في الظرفية الاقتصادية العصيبة التي تمر بها فرنسا، تبدو للمواطنون تصرفات التبذير والشطط في المال العام، التي يمارسها الوزراء وكبار المسؤولين، كإهانة للتضحيات التي تطالبهم الحكومة ببذلها. وغالبا ما يستنجد الوزراء والموظفون السامون أو النخبة المسيرة للبلاد، لتبرير أو تغطية الإسراف في المصاريف، بالمثل الفرنسي القائل: «الجمهورية سخية». وفي التاريخ الحديث للجمهورية الخامسة، أضحى الرئيس ساركوزي قدوة لبعض وزرائه في التبذير. في هذا الصدد، لم ينس الفرنسيون الميزانية السوريالية التي رصدها ساركوزي لقمة باريس من أجل المتوسط التي انعقدت في 13 يوليوز من عام 2008، والتي ناهزت 16.6 مليون أورو! إذ صرفت على 200 من المدعوين خلال حفلة العشاء وحدها ميزانية بلغت 1.010,256 أورو، أي بمعدل 5050 أورو للوجبة وللشخص الواحد. كما تم تركيب دش خاص في مكان انعقاد القمة، كان يستحم فيه الرئيس، بلغت تكلفته 245.772 أورو ! وخلال ترؤس فرنسا للمجلس الأوروبي، أغدق ساركوزي من المال العام على لقاءات، رحلات وحفلات عشاء، بلغت عند متم الرئاسة الفرنسية، التي دامت ستة أشهر، 175 مليون أورو، أي بنسبة 666 666 29.166 أورو في الشهر. لم يفت ديوان المحاسبة، وهو أعلى هيئة لمراقبة مصاريف المؤسسات العمومية أو شبه العمومية، الوقوف عند هذه التجاوزات. ففي تقرير 2009 الذي قدمه المجلس عن مصاريف الإليزيه، لربما اندهش المتتبع للمصاريف الخرافية، التي جندها قصر الإليزيه مثلا لقطاع الإعلام الرئاسي، والتي بلغت 7.5 ملايين أورو، تمثل 6.6% من ميزانية الرئاسة. ويعمل ب«الخلية الإعلامية للرئيس» 51 شخصا، يتقاضون راتبا شهريا يناهز 4700 أورو . كما أنفق الإليزيه على بعض الاستفتاءات لتلميع صورته 3 ملايين أورو. وتبلغ اشتراكات الإليزيه في الصحافة 18.1000 أورو. كما أنفق مبلغ 000. 500 أورو على خدمة الأنترنت. ضمن هذه الكعكة، حظي الموقع الالكتروني لمؤسسة السيدة الأولى، كارلا بروني ساركوزي، بمبلغ 50.000 ألف أورو، وحظيت «أقلام الرئيس»، وخاصة القلم الأول هنري غينو، مستشار وكاتب خطابات ساركوزي، بمكانة مميزة. إذ يصل راتبه السنوي، تبعا لأسبوعية «لوكانار أونشيني» الساخرة إلى 290.368.93 أورو! فصل آخر لا يقل طرافة عن «الإنجازات» السابقة، هي مصاريف رحلة 24 ساعة، التي قام بها الرئيس ساركوزي إلى جزيرة لارينيون، في يناير 2010، والتي بلغت 1.6 مليون أورو، خصصت 815.000 أورو للنقل، و50.000 أورو لوضع مكيف بالبارد، نظرا لسخونة الطقس بالجزيرة حول المنبر الذي ألقى منه ساركوزي الخطاب حتى لا تظهر بقع العرق حول إبطي الرئيس ! و17.000 أورو على مصاريف التمبر لإرسال الدعوات إلى مناضلي الحزب والشخصيات السياسية المحلية. وخلال حفل الغداء، قدمت 90.000 من كعكات المقبلات. أما فيما يتعلق بالإقامة، فقد حجز الرئيس أغلى فندق في الجزيرة (فندق بالم الجزيرة الصغيرة) لصالح 55 شخصا (وزراء، حراس شخصيون، رؤساء شركات ...) بمبلغ 13.000 أورو. وقد عود ساركوزي الفرنسيين على هذا النوع من التصرفات منذ وصوله إلى قصر الإليزيه. إذ دشن سياسة الأمر الواقع برفعه راتبه بنسبة 140%، حيث أصبح يتقاضى اليوم 21.133,37 أورو، دون «لقشيوشات» الإضافية. أشعر ساركوزي الوزراء، المساعدين والمقربين منه إذن بأن «الجمهورية سخية»، أي أن ضرائب الشعب هي مظلة سميكة، مما شجعهم على نهج سلوكات التبذير والإنفاق. وسيحفظ التاريخ لبعض الوزراء إسرافهم، واستعمالهم النفوذ، واستغلال المال العام لإشباع نزوات شخصية. وفي فضائح «سكن الخدمة» أو السكن الاجتماعي المخصص لذوي الدخل المحدود، الذي يحصل عليه الوزراء بالواسطة، لإيواء الأقارب، الأبناء أو المعارف، مثال ساطع على ذلك. وقبل انتخابه رئيسا، تعهد ساركوزي بوضع حد لهذه التجاوزات. لكن بعد ثلاث سنوات، لا زالت دار لقمان على حالها، إذ افتضح أمر عدد من الوزراء، وعلى رأسهم كريستيان إيستروزي، وزير الصناعة، وفاضلة عمارة، كاتبة الدولة لسياسة المدينة. قانونيا، يمنع على الوزراء الاستفادة من سكن محسوب على نفقة الدولة إذا ما كانوا يتوفرون على بيت شخصي في باريس. في فاتح يونيو الماضي، كشفت الأسبوعية الساخرة «لوكانار أونشيني» أن فاضلة عمارة سلمت مفاتيح الشقة التي وضعتها رهن إشارتها الدولة إلى أخويها، في الوقت الذي تقيم هي في عمارة بسيطة لا تتعدى مساحتها 50 مترا مربعا، تكتريها بمبلغ 700 أورو. حالة فاضلة عمارة هينة مقارنة بحالة كريستيان إيستروزي، وزير الصناعة الذي يستفيد من سكن من ثلاث غرف شاسعة، يقع في المقاطعة السابعة، أحد أغلى المقاطعات الباريسية، حيث «أنزل» فيه ابنته التي تتابع دراستها الجامعية ! ثم هناك حالة جورج ترون، كاتب الدولة في الوظيفة العمومية، الذي بمجرد تعيينه، كشفت بعض الصحف عن استفادته من سكن تابع لمصالح HLM، سكن بثمن معقول، بمساحة 118 مترا مربعا ! في ميدان آخر، تألق وزراء في حكومة ساركوزي في بذخ «بائخ» جدير بتصرفات بعض دكتاتوريي الجمهوريات الموزية، أمثال كريستيان بلان وألان جويندي، اللذين قدما استقالتيهما يوم الأحد الماضي. في الأسبوع الماضي، اتهمت أسبوعية «لوكانار أونشيني» كريستيان بلان باقتناء كمية محترمة من السيغار بقيمة 12.000 أورو على حساب خزينة الدولة! أما ألان جواندي، الذي شغل منصب كاتب دولة مكلف بالتعاون والفرانكفونية، فقد أغدق على نفسه «من عندياتهم»، لما اكترى طائرة خاصة بثمن 116.500 أورو للمشاركة في ندوة دولية ب«ليزانتي»، فيما وراء البحار، لإغاثة هايتي ! وكان من الأجدى أن يرصد هذا المبلغ لمساعدة إحدى الجمعيات الخيرية العاملة في الميدان لمساعدة ضحايا الزلزال. لكنه فضل التنقل إلى الأجواء الاستوائية. تضاف إلى هذه السلسلة فضائح طرية عززت قناعة المواطنين بأنهم حيال نظام مرتش من الداخل، يطالبهم ببذل التضحيات، لكن وزراءه لا يتورعون عن الإسراف والصرف بلا حساب. كريستين بوتان، رئيسة الحزب الديمقراطي المسيحي، ووزيرة الإسكان والمدينة في حكومة فرانسوا فيون إلى غاية 23 يونيو 2009، تقدم لنا برهانا آخر عن الاستخفاف بالمال العام. إذ بعد خروجها الفاشل من الحكومة، عهد إليها قصر الإليزيه، لإسكات انتقاداتها ضد الحكومة، بمهمة إعداد دراسة عن «النتائج الاجتماعية للعولمة». وتحولت المهمة إلى منصب تابع لوزارة الشغل، أصبحت تتقاضى بموجبه راتبا بمبلغ 9500 أورو شهريا، تنضاف إليه ميزانية تغطي مصاريف الكاتبة، السائق. وبعد كشف النقاب عن هذه «المهمة الشبحية»، تخلت كريستين بوتان عن الراتب. ثم جاءت «فضيحة إيريك فورت»، نسبة لوزير الشغل، المتورط في مسلسل ينهل من روح دالاس، حيث يطوف حول المال، البعض في العلن والبعض الآخر في الخفاء، أشخاص أصابهم خرف السن، وآخرون طامعون في الاستحواذ والسلطة. ويوجد النظام، بسبب هذه الفضيحة وعلى خلفية الموقع الذي يحتله إيريك فورت، بصفته وزيرا للشغل وأمين صندوق حزب ساركوزي، في قلب الإعصار، الشيء الذي يفسر التفاف الأغلبية حوله كي لا ينهار ويفشي أسرارا تتعلق بتمويل ليليان بيتانكور، التي تتربع على إمبراطورية لوريال l'oréal ، مؤسسة مواد التجميل، لحزب التجمع من أجل حركة شعبية، الذي يتزعمه الرئيس ساركوزي. وحسب الجريدة الالكترونية «ميديابارت»، التي كانت أول من كشف عن تورط الزوجين فورت في قضية ليليان بيتانكور، فقد سلمت هذه الأخيرة، نقدا، لبعض الشخصيات السياسية المنتمية لليمين الفرنسي مبالغ مالية، تسلم منها إيريك فورت ظرفا بمبلغ 150.000 أورو، استعمل في تمويل الحملة الانتخابية لرئاسية ساركوزي، الشيء الذي فنده فورت. التدبير والتبذير خلقت وخلفت هذه الفضائح كسورا في صورة الساركوزية وطرق تدبيرها، التي تبين في الأخير أنها تقوم على التبذير والمحسوبية. الشيء الذي حذا بساركوزي أخيرا إلى محاولة تدارك الوضع وطرح سياسة تقشف أعلن عن خطوطها العريضة في رسالة من 6 إجراءات، موجهة للوزير الأول فرانسوا فيون. وقد تحدثت بعض الصحف عن وصايا ساركوزي الست للحد من التبذير: عدم تحمل الدولة لكراء سكن المسؤولين في القطاع الخاص، مع فرض ضريبة الدخل على المستفيدين من سكن الخدمة. تأطير وتقنين تنقلات الوزراء مع إعطاء الأسبقية للرحلات على متن القطار والحد من عدد المرافقين. وفيما يخص مبيت الوزراء، إعطاء الأسبقية للنزول في السفارات بدل الفنادق. بيع ساركوزي طائرتين من أسطوله الخاص كان يستعملهما في تنقلاته الرسمية. تقليص عدد المساعدين إلى حد لا يتجاوز 20 شخصا بالنسبة للوزراء، وأربعة بالنسبة لكتاب الدولة. وليس هذا الإجراء بجديد، إذ أعلن عنه ساركوزي غداة انتخابه، لكنه لم يخرجه إلى حيز التنفيذ يوما. تقليص الميزانية المخصصة لهؤلاء المتعاونين بنسبة 10% . تطبيق سياسة التقشف أيضا على الموظفين السامين، وذلك بالحد من الهدايا العينية. كما يرغب ساركوزي في وضع حد للسكن الذي يستفيد منه بعض الموظفين السامين، ويهم هذا الإجراء 7000 شقة. يرغب ساركوزي أيضا في إلغاء 10.000 سيارة دولة مستعملة من دون فائدة. إلغاء الحفل الذي يقام في رحاب قصر الإيليزيه بمناسبة العيد الوطني. ويتذكر الجميع الحفل الضخم، الذي أقامه السنة الماضية المغني جوني هاليداي، الصديق الحميم لساركوزي، تحت برج إيفيل بمناسبة العيد الوطني، بحضور 700.000 متفرج. وبلغ مجمل الفاتورة التي أدى ثمنها المواطنون 3 .1 ملايين أورو ! إلغاء رحلات الصيد. تقليص استهلاك الورق إلى النصف من طرف مختلف الإدارات. تقليص مساحات الملكيات الإدارية. إلى أي حد يمكن لهذه النوايا أن تتحول إلى إجراءات ناجعة قد تساعد على تلميع الصورة أو إعادة وضعها في إطار سوي، وبالتالي الحد من التذمر، الذي ساد المواطنين الفرنسيين الذين يعرفون أنهم أول ضحايا سياسة التقشف والتبذير. وهناك من الفرنسيين من لا يثق في إعلان النوايا هذه التي تتناقض وبعض الثوابت. إذ في الوقت الذي أعلن ساركوزي عن بيعه طائرتين من الأسطول الجوي الرئاسي، اقتنى طائرة رئاسية جديدة من نوع إيرباص A-330-200 مجهزة بأحدث التكنولوجيات على غرار طائرة One Force التي يقلها رؤساء أمريكا. و قد بلغت الميزانية المخصصة لهذه الجوهرة176 مليون أورو ! كما استغرب العديد من الفرنسيين من رغبة ساركوزي في شد حزام التقشف، مطالبا إياهم بالتضحيات، فيما لم يقدم على تخفيض راتبه!. وسيكون من الصعب على ساركوزي، الذي تعرفه شعبيته مستوى حضيضيا غير مسبوق (سجل حسب نتائج آخر إحصاء صدرت نتائجه يوم الثلاثاء الماضي 64 في المائة من الآراء السلبية)، صعود المنحدر، اللهم إذا أعمى الرأي العام بقضية النقاب الذي هو قيد النقاش والمداولة في رحاب الجمعية الوطنية!.