ممثل معروف تستعين به وزارة الثقافة لإطلاق عملية واسعة للتشجيع على القراءة في القطارات. طبعا، ليس الممثل مغربيا، ولا وزارة الثقافة مغربية، ولا القطارات قطارات لخليع... العملية كلها فرنسية، أشرف عليها فريديرك ميتران، وزير الثقافة في بلد الأنوار، مستعينا بجيرار دوبارديو، الممثل المعروف... في ما يشبه شعار «القراءة للجميع»، انطلقت العملية وعمَّرتْ لمدة ثلاثة أيام وزعت فيها المصالح الثقافية 10 آلاف كتاب في مختلف محطات القطارات في فرنسا، لتكون في متناوَل المسافرين الفرنسيين أثناء تنقلاتهم عبر ترابهم الوطني. في إطلاق المبادرة، قال دوبارديو: «في ما يخصني، لولا الكتب لانحرفت منذ زمان»، قبل أن يستطرد في وصف شخصيته الطفولية الوجدانية التي صقلتها القراءة صقلا. أما الكتب فقد أسهمت في توفيرها العديد من دور النشر وأشخاص يعملون في «الشركة الوطنية للسكك الحديدية». وتقضي المبادرة بأن تتاح لكل مسافر فرصة الاطلاع على كتاب في محطات القطار، ويمكن له أن ينتقل به إلى محطة أخرى ويتركه هناك أو يعهد به إلى مسافر آخر... وكل كتاب يحمل رقما مرجعيا يمكن القارئ من اقتسام انطباعاته حول الكتاب مع قراء أو أشخاص آخرين على الصفحة المخصصة لهذا الغرض على «فايس بوك»!... حدث هذا في فرنسا، التي اعتادت شرائح كثيرة من سكانها القراءة في كل مكان، جلوسا ووقوفا. حتى في الحافلات وفي «الميترو»، تجد الفرنسي أو الفرنسية غارقين في أحداث رواية أو نص في مجلة أو صحيفة. فالكتاب خير أنيس عندما يجد المرء نفسه أمام أناس غرباء أو وسط زحام بشري. حدث هذا وسيحدث مرات، بعدما تصبح المبادرة تقليدا سائرا في قطارات فرنسا، بينما نستمر نحن في افتراس وجوه بعضنا البعض على القطارات، وفي اقتحام حميمية بعضنا البعض والتجرؤ على طرح أسئلة هي من الشؤون الخاصة للأفراد. قلة هم المسافرون الذين يستغلون الرحلة على القطار في قراءة كتاب أو تصفح جريدة يقتنيها من ماله، أو الاطلاع على مجلة. وكثْرٌ هم الذين تجدهم يحدقون في الآخرين، مهما طالت المسافة لينتهوا إلى إثارة أحاديث فارغة وثرثرات زائدة. كثْرٌ، أيضا، أولئك الذين يرسلون أعينهم عبر ممرات القطار ليتصيدوا جسدا مثيرا أو يحرجوا بنظراتهم نساء هربن من فوضى المواصلات إلى القطار، طلبا للراحة والهدوء. فئة أخرى من هؤلاء لا يحيى فيها الفضول للقراءة إلا عندما ترى جالسا في القطار يتصفح جريدته. فلا تتردد في طلب «دقيقة» إطلالة تتحول إلى «زمن طويل» يكتشف فيه صاحب الطلب متعة القراءة لكنه سرعان ما ينساها بعد أن يترجل من القطار، ويتكرر الطلب في كل رحلة، دون أن تتحول متعة القراءة العابرة المكتشَفة إلى متعة دائمة في الزمن، تدفع صاحبها إلى الاعتياد على تقليد شراء الصحيفة وقراءتها أو اصطحاب كتاب على متن القطار. ماذا لو فكر وزيرنا في الثقافة في مبادرة مثل هذه، باتفاق مع مسؤولي المكتب الوطني للسكك الحديدية؟ وبدل أن يترك الكتب في متناول المسافرين، يمكنه أن يبتكر نظاما لضبط رواج الكتب وتفادي خروجها من محطات القطار. قد تبدو الفكرة غير ممكنة الحدوث في الوهلة الأولى، لكن الحقيقة غير ذلك. صحيح أن البدايات صعبة، لكن الاستمرار والإيمان بالأفكار كفيلان بأن يحققا المبادرات، مهما كانت غريبة المظهر. مبادرة مثل المبادرة الفرنسية ستكون لها، على الأقل، فضيلة الاستئناس بالكتب، في مرحلة أولى، قبل أن تصبح جزءا من الممارسة اليومية لفعل السفر، لا بل إنها قد تنتقل إلى المعيش اليومي للأفراد، بعد أن تستشري، كالعدوى، بينهم. في قطاراتنا، تحلو ثرثرات النساء وبسط المصائر الخاصة على الملأ، تحلو الأحاديث الثنائية والجماعية واقتحام الكينونات الفردية، فيما يختفي فعل القراءة، تاركاً مكانه للفراغ الذي يصبح قاتلا عندما تمتد المسافات نحو طنجة أو مراكش يبدو فيها الزمن العابر غير مُنتهٍ. القراءة في المجال العمومي جزء من ثقافة الشعوب وعلامة على نضجها ومدنيتها. لكنها، قبل ذلك، قياسٌ لمدى صدقية القائمين على شأن الشعوب وإرادتهم في تغيير عقلياتها نحو الأفضل...