يعيش المغرب منذ يومين واحدا من أكثر الإضرابات تأثيرا على توازنه المالي. يتعلق الأمر بإضراب 4300 موظف من موظفي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. عندما نترجم هذا الإضراب إلى لغة الأرقام، فإننا نستنتج أن يوما واحدا من الإضراب في هذه المؤسسة يكلف الفائض السنوي المودع بصندوق الإيداع والتدبير مبلغ ملياري سنتيم، كما نستنتج أن 27 مؤمنا اجتماعيا سيحرمون من تعويضات التغطية الصحية، إضافة إلى أن 9000 ملف لن يتم استلامها، وقرابة 20 ألف زائر سيحرمون من الاستشارات التي تقدمها مصالح الصندوق. والسبب الرئيسي لإضراب مستخدمي وموظفي هذا الصندوق هو الضغط في اتجاه جعل الإدارة العامة تستجيب لمطالب الشغيلة، وخصوصا مطلب الرفع من الأجور. وربما يقول قائل إن مطلبا مثل هذا في هذه الظروف الاقتصادية العصيبة يعتبر مغامرة مالية غير محسوبة المخاطر. وأمامنا مثال إسبانيا التي أعلن رئيس حكومتها، قبل أمس، عن قرار تخفيض أجور موظفي المؤسسات العمومية بخمسة في المائة، في أفق تجميد الأجور برسم السنة المقبلة. الفرق الوحيد بيننا وبين إسبانيا هو أن الرئيس الإسباني عندما قرر خفض أجور الموظفين بخمسة في المائة، أعطى المثال بنفسه وبوزرائه وقرر خفض راتبه ورواتب النواب البرلمانيين والوزراء بخمسة عشر في المائة، أي أن راتبه ورواتب وزرائه ونواب البرلمان ستعرف انخفاضا ثلاث مرات أكثر من رواتب الموظفين الصغار والمتوسطين. وفي الوقت الذي يخفض فيه رئيس الحكومة الإسبانية راتبه ورواتب كبار مسؤوليه، نرى كيف أن رواتب جميع المدراء العامين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عرفت زيادة وصلت إلى ستة آلاف درهم للمدير. وليس هذا وحده ما أثار غضب موظفي ومستخدمي الصندوق الذين ينتظرون التفاتة من وزارة المالية منذ سنوات، وإنما قرار الوزارة الوصية تمديد هذه الزيادة السخية لكي تشمل السنتين الماضيتين. وهكذا سيحصل هؤلاء المدراء، فضلا عن الزيادة، على «رابيل» قدره 15 مليون سنتيم لكل مدير. ولهذا السبب بالضبط، انفجر موظفو ومستخدمو الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ونفذوا إضرابهم الناجح الذي استمر ثلاثة أيام كاملة. إذا كانت الظرفية الاقتصادية في المغرب لا تسمح برفع أجور الموظفين والمستخدمين العموميين، فالمنطق يقتضي أن يتم حرمان الجميع من الزيادة. لكن أن يشهر وزير المالية ووزير الشغل ووزير الشؤون العامة والاقتصادية للحكومة، في كل مرة يطالب فيها الموظفون بالرفع من أجورهم، ورقة الأزمة، لكي نكتشف فيما بعد أن وزير المالية أفرج عن زيادة سمينة للمدراء ورؤساء الأقسام في المؤسسات العمومية والوزارات، فهذا اسمه «الطنز». إن الوزراء والمدراء العامين والموظفين الكبار هم أول من يجب أن يعطي المثال للآخرين عندما تجتاز البلاد أزمة مالية واقتصادية. وما حدث قبل أمس في إسبانيا يجب أن يكون درسا عميقا لعباس الفاسي وحكومته التي توزع الزيادات بالملايين على المدراء الكبار ورؤساء الأقسام والكتاب العامين في المؤسسات العمومية والوزارات. ولعل أول قرار يجب أن يتخذه عباس الفاسي بعد سماعه للقرار التاريخي الذي اتخذه الرئيس الإسباني، هو قرار «تخميله» لديوانه الخاص بالوزارة الأولى. وإذا ضربته «النفس» وقام بذلك، فأكيد أنه سيعثر على موظفة تتقاضى ثلاثين ألف درهم من أموال الشعب دون أن تكلف نفسها الحضور يوما إلى ديوانه. فالسيدة تعتقد أن هذه الوظيفة تستحقها لمجرد أنها زوجة وزير استقلالي مقرب من الوزير الأول اسمه سعد العلمي يحمل حقيبة وزارة تحديث القطاعات العامة. «حدثنا القطاعات بكري». ولن يعثر وزيرنا الأول فقط على هذه الموظفة الشبح التي تكلف خزينة الدولة رواتب ثلاثة مهندسين، وإنما سيعثر على موظفين آخرين يتقاضون رواتب مرتفعة دون أن يصنعوا شيئا يذكر، منهم زوجة كاتبه العام في الشبيبة الاستقلالية ورئيس تحرير الجريدة الناطقة باسم حزب الاستقلال، والتي لا أحد يعرف على وجه التحديد الوظيفة التي تشغلها في ديوان الوزير الأول، أضف إليها الحلو ابن المحامي صديق عباس الفاسي والذي يتكلف له بملفات مكتب محاماته أثناء غيابه الحكومي. على الوزير الأول أن يعطي المثال لوزراء حكومته، وذلك بإعفاء أفراد عائلته الذين شغلهم في ديوانه، وبتخفيض راتبه ورواتب وزرائه، ومطالبته بتخفيض رواتب النواب البرلمانيين والمستشارين وكبار الموظفين والمدراء والكتاب العامين، لأن الأزمة الاقتصادية ستطرق باب المغرب قريبا إذا استمر عجز الميزان التجاري في التفاقم ونزل احتياطي العملة الصعبة في بنك المغرب إلى ما تحت ستة أشهر. ونتمنى ألا يصدق عباس الفاسي ما قاله مدير صندوق النقد الدولي «دومينيك ستروس خان» من أن المغرب مثال جيد للدولة التي استطاعت تجاوز الأزمة الاقتصادية بفضل تنوع اقتصادها، وأن معدل النمو في المغرب مرشح للارتفاع، والحال أن الجميع يعرف أن المغرب ظل واقفا على رجليه بفضل الأمطار التي أعطت إنتاجا فلاحيا قياسيا لسنتين متتاليتين. لا يجب أن يصدق عباس ما قاله رئيس صندوق النقد الدولي، لأن هذا الأخير لن يرحم المغرب إذا ما نزل احتياطي العملة الصعبة في صناديق بنك المغرب إلى ثلاثة أشهر، آنذاك سنرى كيف سيخضعنا «دومينيك ستروس خان» للتقويم المالي حسب شروط صندوقه. إذا كانت دول الاتحاد الأوربي تسابق الزمن لتخفيض مصاريف المؤسسات العمومية من أجل التحكم في التضخم، فكيف تستمر الحكومة المغربية في السماح لنفسها بالرفع من أجور موظفيها الكبار على حساب رواتب موظفيها الصغار، خصوصا وهي ترى كيف أن نسبة كبيرة من مصاريف الدولة تذهب لسد الهوة السحيقة التي يتسبب فيها تفاقم عجز الميزان التجاري. إن الاستثمار الحقيقي الذي يجب أن تقوم به الحكومة هو الاستثمار في الصناعات الوطنية لتأهيلها لمواجهة معركة تحرير التجارة التي يصل صدى طبولها إلى المغرب من الآن. فسنة 2012 على الأبواب، والمغرب للأسف يواجهها برقم مخجل أعلنت عنه الحكومة، يقول إنه خلال العشر سنوات الأخيرة تضاعفت شركات الاستيراد في المغرب بثلاثمائة في المائة، فيما لم تتجاوز نسبة تأسيس شركات تصدير بالمغرب ثلاثة في المائة فقط. بمعنى آخر، فاحتياطي العملة الصعبة الذي يجمعه المغرب من السياحة وتحويلات المهاجرين المغاربة تنفقه الدولة على البضائع التي تستوردها ويتم استهلاكها داخل المغرب على حساب المنتوج المحلي الذي لا يجد من يحميه. وكيف سيستطيع أحد أن يحمي المنتوج المغربي إذا كانت الحكومة نفسها، على عهد الطيب الفاسي الفهري الذي فاوض الأمريكيين حول اتفاقية التبادل الحر، قد وقعت للأمريكيين شيكا على بياض وفتحت أمامهم السوق المغربية على مصراعيها لكي يبيعوا المغاربة منتجات نستطيع إنتاجها بأنفسنا. هذا في الوقت الذي لازال فيه «التوانسة» يجرجرون الأمريكيين إلى اليوم دون أن ينجحوا في جعلهم يوقعون معهم على اتفاقية للتبادل الحر شبيهة بتلك التي أجبروا المغرب على توقيعها معهم. وفي الأخير، لم يجد «التوانسة» من خيار سوى تقديم لائحة إلى الأمريكيين بمئات المنتجات التي يمنع عليهم تصديرها إلى تونس. وبهذه الطريقة، يكون التونسيون قد ضمنوا الحماية لصناعتهم الوطنية ضد الغزو الأمريكي. وطبعا، رفض الأمريكيون مقترح «التوانسة»، ولازالوا إلى اليوم يركضون وراءهم من أجل توقيع اتفاق تبادل حر. أما «دياولنا» فقد وقعوا بأعينهم مغمضة، والنتيجة أننا نعثر اليوم على تمر أمريكي من صنف «المجهول» قادم من كاليفورنيا ينافس في الأسواق تمر «المجهول» المغربي القادم من الجنوب. إن سياسة النعامة التي يمارسها الوزير الأول بخصوص تفاقم عجز الميزان التجاري، ستؤدي بالاقتصاد المغربي إلى عواقب غير محمودة. ولعل الوقت حان لمطالبة الحكومة بتقديم مخطط لحماية الصناعات الوطنية من الغزو القادم والذي سيجتاح المغرب بعد أقل من سنتين من الآن. إن الاستعداد لهذه المعركة يبدأ، أولا، بتقديم الوزير الأول ووزرائه وممثلي الشعب للمثال في المحافظة على الميزانيات العمومية. وأمامهم مثال رئيس الوزراء الإسباني الذي بدأ براتبه ورواتب وزرائه وكبار موظفيه. وإذا استمر عباس الفاسي في «زبر» رواتب الموظفين الصغار وتسمين رواتب الموظفين الكبار، فهذا يعني أنه لم «يقشع» شيئا في التحولات الاقتصادية التي يعرفها العالم من حوله، مما سيعرض حكومته لإضرابات خطيرة وقاتلة من قبيل إضراب 4300 من موظفي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.