كان الراحل الحسن الثاني يسوق سيارته بنفسه، ثم التفت يمينا إلى مرافقه، وهو يدير موجة الراديو على نشرة الأخبار، وقال: - إسمع جيدا هذه النشرة، وتذكر أني قلت لك يوما إن هذه الإذاعة سيكون لها شأن كبير. كان الملك يتحدث عن إذاعة «ميدي آن» في أيامها الأولى. كان رجل قانون، ومع ذلك سمح لتلك الإذاعة بأن تبدأ بثها من طنجة، في وقت كانت فيه الدولة وحدها تحتكر وسائل الإعلام السمعي البصري. وحين أتعبته الانتقادات الموجهة إلى الإذاعة والتلفزيون أوعز إلى شركة «أونا» بأن تنشئ قناة عين السبع «دوزيم». فقد كان يريد أن يحدث تغييرا في وسائل الإعلام يتم بهدوء، لذلك سمح لجريدة «الشرق الأوسط» بأن تطبع في الدارالبيضاء، بالرغم من أن الصحف المغربية احتجت كلها على الصدور يوما واحدا، لأن المنافسة مع الصحافة القادمة من الخارج غير متكافئة. وكما ردد منتقدو إنشاء «ميدي آن» و«دوزيم» أن ذلك سيكون على حساب جمهور الإذاعة والتلفزيون، فإن رافضي طبع «الشرق الأوسط» عزفوا على وتر أن ذلك سيستنزف العملة الصعبة وسيؤثر على سوق استهلاك المنتوج المغربي. في تلك الأيام، استقدم الملك الراحل خبيرا في قضايا الإعلام، وسأله كيف يمكن إعادة المصداقية إلى الإذاعة والتلفزيون. وما كان من ذلك الخبير إلا أن ردد على مسمعه الحكاية التالية: في جزيرة هادئة حطت الطيور المهاجرة على ربوعها، وأقامت لها أعشاشا وملاذات، سرعان ما جلبت المزيد من الطيور، حتى أصبحت الجزيرة تعرف بأنواع الطيور النادرة التي تغرد في فضائها. غير أن صيادا كان في طريقه إلى الجزيرة بحثا عن طرائد، فانفلتت من بندقيته طلقة طائشة تسببت في فرار أسراب الطيور. ومن يومها، أصبح عسيرا على المقيمين في تلك الجزيرة أن يشاهدوا الطيور تحوم في سمائها. أدرك الحسن الثاني دلالات الحكاية، وأمضى بقية عمره يبحث عن وسائل لجلب الطيور إلى فضاء الإعلام السمعي البصري. لكنه لم يتصور يوما أن تحرير الفضاء السمعي - البصري سيدفع ببعض الأسماء المغمورة إلى أن تتمنى تخيلات من قبيل «الجمهورية المغربية» التي أراد نجل نور الدين عيوش أن يصبح رئيسا لها، أو أنواع الكلام الساقط الذي يغزو البيوت والآذان من دون استئذان. هي ضريبة تحرير الفضاء، لا شك أنه يتعين دفعها، فلا أحد أجبر المغاربة على أن يكون لهم المزيد من الإذاعات الخارجة عن السيطرة الرسمية. لقد فعلوا ذلك بمحض إرادتهم، حين أدركوا أن لا بديل عن فتح الأبواب والنوافذ لاستنشاق هواء جديد. وحدث أن أحد كبار المسؤولين، بعد تربع الملك محمد السادس على العرش، ظل يردد: دعوا الناس يتحدثون بحرية وصوت عال. غير أن بعض الأصوات تحولت إلى ضجيج في أذنيه، فأصبح في مقدمة المطالبين بإسكاتها. عذره في ذلك أن الكلام لا يعني الصراخ. لكن، من قال إن الصراخ ليس نوعا من الكلام الممزوج بنبرة الاحتجاج، أكان حقا أم باطلا. حين حضر نور الدين عيوش يوما إلى وزارة الإعلام بعد توقيف مجلة «كلمة» التي وضعت على غلافها صورة لبعض الشواذ، سأله أحد المسؤولين هل في إمكانه أن يترجم عنوان ذلك الغلاف إلى اللهجة الدارجة، لم يستطع ذلك لأن تلك الكلمة لا تقال في حضرة الناس، غير أنه بعد سنوات، سيصبح مدافعا عن اللهجة الدارجة، ربما من أجل أن تقال تلك الكلمة التي تخدش الحياء من دون حشمة. من يتابع مسيرة الفوضى غير الخلاقة التي تسود أركان البيت الإعلامي، لا شك سيصاب بالدهشة جراء تدهور المضامين التربوية والأخلاقية والتثقيفية. ومع أن رئة البلاد قابلة لاختزان الهواء النقي الذي يطرد التلوث، فإن أكثر ما يخشاه المرء أن يواصل بعض الصيادين طلقاتهم في الهواء للإجهاز على ما تبقى من طيور لا بديل لها عن المغرب ملاذا آمنا، ولو كفر به الجاحدون. حكى مرافق الملك الراحل الحسن الثاني أنه رآه أكثر زهوا وانتشاء، فقد كان يدير بيده قرص التقاط قنوات أجنبية، كانت سيدتها الأولى تدعى «تي. في 5»، وفاجأ زائره بالقول: - التغيير يبدأ من هنا. أشار الحسن الثاني إلى جهاز التلفزيون، ثم أدار القرص مرة أخرى وقال: - هذه اليد التي تدير القرص، هي نفسها التي يمكن أن تغير الاتجاه، حين لا يروق لها ما تراه العين. صمت قليلا، ثم خلص إلى الحكمة: يكفي تغيير الاتجاه ليصبح ضمير الإنسان مرتاحا.