لاحظ أحد الأصدقاء الأجانب وهو يتجول معي في شوارع الدارالبيضاء أن أغلب أسماء المحلات التجارية والمقاهي والمطاعم مكتوبة باللغة الفرنسية. فلم يتمالك نفسه وسألني إن كانت العاصمة مسكونة، في أغلبها، من طرف الفرنسيين. فقلت له إن الفرنسيين لا يكادون يشكلون في العاصمة حتى واحد في المائة، لكن يبدو أن هناك مغاربة يعتبرون أنفسهم فرنسيين أكثر من الفرنسيين أنفسهم، لذلك يحبون أن يتواصلوا مع الآخرين بغير لغتهم. فسألني عن السبب، فحكيت له حكاية القرد سعدان التي أبدعها الكاتب المسرحي الراحل سعد الله ونوس في إحدى مسرحياته. تقول الحكاية إن قردا يدعى سعدان ملّ حياة القرود في الغابة وفكر في الذهاب إلى المدينة لكي يعيش بين البشر. وفعلا غادر القرد سعدان الغابة ووصل مشيا على الأقدام إلى المدينة، وبينما هو يتجول في الشوارع لاحظ أن الناس ينظرون إليه ويتضاحكون، فظن في بادئ الأمر أنهم معجبون بخلقته فأخذ يبادلهم الضحكات. لكنه عندما وقف أمام الواجهة الزجاجية لأحد المحلات تأكد أن الناس كانوا يضحكون منه بسبب عورته المفضوحة وليس إعجابا بخلقته. فقرر أن يلبس الثياب مثلهم لكي يشبههم. فدخل أول محل صادفه وطلب من صاحبه أن يمنحه ثيابا يستر بها عورته. لكن التاجر طلب منه نقودا مقابل الثياب، والقرد سعدان القادم من الغابة ليس معه ما يسدد به ثمن الثياب. وعندما رآه التاجر منكسرا لمعت عينه من المكر واقترح على القرد سعدان أن يلبس الثياب ويشتغل عنده بالمقابل في المحل على جلب الزبائن. فقبل القرد سعدان دون مناقشة. فأحضر التاجر قفصا كبيرا ووضعه أمام باب المحل وأدخل فيه القرد الذي بدا فرحا بثيابه الجديدة. بدأ الأطفال يقتربون من المحل ويقفون أمام القفص ويخرجون له ألسنتهم شامتين، ومنهم من يرمي إليه بقطع الحلوى وقشور الموز. أصبح سعدان فرجة للمتطفلين والزبائن وكثر الإقبال على المحل. ومع مرور الأيام، شعر القرد سعدان بالملل في عالم البشر، وتأكد من أنه لم يخلق للعيش في المدينة، وأنه رغم لبسه لثياب البشر فإنه لن يصبح أبدا واحدا منهم. فنزع ثيابه وطلب من التاجر أن يستعيدها وأن يفتح له القفص ليخرج ويعود إلى الغابة. وهكذا اقتنع القرد بأنه سيظل قردا حتى لو لبس أجمل الثياب وأغلاها ثمنا، فعاد إلى العيش بين أشباهه القردة، عاريا كما ولدته أمه. فنظر إلي الصديق مليا وهو يحاول أن يربط بين طغيان الفرنسية على أسماء المحلات التجارية والمقاهي والمطاعم، وبين عورة القرد سعدان. فقلت له إن هناك بيننا من يعتقد أنه أصبح فرنسيا بمجرد ما يضع اسما بحروف فرنسية فوق باب محله، وهناك من تعتقد نفسها قد أصبحت فرنسية لمجرد أنها تثرثر في الهاتف وهي جالسة في مقصورة الدرجة الأولى بالقطار. وأمثال هؤلاء يعيشون في المغرب بأجسادهم بينما عقولهم في فرنسا، حتى إن بعضهم يمكن أن تحسبه على الجالية الفرنسية المقيمة بالمغرب. ومأساة هؤلاء المساكين أن الفرنسيين لن يعتبروهم أبدا في يوم من الأيام فرنسيين مثلهم، حتى ولو تفوقوا عليهم في إجادة لغتهم. فسألني إن كان هناك قانون يجبر التجار على إدراج اللغة العربية إلى جانب الفرنسية في كتابة أسماء محلاتهم، فقلت له إن الدستور عندنا يقر اللغة العربية لغة رسمية للمغرب، لكن يبدو أن بعضهم لا يحترم اللغة العربية في هذه البلاد، فهو يعتبرها لغة المعقدين والمتخلفين الذين لا يسايرون العصر. وكل من فتح مقهى أو مطعما كتب على واجهته بالفرنسية «مقهى مانهاطن» أو «مطعم لاكاصرول». والكارثة أن بعض المقاهي لا تتوفر حتى على مرحاض لائق وتجد صاحبها قد كتب على مدخلها بالفرنسية «كافي لوبو كوان»، والمصيبة هي أنك عندما تدخل مرحاضه لا تجد فيه حتى «الكاغيط». وأصبح عاديا في المغرب أنك عندما تدخل أحد المطاعم وتطلب لائحة الطعام تجد أنها مكتوبة عن آخرها بالفرنسية. المحل مغربي والزبائن مغاربة والأكل مغربي واللغة فرنسية، «وفهم شي حاجة». ولعلنا نحن المغاربة نوجد على رأس الشعوب التي تحتقر لغتها، ومنا من بمجرد ما يقضي ستة أشهر في بلاد أجنبية يبدأ في الحديث معك عندما تلتقيه بالعربية وهو يتلعثم، وعندما تسأله لماذا ثقل عليه لسانه، يقول لك: - «غير سكت، مع بركت فالخاريج بزاف بدات كاتنسى ليا العربية»! ولعل هذه المصيبة نلاحظها أكثر عند بعض فناناتنا اللواتي يذهبن للعيش في بلدان الخليج، وبمجرد ما يأتين في عطلة إلى المغرب ويسألهن صحافي في التلفزيون عن أحوالهن يجبن: - واللاهي أنا مش عارفة شو أحكي معاك، يعني ماشي الحال معايا، وأنا وحشني المغرب ووحشني الأكل المغربي، وحشني صيكوك... «لا غير ترجمي صيكوك حتى هو للبنانية إلى قدرتي، الله ينعل اللي ما يحشم». وفي فرنسا إذا كان اسمك محمد أو سعيد وأرسلت سيرتك الذاتية إلى الشركات والمؤسسات العمومية الفرنسية تبحث عن شغل، فإنك ستضيع وقتا طويلا قبل أن تعثر على عمل أقل بكثير من مؤهلاتك. أما في المغرب، فيكفي أن يرسل «كلود» أو «بيرناديت» أو «سيرج» طلبا بسيطا إلى كبريات الشركات المغربية لكي ينادوا عليهم في الحين ليتسلموا مناصبهم التي غالبا ما تضع العشرات من الأطر المغربية تحت إمرتهم. وعندما تسأل هؤلاء الفرنسيين عن مهنتهم الأصلية يقولون لك إنهم فرنسيون، وهذا وحده دبلوم عال جدا يضمن لهم منصبا محترما في دولة متخلفة مثل المغرب. وحتى لا يأتي من يتهمنا بالشوفينية والتعصب للمغرب، أعترف بأنني لست ضد توظيف الأجانب في شركاتنا وإداراتنا، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالاستفادة من خبراتهم وتقدمهم في مجال من المجالات. المصيبة هي عندما يتم اللجوء إلى الاستعانة بخدمات بعض هؤلاء فقط لأنهم فرنسيون، في الوقت الذي يستطيع فيه أي «محماد» أو «عائشة» القيام بما يقومون به، وربما أحسن منهم أيضا. واليوم، تقوم شركة «فيوليا» الفرنسية بطرد أطر مغربية كبيرة من الشركة لتعويضها بأطر فرنسية قادمة من الشركة الأم التي تعاني من الأزمة في فرنسا. ومؤخرا، حاول أحد الأطر المغربية الانتحار بسبب هذا المشكل. وبين بريد وآخر تصلني شكاوى من بعض الأطر المغربية التي يصر مديروها على تفضيل الأطر الفرنسية على الأطر المحلية، وإعطائها صلاحيات واسعة داخل الشركة تحول الأطر المغربية إلى ما يشبه الخدم في ضيعة السيد الفرنسي، الذي غير بزة العسكري المستعمر ببذلة باريسية أنيقة، لكنه احتفظ بالعقلية ذاتها التي كان يتعامل بها أجداده مع المغاربة. عقلية الأجنبي المتفوق الذي يستغيث به المحلي الضعيف لكي يرتقي به سلم التقدم الذي يملك وحده براءة اختراعه. والنتيجة الطبيعية لهذا الوضع أن كثيرا من هذه الأطر المغربية فضلت أن تغادر السفينة وتذهب إلى حيث ستجد من سيقدر مؤهلاتها ويستغلها جيدا بصرف النظر عن أسمائها العائلية. وبجولة سريعة أمام القنصلية الكندية بالرباط وحدها، يمكن أن نخمن عدد كل الأطر المغربية التي تتخلى عن وظائفها في المغرب وتقبل بالهجرة للعمل في الشركات متعددة الجنسيات بكندا وأمريكا. فأمثال تلك الأطر التي يكلف تكوينها خزينة المملكة آلاف المئات من ملايين الدراهم، مطلوبة في كل بلدان العالم، إلا عندنا في المغرب. وربما نحن البلاد الوحيدة في العالم التي نسمع بأن فيها مهندسين في المعلوميات عاطلون عن العمل. فهم عندنا يفضلون تشغيل «روبير» و«كلوديت» على تشغيل «الحسين» و«فاطنة»، ويقبلون بتوفير تعويضات النقل والإقامة في أفخم الفنادق لبعض هؤلاء المحظوظين على توفير حافلات محترمة لنقل المستخدمين المغاربة، ويفضلون دفع رواتب هؤلاء الأجانب بالعملة الصعبة وتحويلها إلى حساباتهم في بلدانهم على الزيادة في رواتب الأطر المغربية ومعاملتها بطريقة تليق بمستواها. وفي كل دول أوربا، عندما يذهب المهاجرون المغاربة، ومنهم من يفعل ذلك مصحوبا بشواهده ودبلوماته العليا، يجدون وظائف محددة في انتظارهم: فلاح، بلومبيي، عامل بناء، زبال، ولائحة طويلة من الوظائف المرهقة التي لم يعد الأوربيون يطيقون رؤية أنفسهم يقومون بها. يستحيل أن تذهب، مثلا، إلى إسبانيا وتقول لهم إنك تريد أن تشتغل في التلفزيون لأنك تمتلك تجربة في هذا المجال اكتسبتها في بلادك. سيعتذرون منك وسينصحونك بأقرب حقل أو أقرب ورش بناء، أو ربما سيقترحون عليك أخذ المكنسة وتنظيف باب القناة، فهذا أقصى ما سيستطيعون اقتراحه عليك. حتى إن هناك قانونا في إسبانيا، مثلا، يمنع على الأجانب الولوج إلى وظائف معينة إذا لم يكونوا حاصلين على الجنسية. أما عندنا فيكفي أن تكون فرنسيا ولديك تكوين في مجال ما لكي تحصل بسهولة على عمل في كبريات الشركات والمؤسسات. ومع الأزمة التي تعيشها فرنسا حاليا في مجال الشغل، نلاحظ توافدا متزايدا لليد العاملة الفرنسية نحو المغرب بسبب كل العروض المغرية التي يتلقاها زملاء هؤلاء العمال المتوافدين الذين سبقوهم إلى الحصول على منصب عمل في إحدى الشركات المغربية. نحن لا نطالب بطرد الأطر الأجنبية التي تشتغل في بلادنا، وإنما نطالب الحكومة فقط بأن تعمل على مساواة أطرنا بهؤلاء الأجانب الذين تتعاقد معهم الشركات برواتب لا يستطيع تخيلها الإطار المغربي حتى في نومه. كما أن الأجانب الذين يختارون المغرب أرضا لاستثمار أموالهم يجب أن يحترموا حق الأطر المغربية في الانتماء النقابي وحقها في الإضراب الذي يضمنه القانون، تماما كما لو كانوا في بلدهم الديمقراطي، حيث الأخوة والعدالة والمساواة. أم إن هذه القيم التي بنيت عليها الثورة الفرنسية تحترم فقط داخل فرنسا، أما خارج حدودها فتطبق مبادئ الدولة المتخلفة التي أبرزها العصا لمن يعصى. «الله يعطينا سعد البراني وصافي»...