أن يُقدم عامل بناء فلسطيني معدم على استخدام جرافة لتنفيذ عملية هجومية في قلب مدينة القدسالمحتلة بالطريقة التي شاهدناها عبر شاشات التلفزة، فهذا يعني أن كيل الصبر الفلسطيني على المجازر الإسرائيلية قد طفح، وأن هناك عقولا قادرة على ابتكار أكثر الوسائل غرابة وفاعلية ودموية لمقاومة الاحتلال، بعد أن كفرت بكل الادعاءات حول قرب إحلال السلام من خلال المفاوضات والوساطات الدولية. العالم المتحضر تسابق في ما بينه لإدانة هذه العملية، ووصفها بكل النعوت والأوصاف، ولكن لم يسأل أحد نفسه عن الأسباب التي دفعت هذا الشاب الصغير الذي لم يعرف غير الذل والهوان في حياته إلى الإقدام على ما أقدم عليه، ولم نقرأ سطرا واحدا في أجهزة الإعلام المتعددة يذكر المستنكرين بأن إسرائيل المدججة بالرؤوس النووية، قتلت 365 فلسطينيا في الأشهر الستة الماضية فقط، غالبيتهم الساحقة من المدنيين ونصفهم من الأطفال. فإسرائيل هي الحمل الوديع التي لا تقتل ولا تغزو دولا ذات سيادة (لبنان) ولا تحتل الأرض وتحرق مزروعات المواطنين وتصادر أراضيهم. وزراء خارجية العالم الغربي تباروا في ما بينهم في نحت الكلمات، والبحث عن أقواها لإدانة هذه العملية، فبعضهم مثل وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير وصفها ب»الشنيعة»، والبريطاني ديفيد مليباند ينعتها بأنها عمل مريع ويتسابقون في تقديم التعازي إلى الحكومة وأسر الضحايا الإسرائيليين، ولم نسمع من هؤلاء كلمة إدانة واحدة بالقوة نفسها، أو نصفها، عندما أبادت الصواريخ الإسرائيلية عائلة العثامنة في بيت حانون، أو أسرة عبد ربه في جباليا، حيث مزقت الشظايا أجساد الأطفال والرضع في جريمة لم يتردد القس ديزموند توتو عن وصفها بأنها من أبشع جرائم الحرب في العصر الحديث. لا أحد يقر أو يؤيد قتل المدنيين، بمن في ذلك نحن، سواء بالصواريخ أو بالجرافات، ولكن من حقنا أن نسأل بالجدية كلها، عن هذا الصمت المتواطئ المخجل والمعيب من قبل العالم الغربي، وحلفائه العرب المعتدلين للقتل الإسرائيلي المستمر لأطفال العرب والمسلمين وكأنه قتل حلال ومشروع، بينما يقوم العالم ولا يقعد عندما يغلي الدم في عروق شاب فلسطيني مسحوق ومهان، ويقدم على الانتقام من المجازر اليومية التي تستهدف أشقاءه، ويعتبر عمله هذا وحشيا. لماذا هذه النظرة العنصرية البغيضة حتى لعمليات القتل؟ فهل وجد هذا الشاب بندقية أو طائرة أو صاروخا حتى لا يلجأ إلى الجرافة لتنفيذ عمليته هذه؟ هذا الشاب بشر من لحم ودم وتجري في شرايينه جينات القهر ومن الطبيعي أن تثور كرامته وهو يرى الإسرائيليين ينعمون بالأمن والرخاء، بينما هناك مليون ونصف مليون من أشقائه يعاملون معاملة أسوأ من معاملة الحيوانات في قطاع غزة والضفة، في ظل حصار قاتل ظالم مهين يحرمهم من الحد الأدنى من العيش حتى كحيوانات. فالعالم الغربي المتحضر الذي يضع شروطا قاسية تمنع نقل الحيوانات، أو ذبحها بطريقة مؤلمة، أو غير مريحة، ويعاقب بالسجن من يخرق القوانين في هذا الصدد، لم يتحرك ضميره مطلقا وهو يرى إسرائيل توقف الأدوية والأغذية والوقود وتغلق المعابر أمام مليون ونصف مليون إنسان لعدة أشهر، وترسل صواريخها وطائراتها ودباباتها في غارات يومية لقتل الأبرياء وترويع من لم يمت منهم دون رحمة أو شفقة. ففي الوقت الذي كان هذا الشاب يقود جرافته ويحطم السيارات في طريق يافا في قلب القدسالمحتلة، كان الآلاف من أشقائه يتظاهرون أمام معبر الذل والهوان في رفح احتجاجا على المعاملة السيئة التي يعاملون بها، والعقوق العربي قبل الدولي تجاههم ومأساتهم. ماذا يتوقع الإسرائيليون من أبناء الشعب الفلسطيني أن يفعلوا وهم يرون مرضاهم يموتون أمامهم بسبب نقص الدواء، وإغلاق المعابر، أو عندما لا يجدون أكفانا أو حجارة اسمنت لدفن موتاهم نتيجة إغلاق المعابر بالكامل. هل يريدونهم أن يتدفقوا إلى المساجد للصلاة شكرا لإسرائيل وأمريكا وحلفائهما العرب المتخمين على هذه المعاملة الإنسانية الرائعة وغير المسبوقة؟ الشعب الفلسطيني يواجه أبشع أنواع المهانة من هذا الإسرائيلي المتعجرف الدموي محتل أرضه، وناهب ثرواته، وقاتل أطفاله، ومن قيادته الفلسطينية الذليلة التي تعانق القتلة، وتعطيهم صكوكا بالغفران، مقابل حفنة من دولارات الدول المانحة، وجريا خلف عملية سلمية مغشوشة هدفها إعطاء إسرائيل أطول مدة ممكنة لالتهام ما تبقى من الأرض من خلال حملات استيطانية مسعورة، فشلت كل التوسلات في تجميدها. إسرائيل لن تعرف الأمان طالما أنها مستمرة في سياساتها الدموية هذه، فإذا كانت الأسوار العنصرية قد نجحت في منع أو تخفيف العمليات الاستشهادية، والحصار الابتزازي الظالم أثمر في فرض التهدئة على حركات المقاومة في قطاع غزة ووقف إطلاق الصواريخ ولو مؤقتا، فإن هناك من أبناء الشعب الفلسطيني من لا تعوزه الوسيلة لابتكار طرق جديدة للانتقام، سواء بالجرافات أو غيرها، ويعلم الله بماذا سيخرجون علينا غدا من اختراعات جديدة تفرضها الحاجة والقهر. لا نستغرب مسارعة سلطة رام الله في إدانة عملية القدسالمحتلة هذه، وإن كنا نستغرب عدم وصفها ب«الحقيرة» مثل العمليات السابقة، وهو تطور يجب الالتفات إليه، فهذه الإدانة أمر متوقع، ولكن ما هو مستغرب هذا الحرص الشديد من جميع الأطراف على استمرار العملية السلمية، وعدم تأثرها بهذه العملية. أي عملية سلام هذه التي فشلت حتى الآن، رغم 15 زيارة لراعيتها السيدة كوندوليزا رايس، واثنتين لرئيسها جورج بوش، و17 لقاء قمة بين طرفيها عباس وأولمرت، وخمسين لقاء بين قائدي وفدي التفاوض أحمد قريع وتسيبي ليفني، فشلت في تفكيك حاجز واحد من ستمائة حاجز أو تجميد بناء وحدة سكنية واحدة في القدسالمحتلة؟ فقد كان مؤسفا أن يتحول الرئيس عباس، ورغم هذه الإهانات، إلى وكيل للتطبيع مع إسرائيل، ويتوسط لترتيب لقاء بين إيهود باراك وجلال الطالباني رئيس العراق الجديد على هامش مؤتمر الاشتراكية الدولية في اليونان. فلا غرابة، وهذا هو سلوك قادتنا، أن تستمر إسرائيل في احتلالها واستيطانها ومجازرها. لا نضيف جديدا عندما نتحدث عن النفاق الدولي، وندرك جيدا في الوقت نفسه أن موازين القوى ليست في صالح الفلسطينيين، ونحن هنا لا نتحدث عن القادة العرب فهؤلاء خارج المعادلة لأنهم لم يعودوا في معظمهم يستحقون حتى كلمة الانتقاد أو اللوم مثلما كنا نفعل في مناسبات مماثلة، ولكننا نعرف أن هذا الشعب الفلسطيني الذي لم تقهره المجازر، ولا الحصارات ليس من طبعه الاستسلام أو اليأس، وسيظل متمسكا بخيار المقاومة طالما استمر احتلال أرضه ومقدساته. فحصار غزة والتوغلات وعمليات الاغتيال الوحشية التي تمارس في الضفة بصورة شبه يومية، لن تنجب إلا جيلا من الاستشهاديين، يتواضع تطرف تنظيم القاعدة خجلا أمام شراستهم وتعطشهم للانتقام ممن فرضوا عليهم الوضع المذل الذي يعيشون في ظله. فالمسألة مسألة وقت لا أكثر ولا اقل، والزمن هو في صالح أهل الأرض وليس الطارئين عليها. نحن طلاب سلام، وندين كل أنواع العنف والإرهاب، ولكننا في الوقت نفسه لا يمكن أن نقبل هذا التغول الإسرائيلي في مواجهة أبرياء عزل، وبتشجيع ممن يدعون الانتماء إلى العالم المتحضر. العالم الذي قتل حتى الآن مليونا ونصف مليون عراقي وأفغاني ومازال يسعى إلى قتل المزيد. لا نقبل أي محاضرات في الإنسانية والرحمة والاعتدال من مدمني الحروب والقتل وسفك الدماء تحت مبررات كاذبة وزائفة، فلم نعد سذجا وأغبياء، ولم تعد محاضراتهم هذه تنطلي علينا.