عاش الجواسيس في خيال الناس كشخصيات وهمية ساحرة منذ فترة طويلة، فمن منا لم ينبهر بشخصية الجاسوس الشهير جيمس بوند ولم يتابع أفلامه بشغف شديد، ولكن هل يعرف الناس، على وجه اليقين، شيئاً عن حياة هؤلاء الأفراد الذين اختاروا «الفن القذر»، خاصة أن الخيانة لديهم تنبع من معين الجشع والطمع وحب المال وضعف النفس ووهن الإيمان وغياب الولاء والانتماء والسعي لإرضاء الشهوات والوقوع فريسة للنزوات.. دون أن يقروا بمبدأ الرحمة ولا نداءات الضمير الذي قد يستيقظ فيهم أحيانا. إنه عالم غريب يفتقر إلى العواطف ولا تصنيف للمشاعر تحت سمائه وفي دهاليزه المظلمة الغامضة. إنه عالم تستهوى فيه العقول على اختلاف مداركها وثقافاتها..عالم تقتحم فيه عوالم غريبة غامضة تضج بعجائب الخلق وشذوذ النفس.. عالم متوحش الأذرع، عديم الصفاء، لا يقر بالعلاقات والأعراف ولا يضع وزنا للمشاعر، نسيجه دائما قوانين لا تعرف الرحمة، أساسها الكتمان والسرية والجرأة، ووقودها المال والنساء والشهوة.. عالم يطوي بين أجنحته الأخطبوطية إمبراطوريات وممالك ويقيم نظماً ويدمر جيوشاً وأمماً ويرسم خرائط سياسية للأطماع والمصالح والنفوذ، فمنهن من باعت الوطن والدين في سبيل حبها للآخر العميل و أخرى اعتنقت ديانة أخرى في سبيل إرضاء حبيبها الجاسوس، ومنهن أيضا من عملت ضد وطنها وضمت أفراد عائلتها والمحيطين بها في دهاليز الجاسوسية أو خانت قدسية زواجها ووطنها في سبيل لذة جنسية مع العدو ... إنهن نساء عاشقات في بحر الجاسوسية . كان مصدر المعلومات الحقيقي لكلير الثرثرات الكلامية التي تفوح من فم الياباني المتهاوي على جسدها ممزوجة برائحة الخمر الشديد، فكانت تنقلها إلى وحدات المقاومة الفلبينية. وكانت هناك كتيبة من فرقة الكشافة الفلبينية المعروفة، يقودها نقيب أمريكي، تعمل كوحدة مقاومة في الجبال المحيطة بالعاصمة الفلبينية مانيلا ولديها أجهزة إرسال. وأصبح جنود هذه الكتيبة ينتظرون المعلومات التي تقدمها لهم الجاسوسة كلير كل ليلة، لينقلوا للحلفاء تحركات السفن اليابانية من الميناء وحركات الجنود. و قد أطلقت الوحدة على الجاسوسة كلير لقب «الجيوب العالية»، لأنها (كما قيل) كانت حين تتلقى نقوداً في الملهى لقاء خدمات، تضعها في جيب عالٍ في الفستان الذي كانت ترتديه وهي تدير المرقص.وسرعان ما شكلت كلير شبكة جاسوسية وأصبحت تبعث برسائلها السرية إلى وحدة الكشافة في الجبال بواسطة من جندتهم من الرجال والنساء لهذا الغرض. كانت تنقل الأسرار وتقوم بتحليلها كانت كلير تضع كل رسالة داخل موزة ثم تغلقها من جديد، وكان حمل هذه الفاكهة أمراً طبيعياً، ولكن غير الطبيعي هو ما كان بداخلها. اشتهر الملهى الليلي وازداد عدد اليابانيين به، وبدأت كلير تحصل على معلومات غاية في السرية، وتحلل بعض المعلومات وتبعث بها إلى مخابرات الحلفاء عند الجبل لتُنقل للقيادة. ومما نقلته أن اليابانيين يستخدمون سفن الصليب الأحمر، ليس لنقل الجرحى، بل لنقل الجنود. كما نقلت لهم أن حاملات طائرات يابانية تحرسها مدمرات تترك الميناء إلى جهة ما، وكان تحليلها أنها جميعاً في طريقها إلى (جزر سليمان)، فاكتشف الحلفاء فيما بعد أن تحليلها كان صحيحاً، وكانت تبلغهم أولاً بأول عن النشاط العام في الميناء، مشيرة إلى عدد السفن التي وصلت وتلك التي غادرت الميناء، والفترة التي استغرقتها صيانة هذه السفن الحربية. وكانت حين تحصل من بعض عيونها على معلومات باللغة الفلبينية تترجمها مباشرة وتبعث بها. ولم تترك رغم نشاطها التجسسي عملها الآخر في تزويد الأسرى بالكينين لمعالجة الملاريا، وبالطعام والفواكه، وحتى بالرسائل التي تصلهم من ذويهم. ورغم أنها لم تكن تستطيع إنقاذ كل الأسرى، فقد استطاعت كلير أن تنقذ الكثيرين رغم ما كان في هذا العمل من خطورة، وقد كتب لها أحد الأسرى رسالة جاء فيها: «لقد عدت بفضلك إلى الحياة من جديد. وقد رفعت من روحنا المعنوية. وإذا كان بعضنا يستحق الأوسمة فأنت الأولى بها. كنت أتمنى أن تري الفرحة على وجوه الأسرى الذين أقعدتهم جراحهم عن الحركة...». كانت مهمة الجاسوسة كلير جد خطيرة وتعتمد على السرية وإخلاص المتعاونين معها وقليل من الحظ، و قد ظلت عاما ونصف العام محظوظة لا تثير الشبهة، وكانت تعتمد لضمان وصول الطعام والأدوية للأسرى على رشوة الحراس اليابانيين وعلى قضاء بعض الوقت معهم، فجسدها كان هو الوليمة. وحين أحست بأن الشكوك بدأت تساور البعض فكرت في أخذ صغيرتها كما فعلت ذات مرة إلى الجبال حيث كانت آنذاك قريبة من معسكر زوجها، ولكنها تذكرت كيف أن الصغيرة أصيبت هناك بالملاريا. كما شعرت بأن الحلفاء، من جهة، والأسرى، من جهة أخرى، في أمس الحاجة إليها، فقررت بشجاعة أن تبقى وتستمر في أداء مهمتها، رغم كل المخاطر. اليابانيون يكشفون خيانتها في اليوم الثالث والعشرين من شهر ماي من عام 1944 تم إلقاء القبض على أحد الرجال، الذين كانوا يشكلون حلقة وصل بين كلير والأسرى. ويبدو أنه حين تعرض للتعذيب، ذكر اسمها خلال الاستجواب، إذ لم تمض سوى ساعات حتى أقبل أربعة من عتاة الجنود اليابانيين إليها، فشعرت حين رأتهم بأنهم يتأبطون شراً. وكانت كلير قد احتاطت للأمر فوضعت ابنتها مع إحدى الأسر الصديقة.أقبلوا تجاهها وبنادقهم مصوبة نحوها، ثم اتهموها بالتجسس لصالح الحلفاء واقتادوها خارج المرقص، وبدأ بعد ذلك استجوابها على الطريقة اليابانية المعروفة آنذاك ب«العصا والجزرة». كان اليابانيون يعرفون اسمها الرمزي «الجيوب العالية»، وبدؤوا ينادونها بهذا الاسم الرمزي، وقرؤوا عليها رسالة كانت قد بعثت بها إلى القسيس الملحق بالسجن، وأوهموها بأنهم يعرفون كل ما كانت تقوم به من عمليات سرية، وسألوها عن معنى كلمة «Cal» فأخبرتهم بصراحة بأنها اختصار لكلمة «كالمان» (calman)، وتعني بالفلبينية برتقال.كما سألوها عن كلمة «داما جانة» (Damijahn) التي وردت في رسالتها للقسيس فأخطرتهم بأنها تعني زجاجة كبيرة لحمل العصير للأسرى. لم يصدقوها وبدؤوا في تعذيبها كي تعترف، وكانت تقول وهي تصيح: انظروا إلى معناها في القاموس، ولكنهم ظلوا يضربونها. وحين أغمي عليها لجؤوا إلى القاموس الإنجليزي الياباني فوجدوا الكلمة كما قالت، فبعثوا بها إلى السجن ثم أيقظوها للاستجواب، وفي النهاية وضعوا رأسها فوق قطعة خشب ورفع السياف سيفه عالياً ثم توقف قبل أن يجهز به على عنقها، مؤكداً لها أنه يصدقها لأن من يكذب في مثل هذا الموقف كان دائماً يعلو صراخه خوفاً من الموت، ولكن الاستجواب رغم ذلك استمر حتى اضطرت في اليوم الثاني من نونبر عام 1944 للاعتراف بالتجسس وقدمت بعد ذلك للمحاكمة، فحكمت عليها المحكمة بالإعدام، وألقيت في سجن مظلم في انتظار موعد تنفيذ الحكم. وفي اليوم التالي وقفت أمام محكمة عسكرية، وكانت التهمة الموجهة إليها ارتكاب أفعال سرية تضر بالإمبراطورية اليابانية، فحكم عليها هذه المرة بالسجن عشرين سنة. في العاشر من فبراير1945 استسلم اليابانيون وتولى الأمريكيون قيادة السجن الذي كانت به كلير فأطلقوا سراحها، وأسرعت إلى ابنتها، وغادرت الفلبين بلا رجعة وعادت إلى مسقط رأسها بمدينة بورتلاند. في عام 1947 كتبت الجاسوسة كلير قصتها في كتاب «التجسس في مانيلا» لتتسلم وسام الحرية. وكانت أولى امرأة في أمريكا تنال هذا الوسام بناء على توصية الجنرال دوجلاس ماكارثر. و قد اصطف حرس الشرف لاستقبالها حين حطت بها الطائرة في مطار لاجارديا، وقدم لها الرائد كينيث بورج باقة ورد، إذ كانت سبباً في إطلاق سراحه من الأسر بمعلومة بعثت بها إلى المخابرات عن مكانه، فجاء يرد الجميل لمن أنقذت حياته. وفي عام 1951 شهدت الجاسوسة كلير فيلماً سينمائياً عن قصة حياتها بعنوان «كنت جاسوسة أمريكية». توفيت الجاسوسة كلير بعد ذلك بتسع سنوات، بعدما خاطرت بحياتها لإنقاذ الأسرى، ومدت الحلفاء بأخطر الأسرار. يتبع