هناك من الرجال من يكون الموت هو آخر ما يخطر على بالهم، بيوتهم كهوف ومغارات ، هوياتهم ضائعة، لكنهم فرضوها على العالم بأسره عندما رفعوا شعار: هويتي بندقيتي. هناك رجال قادرون على الفرح في عتمة الليل.. قادرون على تركيب الوطن حجرا على حجر كأننا ندخل في النشيد الحافي أو نخرج منه واضحين على طريق واضح وحاد. هناك رجال حملوا شعلة الأمل وأضاؤوا ليل الأمة القاتم وقرروا. أن يموتوا رجالاً ولا يركعوا، فأضاؤوا ليل الأمة المظلم.. لكن على الجانب الآخر هناك رجال همهم الأول والأخير هو القضاء على تلك الكهوف والمغارات والهوية من خلال تصفيات جسدية أضحت عارا على جبين تاريخ الدول على وجه الأرض، معتمدين على تلك القاعدة التي تقول: إذا عجز اللسان عن الكلام وضاق الصدر بالصبر .. نطق سلاح الغدر وغاب عن العقل رشده، إنه حل بسيط يدل على العجز الفكري لإثبات خطأ فكرة الخصم...والغريب أن تلك الجماعات القاتلة التي قامت بالتصفية تخرج لتعلن أسفها الشديد، ثم لا تلبث أن تعيد الكرة مرات ومرات.. إنها ببساطة تصفيات واغتيالات تفعلها المخابرات في أبناء وطنها سرا وعلانية، وتفعلها الدولة في اعدائها وخصومها السياسيين كتابا ومفكرين ورجالات علم وسياسة، بغية إرهاب أنصار الضحية وإسكاتهم، أو توجيه رسالة إلى الآخرين بأن يد الانتقام طويلة.. إنها ببساطة الإغتيالات السياسية.. نصير الفقراء أو الروح العظيمة (كما أطلق عليه الشاعر الهندي تاجور عام 1951) هو ذاته الماهتما غاندي أو المهندس كارامشند غاندي الذي ولد في بورناندا (مدينة الجدران البيضاء وذات الإطلالة المباشرة على البحر العربي) صبيحة الثاني من أكتوبر من العام 1869، ليحمل معه مزيجا من الصفات التي التصقت بشخصيته طيلة حياته وأضحت كالظل لا تفارقه أبدا. فبين رجاحة العقل والصدق والإخلاص، التي ورثها عن والده، وبين التدين والتسامح والإخاء والدفاع عن الفقراء ومساعدة المساكين والمحتاجين، التي ورثها عن والدته الهندوسية المحبة للدين الإسلامي كونه الدين الذي يحتل المنزلة الثانية في الهند بعد الهندوسية، عاش وترعرع ونما وكبر وانصهر في طبقات شعبه الفقير وأبناء جلدته البؤساء، فشعر بهم وبمعاناتهم التي يتقاسمون ويتجرعون مرارتها سويا في كل لحظة، فكان يحرص دائما على اقتسام وجبة الغداء (التي تضعها والدته في محفظته لتناولها في المدرسة) مع أحد أصدقائه، فقد زرعت فيه والدته تلك الصفات وشجعته دائما على الصلاة والوسطية والسلوك الأفضل وزيارة المعبد والصيام في المواسم الدينية، لذلك كان يراها الطفل غاندي دائما نموذجا للطهر والعفاف والورع والصدق والشخص الذي يقضي حياته في مساعدة الآخرين. كان غاندي ذا أذنين كبيرتين وعينين واسعتين وابتسامة سعيدة رسمت على محياه وشكلت ورقة عبوره إلى قلوب مئات الآلاف من الهنود، الذين انضموا إلى صفوف ثورته السلمية التي دعا إليها لدحر الاحتلال البريطاني واستقلال الهند فيما بعد، بل إن هذه الابتسامة كانت مفتاح النجاح في مدرسته وحب جيرانه وأبناء جيله له، كان غاندي الطفل صلبا لا تكسره مرارة الجوع ولا قسوة الأيام... لكنه رغم ذلك كان طفلا خجولا وعصبيا كغيره من الأطفال، يخاف الثعابين التي كانت تملأ الجوار وبعض أروقة البيت، وكان يخاف اللصوص والليل والظلمة التي تصور له الأشباح دائما، ولعل خوفه هذا وخجله الشديد منذ الصغر كانا هما السبب الرئيسي وراء خسارته قضيته الأولى في عمله كمحام، حين لم يستطع التحدث أمام القاضي للدفاع عن موكله في أواخر العام 1891، بعدما عاد من إنجلترا حاملا الشهادة العليا في القانون من إحدى جامعاتها، بعد أن زار برج إيفيل في العاصمة الفرنسية باريس الذي أفقده سحره وجماله القدرة على الكلام والتعليق. النوم على الرصيف وصل غاندي إلى الهند عائدا من إنجلترا في العاشر من يوليوز من العام 1890، بعد حصوله على الشهادة الجامعية التي تخول له ممارسة مهنة المحاماة، إلا أنه واجه مصاعب كثيرة بدأت بفقدانه والدته التي غيبها الموت، واكتشافه أن المحاماة ليست طريقاً مضمونةً للنجاح، خاصة وأنها كانت مقتصرة فقط على أصحاب المراكز العليا في البلاد وأبناء الطبقات السياسية على وجه الخصوص، هنا قرر الرحيل من مومباي باتجاه راجكوت ليعمل فيها كاتبا للعرائض، خاضعا لسلطة المسؤولين البريطانيين الذين كانوا يستهزئون به وبغيره من الهنود العاملين تحت سيطرتهم واصفين إياهم بالعبيد. هنا ثارت ثائرة غاندي ولم يستسغ تلك السياسات التي تستند إلى عنصرية مقيتة ضد الهنود، فقرر ترك العمل لدى السلطات البريطانية بعد تعاقده مع الشركة الهندية الإسلامية لمدة عام، والتي أرادت أن يكون غاندي الممثل القانوني لها في أحد النزاعات بجنوب إفريقيا، لتبدأ مع سفره إلى جنوب إفريقيا مرحلة كفاحه السلمي في مواجهة تحديات التفرقة العنصرية التي بدأت أولى فصولها تجاه غاندي في القطار المتجه إلى جنوب إفريقيا عندما غضب أحد الركاب البيض واحتج على وجود غاندي في الدرجة الأولى من القطار، مطالبا إياه بالرجوع والعودة إلى الدرجة الثالثة، الشيء الذي رفضه غاندي رفضا مطلقا، مبررا ذلك بحصوله على مقعد في الدرجة الأولى ودفع مجمل تكاليفه، لكن تلك المبررات لم تقنع ضابط القطار، الذي أجبر غاندي على مغادرة القطار وطرده نهائيا ليقضي الليل بأكمله على رصيف إحدى المحطات في البرد القارس متألما من الظلم الذي وقع عليه. وصل غاندي إلى جنوب إفريقيا عام 1893، وسكن في ولاية «ناتال» الواقعة على المحيط الهندي، مقيماً في أهم مدنها «دوربان»، التي عُرفت بصناعة السكر والتبغ والفحم في المرتفعات الداخلية لها، لكن حادث القطار لم يفارقه أبدا، فسارع إلى دعوة الهنود المقيمين في جنوب إفريقيا إلى اجتماع في اليوم الموالي علم من خلاله مقدار الظلم الواقع عليهم من خلال منعهم من امتلاك الأراضي والتصويت واستخدام أرصفة المشاة في الشوارع خلال النهار. لم يكن غاندي حينها يعرف معلومات كثيرة عن الاضطهاد والتمييز العنصري في جنوب إفريقيا، لكن مع مرور الأيام على وجوده في جنوب إفريقيا؛ اطلع على العديد من الحقائق والوقائع المفزعة الخاصة بممارسة التمييز العنصري، حيث شجعت حكومة جنوب إفريقيا على الاضطهاد العرقي، وعملت على تنفيذ إجراءات جائرة لمنع هجرة المزيد من الآسيويين إليها، وإكراه السكان المقيمين منهم فيها على الرحيل عنها من خلال فرض ضرائب باهظة عليهم ومطاردتهم من قبل الشرطة، إضافة إلى أعمال النهب وتدمير المحلات والممتلكات تحت سمع حكومة البيض وبصرها. يتبع