عاش الجواسيس في خيال الناس كشخصيات وهمية ساحرة منذ فترة طويلة، فمن منا لم ينبهر بشخصية الجاسوس الشهير جيمس بوند ولم يتابع أفلامه بشغف شديد، ولكن هل يعرف الناس، على وجه اليقين، شيئاً عن حياة هؤلاء الأفراد الذين اختاروا «الفن القذر»، خاصة أن الخيانة لديهم تنبع من معين الجشع والطمع وحب المال وضعف النفس ووهن الإيمان وغياب الولاء والانتماء والسعي لإرضاء الشهوات والوقوع فريسة للنزوات.. دون أن يقروا بمبدأ الرحمة ولا نداءات الضمير الذي قد يستيقظ فيهم أحيانا. إنه عالم غريب يفتقر إلى العواطف ولا تصنيف للمشاعر تحت سمائه وفي دهاليزه المظلمة الغامضة. إنه عالم تستهوى فيه العقول على اختلاف مداركها وثقافاتها..عالم تقتحم فيه عوالم غريبة غامضة تضج بعجائب الخلق وشذوذ النفس.. عالم متوحش الأذرع، عديم الصفاء، لا يقر بالعلاقات والأعراف ولا يضع وزنا للمشاعر، نسيجه دائما قوانين لا تعرف الرحمة، أساسها الكتمان والسرية والجرأة، ووقودها المال والنساء والشهوة.. عالم يطوي بين أجنحته الأخطبوطية إمبراطوريات وممالك ويقيم نظماً ويدمر جيوشاً وأمماً ويرسم خرائط سياسية للأطماع والمصالح والنفوذ، فمنهن من باعت الوطن والدين في سبيل حبها للآخر العميل و أخرى اعتنقت ديانة أخرى في سبيل إرضاء حبيبها الجاسوس، ومنهن أيضا من عملت ضد وطنها وضمت أفراد عائلتها والمحيطين بها في دهاليز الجاسوسية أو خانت قدسية زواجها ووطنها في سبيل لذة جنسية مع العدو ... إنهن نساء عاشقات في بحر الجاسوسية . في اليوم التالي لوصولها فيينا عائدة من بيروت، وبينما آهات الحسرة تملأ شقتها إذا بها تسمع دقات خفيفة على باب شقتها. سارعت أمينة إلى حشو مسدسها، الذي كان يلازمها كخيالها، يملؤها الرعب والفزع. «يا الله لقد وقعت في أيدي المخابرات العربية..لقد اكتشفوني هذه المرة..ليتني لم أعد إلى بيروت..لماذا ذهبت هناك؟.. إنني مجنونة». بقيت هائمة وهي تردد دقائق هذه الكلمات والباب لا يزال يقرع.حينها سمعت صوتا هدأ من فزعها وخوفها. «آني افتحي لا تخافي». كان الضابط متأكدا من وجودها.كان الضابط رفقة رجلين آخرين قدموا من تل أبيب لإنهاء إجراءات الإرث الخاص بها دون إثارة مشاكل مع أسرة زوجها أو الجهات الرسمية، سواء في النمسا أو في إسرائيل. كان ميراثها وحدها مع التعويض يربو على النصف مليون دولار، مع الشقة الرائعة في ريشون لتسيون وضمانات حماية وأمن فوق العادة. لكن كان المطلوب منها أن تتعاون معهم مقابل ذلك، وتنفذ ما سيطلب منها بلا تردد. فبقياسات المخابرات، تعد أمينة المفتي كنزاً ثميناً لا يقدر بمال، فهي امرأة عربية فقدت وطنها وأهلها (تحمل ثلاث جنسيات: أردنية ونمساوية وإسرائيلية) وتعيش في وضع نفسي سيء مليء بالخوف، ولا مأوى لها سوى إسرائيل... لكل تلك العوامل كان لا بد من استغلالها واستقطابها، بقليل من بث الكراهية في نفسها ضد هؤلاء العرب الذين قتلوا زوجها، الذي كان يمثل لها الأمن والحماية، وبالضرورة كانت هي بحاجة ماسة إلى الأمن والحماية بعد ذلك. هكذا سقطت أمينة المفتي في مصيدة الجاسوسية، وسلمت نفسها للضباط الثلاثة، الذين أقاموا لها دورة تدريبية مكثفة استغرقت شهراً وأربعة أيام في شقتها بفيينا، تعلمت أثناءها أساليب التجسس المختلفة من تصوير وتشفير والتقاط الأخبار وكيفية الالتزام بالحس الأمني والتمييز بين الأسلحة وكيفية تحميض الأفلام والهرب من المراقبة واستخدام المسدس وتقوية الذاكرة وتخزين المعلومات والأرقام دون نسيانها... فكانوا يعرضون عليها مشهداً من فيلم سينمائي ويطلبون منها الإجابة: كم طبقاً كان على المائدة؟ ما لون ستائر الشباك؟ كم عدد درجات السلم؟...الخ تخرجت آني موشيه بامتياز من دورتها التدريبية الأولى في التجسس، فقد كان يتملكها الثأر والانتقام لحبيبها موشيه الذي قتل من طرف العرب بالقرب من الجولان والجنوب اللبناني، ولم تعد تزعجها هلاوس الليل عندما تحلم بهم وبمخابراتهم يلقون القبض عليها، ولم تعد تخاف من المارة بجوار شقتها إذ أصبحت قوية وتعتمد على نفسها وأضحت تخرج إلى الشارع بمفردها، هي التي كانت تخاف من أشعة الشمس. كانت مهمتها تنتظرها هناك في بيروت. غادرت آني فيينا إلى بيروت هذه المرة، ليس للبحث عن زوجها وإنما للانتقام له، مهمتها المحددة تقصي أخبار رجال المنظمات الفلسطينية، ورجال المقاومة الذين يؤرقون أمن إسرائيل، ويحيلون ليلها إلى نهار لشدة القصف والتفجيرات الفدائية.كانت أيضاً مكلفة بالتحري عن مراكز إقامة قادة المقاومة، والطرق التي يسلكها الفدائيون للتسلل إلى الأرض المحتلة، بالإضافة إلى ضرورة التغلغل داخلهم لمعرفة أعداد الفدائيين وتدريبهم وتسليحهم ومدى مهارتهم في التخفي والمناورة، وكذا مخازن الأسلحة. جاسوسة محترفة في بيروت، استأجرت آني شقة بإحدى بنايات الروشة، أجمل مناطق بيروت، حيث ترى الشاطئ المتعرج برماله البيضاء التي يتقاذفها البحر على ضفاف اليابسة، وهو المشهد الذي وصفه الشاعر الفرنسي «لامارتين» بقوله: «إن الطبيعة هنا . . بل كل شيء حولي أسمى من الخيال. لقد حلمت بجنة عدن . . لا . . بل لقد رأيتها». من شرفة شقتها كان أمامها البحر اللانهائي، وبقعتان من الصخور القاسية، هما صخور الروشة الشهيرة التي تكسر تلك اللوحة الناعمة وتزيدها جمالاً. وعلى بعد خطوات منها يقع مقهى الدولشي فيتا أشهر مقاهي بيروت، حيث المكان المفضل للفنانين والمثقفين والجواسيس والسياح. كان الشيء الوحيد الذي يضايقها هو انقطاع الحرارة عن التليفون. لذلك زارت صديقتها الأردنية خديجة زهران، وطلبت منها المساعدة. في الحال اتصلت خديجة بمانويل عساف، موظف التليفونات، الذي ذهب بنفسه إلى أمينة في اليوم التالي، ليؤكد لها أن المنطقة تعاني من بعض الأعطاب بسبب تجديدات بالشبكة، ووعدها بأنه سيسعى في القريب للتوصل إلى حل. منحته خمسين ليرة ليهتم بالأمر، ولكي لا ينسى منحته جسدها أيضاً. إذ وجدت فيه صيداً سهلاً تستطيع من خلاله التوصل إلى تليفونات وعناوين القادة الفلسطينيين. لم تندم عندما باعت الدين والوطن والأهل، فلم تجد غضاضة في بيع نفسها لمانويل، الذي خر مستسلماً أمام امرأة شابة بعينيها نداءات جوع، تفوح من جسدها رائحة الأنوثة والرغبة؟ لقد شلت إرادته وأذهبت بعريها عقله، وحاصرته فلم يعد يملك حيلة للفرار. وأقبل عليها بشراهة ونهم، باعتقاده أنه أوقع بامرأة ظمأى، بينما تصرفت هي كجاسوسة محترفة. بين أحضانه بدت في أقصى حالات الضعف، لكنها كانت أبعد ما تكون عن الإحساس بالمتعة.. هكذا تفعل النساء في عالم المخابرات والجاسوسية، فالجنس عندهن وسيلة فقط وليس هدفا. لكن صدمتها كانت كبيرة عندما تبين لها أن مانويل لا يملك ما تريده، فهو مجرد موظف صغير لا يملك قراراً، فلم يتملكها الإحساس بالندم أو الحسرة، بل أقنعت نفسها بأنها فشلت في تجربة أولى، وحتماً ستنجح في مرات مقبلة. حاول مانويل عساف الوفاء بوعده لتتوطد علاقته بالمرأة النارية، فلم يستطع لأن رئيسه في العمل مارون الحايك بيده كل شيء. لذلك صارحه بما حدث، واصطحبه إلى شقة أمينة داود المفتي. كان مارون الحايك متعدد العلاقات النسائية، يسعى وراء نزواته ومغامراته، وكان منشغلا بالتجسس على المحادثات التليفونية بين نساء المدينة، تستهويه لعبة المطاردة والبحث عن صيد جديد. وبغريزة الأنثى التي لا تخيب، أيقنت أمينة ما بنفسه، و كانت واثقة من كنز معلوماته عن الزعماء الفلسطينيين في بيروت. لذلك تركته يتناول معها وليمة فسق أتخمته وأحاطت عقله بسياج من غباء. وبينما الجسد المنهك ساكناً، أجاب عن أسئلتها وأطلعها (بعد عدة ولائم ) على التليفونات السرية للمنظمات الفلسطينية، ولزعماء الجبهات وعناوين إقامتهم بحي الريحانة الشهير. وبواسطة صندوق بريد ميت، صبت أمينة كل ما تفوه به مارون في خطاب من عدة صفحات، تسلمه عملاء الموساد في بيروت، لتجيئها الأوامر بعد ذلك بالتحرك دون انتظار، فالمطلوب منها هو الحصول على القوائم السرية لرجال المخابرات الفلسطينية «رصد» في أوروبا وصفاتهم، ولم يكن يتاح لها ذلك إلا من خلال مكتب منظمة التحرير الفلسطينية (مكتب ياسر عرفات شخصياً أو مكتب رئيس جهاز المخابرات علي حسن سلامة المطارد في كل مكان في العالم، والذي أطلقت عليه غولدا مائير لقب «الأمير الأحمر» لأنه بطل عملية ميونيخ التي قتل فيها أحد عشر إسرائيلياً). يتبع