغارات ، هوياتهم ضائعة، لكنهم فرضوها على العالم بأسره عندما رفعوا شعار: هويتي بندقيتي. هناك رجال قادرون على الفرح في عتمة الليل.. قادرون على تركيب الوطن حجرا على حجر كأننا ندخل في النشيد الحافي أو نخرج منه واضحين على طريق واضح وحاد. هناك رجال حملوا شعلة الأمل وأضاؤوا ليل الأمة القاتم وقرروا. أن يموتوا رجالاً ولا يركعوا، فأضاؤوا ليل الأمة المظلم.. لكن على الجانب الآخر هناك رجال همهم الأول والأخير هو القضاء على تلك الكهوف والمغارات والهوية من خلال تصفيات جسدية أضحت عارا على جبين تاريخ الدول على وجه الأرض، معتمدين على تلك القاعدة التي تقول: إذا عجز اللسان عن الكلام وضاق الصدر بالصبر .. نطق سلاح الغدر وغاب عن العقل رشده، إنه حل بسيط يدل على العجز الفكري لإثبات خطأ فكرة الخصم...والغريب أن تلك الجماعات القاتلة التي قامت بالتصفية تخرج لتعلن أسفها الشديد، ثم لا تلبث أن تعيد الكرة مرات ومرات.. إنها ببساطة تصفيات واغتيالات تفعلها المخابرات في أبناء وطنها سرا وعلانية، وتفعلها الدولة في اعدائها وخصومها السياسيين كتابا ومفكرين ورجالات علم وسياسة، بغية إرهاب أنصار الضحية وإسكاتهم، أو توجيه رسالة إلى الآخرين بأن يد الانتقام طويلة.. إنها ببساطة الإغتيالات السياسية.. «.. لقد أعطى بنبركة كل ما يملك لهذا الشعب، فبادله هذا الأخير شعور الوفاء بحفر اسمه في الذاكرة المقدسة لوطن اسمه المغرب، وكم من الرجال في وطننا من يحمل اسم المهدي، كان بنبركة شعلة من النضال والحركة داخل حزبه الاتحاد بما له وما عليه، لكي يبقى ذلك النبراس الذي علقت عليه أجيال بكاملها أمل مغرب المساواة والعدل والحرية والديمقراطية، فاحتراما للتاريخ وللذاكرة، للشعب المغربي الحق في رؤية واضحة لما وقع سنة 1965، لكي نستطيع جميعا القيام بقراءة مشتركة لهذا الحدث ونفكر بصوت عال لبناء المستقبل، فالشعور الوطني يمتد عميقا في الماضي والحاضر أيضا ، وكلنا أمل أن تقال الحقيقة ليس فقط في ما وقع لبنبركة، بل لكل أولئك الذين لا يملكون في هذا الوطن قبرا وعندما نفتح أرشفينا وذاكرتنا في منتصف النهار، نستطيع أن نرى مستقبلنا جيدا، معتزين بماضينا، أقوياء بحاضرنا، ولن يسمح التاريخ باغتيال بركة وتراثه مرتين....». هذه هي بعض الكلمات التي أوردها عبد اللطيف جبرو في كتابه الصادر عن دار النشر المغربية أوائل عام 1976 تحت عنوان « المهدي بن بركة : ثلاثون سنة من العطاء الفكري والنضال الثوري من أجل بناء مجتمع جديد» والذي صدر بمناسبة عشر سنوات على اغتيال بن بركة باعتباره اول كتاب ينشر في المغرب حول المهدي بن بركة والذي كان من المفترض أن يقدمه عمر بنجلون الذي حال اغتياله في 18 دجنبر 1975 دون ذلك ليقدمه فيما بعد الأستاذ مصطفى القرشاوي .... لقيط الصحراء .. وغفران الأمير ولد المهدي بن بركة في الرباط في يناير 1920، لوالده التاجر الصغير، الذي يبيع السكر والشاي في حي بوقرون قرب زاوية سيدي قاسم، ليبدأ دراسته في المسجد قبل أن يدخل مدرسة لعلو، ثم كوليج مولاي يوسف فثانوية كورو.. كان المهدي بن بركة بشهادة أساتذته وأصدقائه تلميذا متفوقا في الرياضيات والتاريخ والعلوم واللغة الفرنسية، الشيء الذي شجعه على أن يبدأ حياته السياسية في إطار كتلة العمل الوطني وهو في سن الخامسة عشر، فاحب السينما وعشقها وانخرط بذلك كعضوا في الفرقة المسرحية التابعة لقدماء المدرسة اليوسفيةبالرباط ليناط به دوران مهمان في مسرحيتي «لقيط الصحراء» و«غفران الأمير»، قبل أن يتوجه الى الجزائر بعد قيام الحرب العالمية الثانية وحصوله على الباكلوريا في الرياضيات ليعود بعدئذ الى المغرب ويعمل (ابتداءا من السنة الدراسية 1942/1943) كمدرس بالكوليج المولوي وثانوية كورو بالرباط، ليدخل من خلالها أروقة السجن بعد اعتقاله مباشرة بعد مظاهرات يناير 1944 وبعد التوقيع على وثيقة المطالبة بالاستقلال، ليتم تعيينه مديرا اداريا للجنة التنفيذية لحزب الاستقلال عام 1945 بغية الاشراف على تحضير جريدة العلم وتحديد خطها السياسي.. دخل المغرب منذ سنة 1956 منعطفا جديدا ، كان له الأثر على تشكل موازين القوى في مغرب ما بعد الاستقلال ، وستنعكس هذه التأثيرات على حزب الاستقلال أيضا الذي عرف مخاضا استمر ثلاث سنوات أدت إلى ميلاد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959، ذلك الاتحاد الذي حاول من خلاله بنبركة الاستفادة من طاقة الشباب وتوظيفها من أجل تنفيذ مشاريع اقتصادية واجتماعية كبيرة (مشروع طريق الوحدة)، معززا بذلك التعايش بين ما كان يعرف بالجناح اليساري داخل حزب الاستقلال والعناصر النقابية وجناح المقاومة محاولا إيجاد التوافق فيما بينها، ليضحى بذلك المهدي بنبركة (بعد حضوره المؤتمر الثالث للشعوب الافريقية بالقاهرة، وقيامه بجولة في الشرق الأوسط يدعو من خلالها الى التحرر من الهيمنة الاستعمارية)، مرجعا لمحمد عبد الكريم الخطابي بعد خطاباته الداعية الى الاستقلال وجلاء القوات الأجنبية عن البلاد. الاختيار الثوري عاد المهدي بنبركة إلى المغرب يوم 15 ماي 1962 ليسارع إلى تقديم تقريره بمناسبة انعقاد المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية صيف 1965 تحت مسمى الاختيار الثوري، الذي دعا من خلاله الى ضرورة ربط التنظيم بالمعارك السياسية الكبرى التي تعرفها الأمة، من خلال إيجاد إطار سياسي أكبر من خارطة المغرب وربطه بحركات التحرر العالمية آنذاك قائلا «.... إننا على أبواب تحول كبير في سير حركتنا التحريرية، لذلك لا بد من تحديد الخط السياسي الذي يوضح معارك الماضي، وما انطوت عليه من مظاهر النصر والفشل ويرسم ملامح المستقبل..»، داعيا في الوقت نفسه (اجتماع اللجنة المركزية للحزب بتاريخ 14نونبر 1962 بالدار البيضاء) الى مقاطعة دعوة الاستفتاء بخصوص الدستور المصنوع، الشيء الذي عرضه لمحاولة اغتيال بين الصخيرات وبوزنيقة (16 نونبر)، حينما كان متوجها للدار البيضاء رفقة المهدي العلوي لتبدأ العلاقات تتدهور بين قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والقصر، خاصة بعد تصريحات المهدي بنبركة اللاذعة للنظام والحكم الفردي (مجلة جون افريك عدد 8/14 ابريل 1963) التي قال فيها « إن الخصم الحقيقي هو الذي يرفض أن يقوم بالمهمة التي أسندت إليه، إننا نتحدث عن الملك واكديرة ليس إلا ظله وليس له وجود سياسي حقيقي اللهم إلا للتعبير بوفاء عن آراء سيده»، ليجبر بعدئذ على العودة للخارج بعد توديعه لعبد الرحيم بوعبيد بمنزله «15 يونيو 1963» ويكون بذلك آخر سفر له قبل اغتياله عام 1965. يتبع