تحت وقع الضربات اليومية للصحافة الفرنسية المستقلة، لم يجد وزيران في الحكومة -أحدهما الوزير المنتدب للتعاون والفرانكوفونية آلان جويانديه، والثاني كريستيان بلان الوزير المنتدب لباريس الكبرى- من طريقة لإنقاذ حكومة ساركوزي من تدني شعبيتها الأسطوري سوى تقديم استقالتيهما من الحكومة. أحد هؤلاء الوزراء اشتهر بتدخينه للسيغار الكوبي الفاخر على حساب دافعي الضرائب، تماما مثلما كان يصنع مدير المكتب الوطني للمطارات عندنا، عبد الحنين بنعلو، قبل أن يتم إعفاؤه من منصبه دون مساءلته عن كل الصفقات المشبوهة التي تمت في عهده. لكن شهية الصحافة الفرنسية المستقلة والمفتوحة لإسقاط رؤوس حكومة ساركوزي تطمح إلى ما هو أكبر من رأسي وزيرين منتدبين، فهي تريد المرور إلى الطبق الرئيسي في هذه الوجبة الدسمة وهو رأس وزير العمل، إريك فوبرت، الذي تورط في فضيحة «تعارض مصالح» بحكم أنه كان وزير الميزانية من 2007 إلى 2010 عندما كانت زوجته تدير قسما من ثروة «ليليان بيتانكور»، وريثة شركة «لوريال» العملاقة لمستحضرات التجميل، المتورطة في فضيحة التهرب الضريبي. في فرنسا تقوم الصحافة بممارسة دورها كسلطة رابعة، فهي تفضح التجاوزات وتضع الأصبع فوق المناطق العفنة حتى لا يجتاح العفن البلاد كلها. ورئيس الحكومة عندما يرى أن ما تنشره الصحافة صحيح وغير قابل للتكذيب، فإن أول شيء يقوم به هو التضحية بالرؤوس الفاسدة. ولو أن ما يقوم به الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ليس مقياسا حقيقيا للصدق والنزاهة، فهمه الأول والأخير هو أن يرفع من شعبيته التي نزلت إلى حدود الثلاثين في المائة، أي أن حوالي سبعين في المائة من الفرنسيين يعتقدون اليوم أن ساركوزي يقودهم نحو الهاوية. وعندما يقيل ساركوزي وزيرين منتدبين في الحكومة، فإنه يصنع ذلك لحماية وزيره في العمل الذي يسهر على إعداد قانون التقاعد الجديد الذي يعول عليه ساركوزي للإفلات من الأزمة. وعندما ينتقد استهلاك أحد وزرائه للسيغار الكوبي الفاخر على حساب الدولة، فإنه في اليوم الموالي يغير أجهزة طائرته الخاصة بأجهزة أخرى متطورة وأكثر تكلفة من السابق. المهم أن رئيس الحكومة يفعل ما بوسعه لإنقاذ المظاهر. فهيبة الدولة الديمقراطية تقتضي السرعة والفعالية في معاقبة الوزراء والمسؤولين العموميين الذين تفضحهم الصحافة أمام الرأي العام، وإلا فإن هذا الرأي العام الغاضب سيطالب الرئيس نفسه بالرحيل عن قصر الإليزيه إذا لم يبادر ساكنه إلى الإطاحة برموز التبذير واستغلال النفوذ. الوضع عندنا نحن في المغرب مختلف تماما. وبشكل منتظم، تصدر التقارير والدوريات السنوية التي تتحدث عن ارتفاع نسبة الرشوة والتبذير وتبديد المال العام، وتصدر التقارير المفصلة حول أكثر المؤسسات العمومية تضييعا لأموال دافعي الضرائب، وتكشف بالأرقام والأسماء عن كيفية ارتكاب هذه الجرائم المالية. وقبل أشهر، صدر التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات. ورغم كل المداد الذي أساله التقرير، ورغم كل الملايير المنهوبة التي حددها القضاة بالأرقام والفواصل، لم تتحرك بعد الآلة القضائية لمحاسبة المسؤولين الذين أتى التقرير على ذكر أسمائهم. واليوم يصدر تقرير جديد عن الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، يقول إن الرشوة تكلف المغرب خسارة تقدر بأزيد من 27 مليار درهم سنويا، وأن المغرب عوض أن يقضي على الرشوة زادت بحوالي ثماني درجات. مصيبة مؤسسات الرقابة، مثل الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة والمجلس الأعلى للحسابات، أنها تحولت إلى مؤسسات للاستماع وجمع المعلومات والأرقام وإصدار التقارير السنوية التي تذهب مباشرة إلى الأرشيف. فالمؤسستان ليست لديهما صلاحيات المساءلة والمتابعة. وحتى إذا كانت لإحداها هذه الصلاحيات، فإنها معطلة حتى إشعار آخر بسبب انتظار مديريها اشتعال أضواء خضراء في أمكنة ما. إن وضعية المغرب مع كل هذه المؤسسات الرقابية التي تحيط به، تشبه كثيرا وضعية مريض يتوصل يوميا في سريره بتقارير طبية وتحاليل وصور إشعاعية تصف حالته المرضية بتدقيق. وجميع هذه التقارير الطبية تقول للمريض وعائلته إنه مصاب بتضخم في القلب بسبب السمنة والكوليستيرول الضار الذي يسد شرايينه. والحل الوحيد المتبقي أمامه لكي ينقذ نفسه من العملية الجراحية أو السكتة القلبية هو تخفيف الوزن والخضوع لحمية صارمة. لكن عائلة المريض عوض أن تجبر مريضها على تناول الدواء والخضوع لحمية صارمة، تضع كل هذه التقارير والفحوصات الطبية جانبا، وتغير الطبيب بطبيب آخر. المشكلة أن أي طبيب تذهب عنده عائلة مريضنا يشخص لها المرض نفسه ويصف لها الأدوية نفسها. لكن المصيبة هي أنه لا أحد يريد تجريب الدواء، الجميع متفق على تجريب الأطباء والحصول منهم على تشخيص مدقق لحالة المريض. كما لو أن المرضى يتعافون بتشخيص الأمراض وليس بمعالجتها. الجميع في المغرب يعرف طبيعة المرض الذي تعاني منه البلاد. ولذلك، فلا حاجة بنا إلى المزيد من التحاليل والصور الإشعاعية التي تشخص الأمراض التي يعاني منها المغرب. نريد أن تعطينا الدولة ومؤسسات الرقابة والبرلمان دواء ناجعا لتوسيع شرايين قلب هذا الوطن التي تعاني من الانسداد والتصلب. وإذا كانت بعض المؤسسات العمومية ترفض أخذ الدواء، فيجب ربطها إلى السرير وإعطاؤها إياه بالقوة عن طريق الفم. المهم أن تتجرع الدواء المر حفاظا على الجسد من الانهيار. عندما نكتب كل يوم عن الصفقات المشبوهة التي تستفيد منها بعض الشركات المحظوظة من المؤسسات العمومية دون المرور عبر المساطر القانونية التي ينص عليها القانون، دون أن يتحرك أحد لفتح تحقيق في الموضوع، فهذا يسمى تواطؤا مفضوحا مع المرتشين الكبار الذين يلعبون في الصفقات العمومية التي تساوي الملايير. نعم، هناك في المغرب رشوة عشرة دراهم في الإدارات العمومية والمستشفيات والطرق، لكن الأخطر على قلب المغرب المريض هو رشوة الملايير التي تمر بفضلها الصفقات العمومية في بعض المؤسسات الحكومية والمؤسسات العمومية التابعة لها. لأن هذه الرشوة الكبيرة هي التي تخيف المستثمرين الأجانب الذين يشعرون بالرعب من القدوم إلى المغرب، لأن مناخ الاستثمار غير واضح ومياهه تحوم وسطها حيتان متوحشة وأسماك قرش يمكن أن تبتلع رأسمالك بسرعة خاطفة. وحتى عندما تصدر مؤسسات الرقابة على المال العمومي تقارير مفصلة حول جرائم هذه الحيتان المتوحشة، فإن القضاء، بمؤسساته، يقف عاجزا عن القيام بواجبه وإرجاع الأموال المنهوبة إلى صناديق الدولة. إن المكان المناسب لمؤسسات مثل «المجلس الأعلى للحسابات» و«الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة» هو «ديوان المظالم». فهذه المؤسسات جميعها في النهاية لم تعد تصلح سوى لتلقي شكاوى الموظفين الذين يستمع إليهم قضاة «المجلس الأعلى للحسابات» وموظفو «الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة» عندما يكونون بصدد إنجاز تقاريرهم السنوية. يكفي الآن من إصدار تقارير دورية لتشخيص حالة المغرب المريض، لقد فهمنا أن البلاد مريضة بالفساد المالي والرشوة والتهرب الضريبي وتبييض الأموال. والجميع اليوم يريد دواء ناجعا لمقاومة هذه الأمراض والقضاء عليها قبل أن تقضي علينا جميعا. سيكون الدواء مرا، لكن لا بد من ابتلاعه لكي تتعافى البلاد وتكمل مسيرتها نحو النمو. سيكون من العبث الاستمرار في إنفاق الميزانيات على مؤسسات لتشخيص الأمراض. المطلوب اقتناء وصفة أدوية فعالة وإجبار المريض على ابتلاعها. وإذا رفض فما على أهل المريض سوى أن يحقنوه بها. وأحسن دواء لتفادي انتقال المرض هو بتر الأجزاء المتعفنة في أجهزة الدولة والحكومة والمؤسسات العمومية. «اللحم إلى خناز كايهزوه ماليه».