هل تؤمن بتفسير المفسرين إذا أجمعوا على تفسير آية؟ هكذا جاء سؤال الأخ الفاضل؟.. والجواب عنه ليس من إجماع، ولا يمكن أن تضغط عقول الناس وأفهام العلماء في معلبات مثل بيبسي كولا. ولو حدث، فالمفسر قول بشري، والقرآن تنزيل من رب العالمين، وكتب التفسير يستأنس بها ولا تعبد من دون الله، بل تصبح أحيانا متاريس مسلحة لا يقفز فوقها أي حصان عربي رشيق، تعتم رؤية القرآن بسماكات وغمامات، فهي كتب تخضع مثل غيرها للنقد والتمحيص واحتمالات الخطأ والخطل. وفضلا عن استبعاد إجماع المفسرين على نسخة واحدة من التفسير، فإذا فرضنا نظريا أن هذا الأمر تحقق فعلينا أن نقول بوضوح إنه لو أجمع كل الناس على تفسير آية، فلا يجعل من تفسيرهم آية، ولا يعطي حجتهم من القوة أكثر من قوة التأويل، ولا يقربهم من الحقيقة أو يبعدهم عنها بمسافة تقل وتكبر أكثر من الاجتهاد الإنساني وتعرضه للخطأ والخطل والخطر، كما في أمراض الإنسانية المعروفة. وعلمنا الرب أن نقول ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. فلا يفيد إجماع المفسرين على تفسير آية ما في تحويل تفسيرهم إلى قرآن، كما أن القرآن يبقى محلقا بكلماته فوق جميع ضروب التأويل، وهو سبب ظهور عشرين ألف تفسير حتى الآن، ويبقى مستودعا لا ينضب من الحقيقة اللانهائية، طالما كان مصدره ومستودعه من العقل اللانهائي رب العالمين. وعلى الرغم من وضوح ونصوع وبساطة هذه الحقيقة، فإن الناس بإمكانهم أن يقتلوا الآخرين من أجل الرأي المجتهد، كما حصل مع الكنيسة وتفسير دوران الأرض والشمس، فمع أن قضية دوران الأفلاك ليست من العقيدة، فإن الكنيسة تبنت هذا الرأي وحولته إلى عقيدة، تفيد بأنها قطعية الثبوت قطعية الدلالة، كما تقول جماعتنا، وبالتالي قامت بقتل الناس ونشرهم بالمناشير وتقطيع جلودهم من أجل هذه الحقيقة المزعومة الموهومة، حتى جاء كوبرنيكوس بالفتح المبين، فخرت قبة الكنيسة والفاتيكان فوق رؤوس الكرادلة العميان وودعت أوربا الفكر الديني بطلاق ثلاثي لا رجعة منه، وتحرر العقل وانطلق وأشرقت أنوار الحداثة والعصر، فنحن بنعمته نتخاطب بالنت ونطير عبر القارات بالبوينج 747 و380 ونتحادث بالشات والتويتر والفيس بوك ونفتح اليوتيوب فنسمع أنغام مصطفى آل داوود التركية وبلغة أندونيسيا والصين والإسبان فنسبح الرحمن على مواهب عشاق الألحان. وتحرير هذه النقطة على درجة كبيرة من الأهمية، ألا نحول رأي الرجال إلى عقائد تفيد الحقيقة النهائية، وأن تفسير مفسر أو إجماع المفسرين المزعوم يحول التفسير إلى نص مقدس، كما كان حال المجامع الكنسية المقدسة التي كانوا يجتمعون فيها فيطلقون عقائد جديدة، تحرم وتلعن، كما حصل مع مجمع نيقية التي قام فيها الإمبراطور الروماني بتثبيت ألوهية المسيح فيها عام 325م، مع أن الكتب الأربعة التي تعرف بالأناجيل الأربعة (متى ولوقا ومرقس ويوحنا) ليس فيها نص واحد يفيد بأن المسيح هو الله وقطعة من الله المثلث!! كذا.. يخلق النبات، ويدير القمر، ويبعث أشعة الشمس، ويبعث الناس من القبور، وإن ما حدث من معجزات على يد المسيح حدث مثله مع أنبياء آخرين، وأن الإسلام غير حريص على ولوج هذا الباب من تدشين المعجزات فأقفل الباب وقال لو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون.. ومن خامره الشك في نصر الله له في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ؟ تابع الأخ سؤاله عن السنة والحديث. وهنا تأتي مشكلة المشاكل بين النص الأساسي والدستور الأعظم، وبين روافده وملحقاته من الأحاديث، وهو علم نشأ لاحقا في ظروف مشبوهة، بعد أن فشا الكذب والتحيز والتشيع والصراع السياسي الضاري على السلطة، مما جعل علماءنا يستنفرون أنفسهم ليؤسسوا لعلم جديد هو علم الحديث، رواية ودراية. وفي هذا الصدد، أرسل إلي أخ فاضل حول ادعاء كشف خطير، يشكل إعجازا علميا جديدا للسنة، من حديث الحمير والديكة، كيف تقشع الحمير الشياطين، وكيف تبصر الديكة الملائكة؟ قال الرجل لقد كشف العلم الحديث أن عيون الحمير فيها من رقي وتخصص الشبكية ما ترى به الأشياء بالأشعة تحت الحمراء، وإذ كان الشياطين المردة من مارج من نار، فإن قدرة الشبكية في عيون الحمير الظريفة تدرك فورا أن شيطانا مر فتبدأ في النهيق؟ أما الديكة الأكثر ظرافة فنظرا إلى امتلاء شبكية العين عندها لمزية إدراك الأشعة ما فوق البنفجسية فإن مرور الملائكة أمامها يجعلها تبدأ فورا في الصياح. ولم نعرف تماما عن مواعيد مرور الشياطين والملائكة، ذلك أن الديكة تبدأ في الإزعاج من قبل الفجر، وتسكت معظم النهار، أما الحمير فمزاجية.. وإن أنكر الأصوات لصوت الحمير!! والشاهد في كل هذه القصة هو موضة الإعجاز العلمي. وقد كان علماؤنا فيما سبق جدا حكماء حين قسموا الحديث إلى نوعين من ناحية الصحة، فقالوا بمصطلح: علم الحديث رواية وعلم الحديث دراية، أي تتبع صحة الحديث من مسلكين.. هل هو عقلاني معقول أم إنه ضد العقل والعقلانية وليس فقط أن سنده ذهبي أو فضي أو من تنك وخارصين؟ أو بتعبير ابن خلدون ضد سنن الاجتماع، فالرجل، أي ابن خلدون، وضع قواعد صارمة من ست زوايا لمسك الخبر المنقول، وجاء إلى التاريخ فوضع ست روايات لأئمة النقل حسب تعبيره ففندها، مثل رواية جيش موسى البالغ 600 ألف عسكري؟ فنده بقوانين لوجستية بحتة. أو قصة بناء الأهرامات من أقوام يبلغ طولهم مائة متر من العمالقة؟ ففندها وأعادها إلى قدرة الحضارات وجبروتها. كذلك قصص عن اليمن والعباسة أخت الرشيد.. أنها كانت (جيرل فرند Girl Friend) للبرمكي وما شابه، فأرجعها إلى قرب العباسيين من البداوة التي تأبى أخلاق القصور وتحلل الأخلاق فيها.. والخلاصة أن ابن خلدون لم نستفد منه بشيء ومن (نكش) ابن خلدون من تراثنا فعرفناه، كان من كشوفات تراث ميت على أيدي مؤرخين غربيين عاشوا الحداثة ونظروا إلى التراث نظرة تاريخية، وهو ما حدا بمحمد عبده أن يتعمد تدريس المقدمة للطلبة في الأزهر.. ونرجع إلى قصة الدراية والرواية، فلأن الفكر الإسلامي تحنط على شاطئ النقل فقد قتل العقل، ومع قتل العقل انهارت الحضارة الإسلامية مثل سفينة التيتانيك وما زالت باتجاه القاع.. ولذا وهذه فكرة انفجارية تم اعتماد عقلية جديدة لإعادة تكرير التراث، مثل تكرار السكر الخام، من أجل الوصول إلى الأفكار الإيجابية، ومنه أيضا فهم القرآن من خلال اعتماد العلوم الإنسانية المساعدة، فلا يعقل أن نفهم مصدر الطاقة اللانهائي القرآن من خلال تفسير ابن كثير الذي كتب قبل 800 سنة في ظروف الانحطاط، وكانت جيدة لفهم عصر الانحطاط؟ أما استعماله الحديث فهو يشبه جدا الدخول إلى جمجمة مريض باستعمال أدوات الجراحة من أيام الرازي وابن سينا التي أصبحت في متحف التاريخ.. إنها أفكار خطيرة جدا.. انفجارية جدا.. تصحيحية جدا ولكن لا بد منها، فلا يعقل أن يتم تبادل مثل هذا الغثاء في النت، فنسمم عقول الملايين من الشباب بالترهات والخرافات.. حسنا، إن أمكن الوصول إلى المصادر العلمية الموثقة فيمكن حينها النظر بمعيار الحكمة كما يقول ابن خلدون، وهنا تبدأ مرحلة ولادة العقل الإسلامي الحديث.. سأل الأخ أيضا عن زعم إجماع صحابة وفقهاء، وهو أمر مستحيل من الناحية اللوجستية، وهو صعب في أيامنا مع وجود النت والطيران، فكيف باتصال العلماء القديم وهم يركبون الحمير والبغال وظهور الجمال، ويشقون الطريق سعيا إلى لقاء لن يكون لعلماء الإسلام في أصقاع المعمورة، من أجل الاتفاق على رأي موحد، ولذا فقد اعتبرت مصادر التشريع عشرة، منها أربعة أساسية وستة فرعية، فأما الأربعة الأصلية فهي القرآن والسنة والقياس والإجماع، وأما الفرعية فهي مثل المصالح المرسلة ومذهب الصحابي والعرف والاستحسان ومذهب من قبلنا، والإجماع هو مشكلة المشاكل، وأنكر حدوثه البعض كما أتذكر من أيام كلية الشريعة في دمشق، وهي مؤسسة محنطة منذ أيام يوسف بن تاشفين، ولكنهم لو اتفقوا على رأي، كما هو اتفاقهم المزعوم، على قتل المرتد فهو مخالف لنصوص الدستور الأساسي التي تنص على عدم الإكراه في الدين. ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ويمكن للإنسان أن يكفر ثلاث مرات بعد إيمان بدون أن يطير رأسه مرة واحدة؟ كذلك من الأسئلة المحرجة موضوع اللغة وعلم الألسنيات، فهل تجمع قواميس اللغة على معنى محدد لبعض المصطلحات الغامضة؟ وهنا يتشعب الخلاف أكثر من السابق، لأن اللغة كائن حي ينمو، كما نستخدم مصطلح الجملوكيات هذه الأيام، عن كائنات الهيبريد التي تنمو في عالم السياسة، كما في دمج جينات الفيران والبغال لإنتاج كائنات جديدة كلها عوج، بلاغ فهل يهلك إلا القوم الظالمون؟ وهذا يقول إن اللغة العربية كائن مات منذ زمن بعيد مع توقف العقل منذ أيام المماليك البرجية وحكم برقوق وسعيد جقمق. وحاليا، يلعب الشحرور الشامي على هذه اللعبة العجيبة من إنتاج المعاني من رحم الألفاظ الميتة، مثل سحاري السيرك، فيخرج من القبعات السوداء قبعات بيضاء، أو كما في مدرسة المنطق الحيوي المزعومة في دمشق فتولد من مصالح البداهة وكعبة المصالح وجذر المنافع ومربع الفوائد معان جديدة تقول بالتغير في كل شيء ولو كان الله في تناسخ لا مرد له وما لنا منه من وال؟ وأما علم أصول الفقه فيجب أن يجدد مرة أخرى وألا نبقى في مكاننا بدون تجديد، نستجدي صدقات الشاطبي والحصفكي والأسفراييني. أخيرا، تعجب الأخ السائل من كوني غير مختص في العلوم الشرعية، فكيف أتجرأ على ولوج هذه الأبواب الخطيرة؟ والجواب من جهتين، فأنا أولا رجل تخرج من كلية الشريعة جنبا إلى جنب مع كلية الطب. ودعوى التخصص باطلة، فكثير من العبقريات ولدت في غير موطنها، وهو معروف عن انبثاق العبقريات، بسبب نفسي، أن من يعمل في وسط ما يستحوذ عليه ويضيع فيه بقوة امتصاص خاصة فائقة داخلية، أقوى من الثقب الأسود، ومن هذه الأمثلة الدكتور سيم كورت الذي طور جراحة المناظير وهو غير جراح، فهجم عليه الجراحون بمشارطهم ومباضعهم يريدون تقطيعه، والذي ثبت أن طريقته تطبق في كل الأرض اليوم، وكذلك الحال مع حديد كتشنر، الجراح الألماني، الذي كان أول من أدخل صنعة الحديد في معالجة الكسور، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد. وكذلك إليزاروف وتقنياته في التلاعب بالعظام، مطا ودفعا وشدا وإرخاء، مثل تذويب الذهب والحديد والزجاج واللعب على الشكل، مما كان يعتبر خرقا لهذه المفاهيم التي تعارف عليها جهابذة الطب فكسر مسلماتهم، ذلك أن المسلمات هي داخل المخوخ وليس الواقع، وكذلك دعوى الإجماع من الصحابة أو غير الصحابة، فحين يتحول الرجال إلى أوثان ترى القوم كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم من الذل.. والله لم يجعل له من الذل وليا..