هناك من الرجال من يكون الموت هو آخر ما يخطر على بالهم، بيوتهم كهوف ومغارات ، هوياتهم ضائعة، لكنهم فرضوها على العالم بأسره عندما رفعوا شعار: هويتي بندقيتي. هناك رجال قادرون على الفرح في عتمة الليل.. قادرون على تركيب الوطن حجرا على حجر كأننا ندخل في النشيد الحافي أو نخرج منه واضحين على طريق واضح وحاد. هناك رجال حملوا شعلة الأمل وأضاؤوا ليل الأمة القاتم وقرروا. أن يموتوا رجالاً ولا يركعوا، فأضاؤوا ليل الأمة المظلم.. لكن على الجانب الآخر هناك رجال همهم الأول والأخير هو القضاء على تلك الكهوف والمغارات والهوية من خلال تصفيات جسدية أضحت عارا على جبين تاريخ الدول على وجه الأرض، معتمدين على تلك القاعدة التي تقول: إذا عجز اللسان عن الكلام وضاق الصدر بالصبر .. نطق سلاح الغدر وغاب عن العقل رشده، إنه حل بسيط يدل على العجز الفكري لإثبات خطأ فكرة الخصم...والغريب أن تلك الجماعات القاتلة التي قامت بالتصفية تخرج لتعلن أسفها الشديد، ثم لا تلبث أن تعيد الكرة مرات ومرات.. إنها ببساطة تصفيات واغتيالات تفعلها المخابرات في أبناء وطنها سرا وعلانية، وتفعلها الدولة في اعدائها وخصومها السياسيين كتابا ومفكرين ورجالات علم وسياسة، بغية إرهاب أنصار الضحية وإسكاتهم، أو توجيه رسالة إلى الآخرين بأن يد الانتقام طويلة.. إنها ببساطة الإغتيالات السياسية.. السياسة لا تقبل نظرية الفراغ ولا الجمود، إنها حركة دائمة لها صلة بالماضي والمستقبل، تستخدم الحاضر كمجرد جسر متنقل للعبور من مرحلة إلى مرحلة، ففي السياسة لا وجود للأعمال والأشياء المعزولة ولا وجود للأعمال العفوية البعيدة عن الدراسة والتمحيص المسبق. كانت هذه هي الكلمات الأخيرة التي قالها إسحاق رابين (ولد في القدس مارس 1922 إبان الانتداب البريطاني لفلسطين لأسرة يهودية مهاجرة من الاتحاد السوفياتي سابقا) ، قبل اغتياله على يد المتطرف اليميني الإسرائيلي «إيجال عمير» في 4 نوفمبر 1995... عصابات الهاجانا الصهيونية بدأ إسحاق رابين حياته السياسية والعسكرية بانضمامه إلى صفوف عصابات «الهاجاناة» الصهيونية التي تم تشكيلها بدايات العام 1947، والتي كان الهدف منها قتل الفلسطينيين وتدمير قراهم ومدنهم وإجبارهم على الرحيل لتوطين الآلاف من اليهود المهاجرين إليها من دول الشتات، لبناء مشروع الكيان الصهيوني بعد ذلك في العام 1948 بمساعدة دولة الانتداب آنذاك بريطانيا. توالت الأحداث وتسارعت وتيرة القتل والتهديد ضد الفلسطينيين نتيجة لاشتعال الانتفاضة والمقاومة الشعبية بعد قرار التقسيم الذي أصدرته الأممالمتحدة في التاسع والعشرين من نوفمبر 1947، لتندلع بعدئذ حرب النكبة (حرب 48) ويتم تعيينه قائدا لسرية “هارئيل” الصهيونية التي باشرت عمليات القتل والتقتيل في مدينة القدسالمحتلة، ثم ليعينه رئيس الوزراء الإسرائيلي “ليفي اشكول” رئيسا لأركان الجيش الإسرائيلي حتى العام 1968 بعد قراره الانعزال عن العمل السياسي والعسكري والانخراط في العمل الحزبي، الذي مكنه بعد ذلك من شغل منصب سفير دولة الكيان الإسرائيلي لدى حليفتها أمريكا وحصوله على مقعد في الكنيست الإسرائيلي نظير انخراطه في حزب العمل... جائزة نوبل للسلام لكن بمجيء جولدا مائير كرئيسة للوزراء في 17 مارس 1969 مكنته من شغل منصب وزير العمل في حكومتها الصهيونية، قبل أن يظفر بمنصب رئاسة الوزراء عام 1974 بعد استقالة جولدا مائير، ليخسر هذا المنصب بعد عملية مطار «عنتيبة» (عملية إنقاذ فاشلة قام بها سلاح الجو التابع لجيش الدفاع الإسرائيلي في أوغندا على بعد 4,000 كيلومتر من (إسرائيل) في الرابع من يوليوز عام 1976 من أجل إنقاذ 98 رهينة يهودا وإسرائيليين كانوا على متن طائرة «اير فرانس» التي تم اختطافها من طرف فدائيين فلسطينيين وألمان في السابع والعشرين من يونيو 1976) لينضم بعد ذلك من جديد عام 1984 لحكومة الوحدة الوطنية برئاسة شامير بحقل وزارة الدفاع حتى العام 1992، الذي فاز فيه بمنصب رئاسة الوزراء من جديد ولعب دورا هو الأول من نوعه في تاريخ الكيان الإسرائيلي بشقه لمسار السلام والمفاوضات التي سميت حينئذ باتفاقيات أوسلو، التي حصل فيها على جائزة نوبل للسلام عام 1994 بالمشاركة مع الرئيس الراحل ياسر عرفات وشمعون بيريز.... اغتياله كان لاتفاقيات أوسلو التي وقعها إسحاق رابين مع الرئيس ياسر عرفات أثر بالغ في شعبيته التي أخذت تتهاوى، خاصة في أوساط المتطرفين اليهود الذين عقدوا العزم على قتله بعد تزايد نداءاته الداعية إلى إحلال السلام في المنطقة، ورأوا فيها بداية للتنازلات التي ستضيع فرصة إقامة وطنهم المزعوم، فقام أحدهما ويدعى «إيجال عمير» باغتيال إسحاق رابين برصاصات مميتة اخترقت جسده في الرابع من نوفمبر 1995، خلال مشاركته في مهرجان خطابي مؤيد للسلام في ميدان «ملوك إسرائيل» (ميدان رابين الآن) في حادث اغتيال هو الأول من نوعه داخل الكيان الإسرائيلي والذي أثار معه الكثير من التساؤلات التي تمحورت في غالبها حول الجهة الداعية إلى ذلك؟ وما الذي أدى إلى الاغتيال؟ ومن يتحمل المسؤولية؟ وكيف يمكن تطور ظاهرة الاغتيال السياسي في إسرائيل؟ لتقطع عملية الاغتيال هاته الطريق نحو تحقيق السلام وتسحب البساط الذي مد ببطء تحت أقدام الفلسطينيين والإسرائيليين في سبيل تحقيق السلام الشامل والعادل بعد دخول شمعون بيريز لهرم السلطة عام 1996. يتبع