في عاصمة المال والأعمال المغربية يمكن أن تفاجأ في أي لحظة بالشارع العام بشخص يتبول دون اكتراث بالآخرين. الدارالبيضاء التي تعول عليها الدولة كثيرا في اقتصادها وبها ترسانة من الشركات الكبرى والفنادق المصنفة، فيها فقط خمسة مراحيض عمومية مفتوحة في وجه خمسة ملايين بيضاوي، مع العلم أن وضعية هذه المراحيض جد متردية وأغلبها بناه الفرنسيون منذ أكثر من نصف قرن. من يتحمل إذن المسؤولية؟ السلطات المحلية التي أهملت عقودا من الزمن الاهتمام بالبنية التحتية الصحية للمدينة أم المواطنون الذين لا يجدون أدنى حرج في التبول في الأماكن العامة. السابعة مساء بالتحديد. محطة الحافلات بشارع الجيش الملكي قرب سينما الريف ما تزال مكتظة. تتوقف الحافلة رقم23 المتجهة إلى عين السبع، فيتدافع العديدون نحو بابها ، فيما ينسل شخص في العشرينات من عمره تقريبا ويتجه خلف الحافلة . هيئته لا تثير أي شك.يفك أزرار سرواله الجينز و يشرع بالتبول على إحدى عجلاتها، غير عابئ بمن حوله. تتحرك الحافلة قليلا، فيتبعها الشاب مرتبكا وهو يتبول. وحين غادرت المحطة، كان هو قد أنهى مهمته مخلفا وراءه بقعة من البول على الإسفلت أمام أنظار الجميع. غير بعيد عن المحطة، وعلى بعد أمتار قليلة فقط يوجد مرحاض عمومي لا يكلف الدخول إليه أكثر من درهم واحد فقط !. قبل هذا الحادث بأيام قليلة، كان شاب شاذ جنسيا وبائعة هوى يتبولان سوية في الحادية عشرة ليلا على الجدار الخلفي للثكنة العسكرية العقيد عبد السلام العابدي بشارع لالة الياقوت. نفس السيناريو سيتكرر بشكل مختلف بعد يومين فقط في ساحة باب مراكشبالمدينة العتيقة حيث سيركن شاب أسمر في منتصف الليل دراجته النارية بوجو، ينزع عنها غطاء خزان البنزين، ويبدأ بالتبول فيه ! دهشة واستنكار مثل هذه المشاهد لم تعد تثير أي دهشة أو استنكار في عاصمة المال والأعمال المغربية، بعدما صار التبول طقسا يوميا يؤديه العديد من سكان المتروبول دون أدنى حرج أو اكتراث، ودون أدنى احتجاج من قبل الآخرين في عملية أقرب إلى »التواطؤ». أماكن عمومية كثيرة صارت بفعل هذا الطقس بؤرا لتفريغ المثانات والأمعاء، ومراحيض «على الهواء» تفوح منها روائح النتانة .تكفي جولة بسيطة في شوارع كبرى مثل محمد الخامس أو الجيش الملكي أو محمد السادس أو الموحدين... أو بالشوارع الصغيرة و الأحياء الخلفية كي يكتشف المرء مدى «هشاشة السلوك الحضاري» لدى عدد كبير من المواطنين، وفي الآن نفسه غياب بنية تحتية صحية(المراحيض...) في مدينة تناهز ساكنتها الخمسة ملايين نسمة. ورغم أن الدارالبيضاء تصنف الأولى وطنيا على صعيد سياحة الأعمال، وتعد العاصمة الاقتصادية للمملكة، وأهم حاضرة اقتصادية مغاربية، وتاسع أغنى مدينة في أفريقيا...، فإنها في المقابل لا تتوفر سوى على ستة أو سبعة مراحيض، أغلبها بناه الفرنسيون في النصف الأول من القرن الماضي. اثنان منها أغلقا نهائيا (واحد بشارع محمد الخامس قرب أسيما، و الثاني بملتقى أوربا في شارع الزرقطوني) ومرحاض آخر أصبح مصيره معلقا بعدما أغلقت السلطات المحلية الممر تحت الأرضي الموجود بشارع الجيش الملكي حيث المرحاض، لتبقى الحصيلة النهائية جد هزيلة: أربعة مراحيض فقط مفتوحة في وجه العموم، تتمركز كلها في مقاطعة سيدي بليوط، إضافة إلى مرحاض آخر بدرب السلطان، بعدما تم إعدام الكثير من المراحيض بالمدينة في العشرين سنة الأخيرة، أحدها تم تفويته إلى أحد الأشخاص ليحوله إلى مخزن ثم إلى مسكن !. وبعملية حسابية بسيطة، إذا قُسم عدد سكان العاصمة الاقتصادية الذين يناهزون الخمسة ملايين نسمة على الخمسة مراحيض المتبقية ستصبح النتيجة هي: مرحاض عمومي واحد لكل مليون بيضاوي، مع العلم أن هذه المراحيض الخمسة توجد في وضعية متردية، يتجاوز عمر أغلبها أكثر من نصف قرن، كما أنها تفتقد الشروط الصحية المتوفرة في المراحيض الحديثة، إذ لا توجد بها صنابير و لا مغسلات ولا مرايا و لا مناشف إلكترونية. الأداة الوحيدة المتوفرة للتنظيف هي القنينات والدلاء البلاستيكية المليئة بالماء !. في دورة أكتوبر، صوت مجلس المدينة على مشروع لبناء 100 مرحاض عمومي بالشوارع الكبرى والفضاءات العامة وغيرها.المشروع أثار اهتمام وسائل الإعلام و كذا الشركات، لكن بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات ما يزال مصير المشروع مجهولا، لتبقى كازابلانكا رهينة مراحيضها الخمسة. ازدواجية في الشخصية المفارقة الصارخة التي تعيشها العاصمة الاقتصادية تجعلها أشبه بحالة الدكتور جيكل ومسترهايد، في قصة روبرت لويس ستيفنسن الشهيرة، إذ تبدو المدينة وكأنها تعاني ازدواجية في الشخصية. ازدواجية يشعر بها البيضاويون، وإن اختلفت درجات وعيهم بها . بالنسبة لعادل(36 سنة- مدير شركة للتواصل)، تبدو المسألة أشبه بلغز محير «صراحة، لا أفهم كيف أن مدينة في القرن الواحد والعشرين تستقطب مشاريع اقتصادية وعمرانية ضخمة، وبها بورصة وشركات متعددة الجنسيات وفنادق فخمة وشبكة طرق حديثة و...و...و...وسكانها ما يزالون يرمون الأزبال حيثما اتفق ويبصقون وينخمون حيثما اتفق ويخرقون قانون السير ولا يراعون السلوك العام ولا يتأففون من التبول والتغوط في الشوارع والأماكن العامة. الأوربيون كانوا يفعلون ذلك في عصورهم الوسطى ونحن نفعل هذا في القرن الواحد والعشرين. هل كل هذه القرون تفصل بيننا؟». ما يثير حنق عادل أكثر «تدني السلوك الحضاري لدى الناس، وهذه الهمجية و اللا مبالاة التي يبديها من يرتكب مثل هذه السلوكات البهيمية، إذ يمكن أن تفاجأ في كل لحظة أو في أي مكان بشخص يخرج عضوه التناسلي، ويبدأ «يشرشر» على جدار، أو باب متجر مغلق، أو سيارة ركنها صاحبها أمام الرصيف...يفعل ذلك ببساطة وكأن لا أحد يمر أمامه أو يراقبه ». مرأب أم مرحاض عمومي؟ حسن (اسم مستعار) يستغرب هو الآخر هذا التداخل بين البداوة و التمدن في العاصمة الاقتصادية. يحكي حسن (مجاز عاطل) حادثة وقعت أمامه قبل أكثر من سنة، يقول: «كنت رفقة صديق لي في سيارته بعد أن ركنها في مرأب للسيارات ب«البحيرة» قرب باب مراكش أمام المكان الذي كان سيبنى فيه سوق نموذجي، الآن تحول إلى فضاء رياضي. كنا ننتظر صديقا يقطن بالمدينة القديمة، وكانت أضواء السيارة مطفأة، يعني لم يكن أحد ينتبه إلينا.أتدري ماذا حدث؟ في تلك المدة الوجيزة التي ظلت فيها السيارة مركونة، ولم تتجاوز ربع ساعة تقريبا، بال على الحائط الذي يسور السوق أكثر من عشرة أشخاص، تخيل، دون احتساب الآخرين الذين سبقوهم أو من كانوا يبولون في الآن نفسه على طول الجدار ذاته. ظل صديقي مصدوما ولم يصدق ما كان يراه أمام عينيه. وفي لحظة سألني إن كان فعلا يركن سيارته في مرأب أم في مرحاض عمومي». ما رواه حسن يمكن أن تسمع مثله لدى العديد من سكان المتروبول البيضاوي، إذ كل كازاوي يخفي في جرابه حكاية أو أكثر عما عاينه شخصيا أو سمع به. ولا يختلف المكان الذي تحدث عنه حسن عن أمكنة أخرى بالمدينة تغيرت هيئتها ووظيفتها بفعل عدوى التبول.إذ غير بعيد عن ذلك المرأب، وبالتحديد بساحة باب مراكش، اضطر رجال الشرطة بالمخفر الموجود وسط الساحة، في وقت من الأوقات، إلى تسييج جوانبه الخلفية التي كانت مأوى لكل من أراد قضاء حاجته البيولوجية.باب الساحة التاريخية نفسها لم يسلم من الهجمات المتكررة لجحافل المتبولين، و نفس الأمر حدث أيضا للباب الأثري الآخر للمدينة العتيقة، المطل على جهة البحر، وكذلك بالنسبة للسقالة التي كانت أشبه بمرحاض قبل أن تتحول إلى مقهى و مطعم. عدد من مؤسسات الدارالبيضاء التعليمية والإدارية وغيرها لم تسلم هي الأخرى-كما آثارها التاريخية- من التدنيس بالبول. وكانت ردة الفعل الطبيعية أن انتشرت الكتابات الحائطية التي تمنع التبول، في غياب ردع حقيقي من طرف السلطات. لكن تحذيراتها ظلت مجرد صرخات بكماء أمام الإلحاح الحرن على التبول في الشوارع بسبب عدم اكتراث المنتخبين الجماعيين والمجالس البلدية، التي تعاقبت على تسيير شؤون العاصمة الاقتصادية، بأزمة المراحيض التي تعيشها المدينة و آثارها الصحية على البيضاويين وعلى جمالية المدينة و سمعتها السياحية. تقول دنيا(مغربية مقيمة بإسبانيا) : «أنا أحب بلدي كثيرا، لكنه للأسف جد متسخ، وليس هذا رأيي وحدي، بل رأي أشخاص عديدين.أنا لي أصدقاء إسبان يقولون لي إن نقطة ضعف السياحة في بلدكم هي النظافة». ملكة الدانمارك و مراحيض فاس من وجهة نظر سوسيولوجية، يرى الباحث علي الشعباني أنه لا توجد هناك معطيات ميدانية ولا إحصائيات حتى يمكن تحديد الفئات الاجتماعية التي تتبول في الأماكن العامة. ويرجع أسباب مثل هذه التصرفات إلى «انعدام أو غياب الوعي بخطورة مثل هذا السلوك»، وكذا تفريغ قيم النظافة من محتواها و تحويلها إلى مجرد شعارات، «إذ لم تتحول بعد إلى إجراءات عملية وسلوك يومي و تلقائي» لدى المواطنين، إضافة إلى عامل آخر يحدده الباحث في غياب قيم المواطنة والاعتراف بالآخر، ذلك أن «الذي يتبول ويتغوط في الفضاء العام لا يعترف ضمنيا بالآخر، حتى وإن ألحق به ضررا». من يتحمل إذن مسؤولية هذا التردي السلوكي؟ السلطات المحلية التي أهملت عقودا من الزمن الاهتمام بالبنية التحتية لمدينة في حجم البيضاء؟ أم المواطنون الذين لا يجدون أدنى غضاضة في تلويث الأماكن العامة؟ بالنسبة لنبيل (25سنة)، الأمر واضح ولا يحتاج إلى تفكير، لأن المسؤول الأول والأخير، حسب رأيه، هو السلطات المحلية. «لو كانو دايرين لعباد الله الطواليطات ما كنتيش تشوف شي واحد يبول فالزنقة» يؤكد نبيل، مضيفا وهو يبتسم بمكر «دابا انت مثلا إيلا تزيَرت فالزنقة وباغي تبول وماحداك حتى شي طواليط، فين تمشي؟ تمشي القهوة؟ فالقهاوي مرة يخليوك تدخل ومرة يخنزر فيك الكارصون أو يكول ليك الطواليط مسدودة. وحتى القهاوي دابا ولاو الفيسيات ديالهم بالفلوس، وكاين اللي سادينهم بالقفل بحال إيلا خايفين عليهم يتشفرو، أو كايكولو ليك باللي هذا الفيسي ديال القهوة وخاص بالزبناء ديالها. فين غادي تمشي.. كول لي؟ شوف نكول ليك واحد الحاجة إيلا بغاو الشوارع تبقى نظيفة يديرو لعباد الله طواليطات فابور». الباحث علي الشعباني يرى أن الجميع يتحمل المسؤولية، بدءا بالدولة و المجالس المنتخبة التي «لا تفكر في هذا الموضوع و لا تخصص في تصاميمها المعمارية ولا في تصاميم تهيئة المدن أماكن عامة للنظافة»، مرورا بالمنعشين العقاريين، وأخيرا المواطن العادي. لكن هل يكفي أن نحمل جهات معينة المسؤولية حتى ينحل المشكل؟ ربما يحدث ذلك في دول أخرى ، لكن المسؤولين في المغرب لهم منطق خاص . في فاس، سارع الوالي إلى إعطاء أوامره ببناء مراحيض عمومية بجنبات العاصمة العلمية، بمجرد أن تناهى إلى علمه أن ملكة الدانمارك كانت تقوم بزيارة خاصة للمدينة فلم تجد أين تقضي حاجتها البيولوجية. فهل تحتاج العاصمة الاقتصادية هي الأخرى لحدث مماثل حتى يسارع المسؤولون عنها إلى بناء مراحيض عمومية؟