يقدم الباحث السوسيولوجي المغربي نور الدين الزاهي جهدا معرفيا هاما في بحثه في أشكال اشتغال السياسي في المشهد السياسي المغربي. وفي كتابه «بركة السلطان»، الصادر عن منشورات «وجهة نظر»، نلمس بعمق قدرة هذا الباحث على قراءة تاريخ السياسة في المغرب باعتباره متواليات تخضع لنفس الميكانيزم. إننا نعرف عن قرب كيف «تأكل» الشرعية السياسية كتف الشرعية الدينية، وكيف تتغذى بها قبل أن تتعشى الأخرى بها. نحن نتكلم عن المغرب، والذي هو المغرب سواء في القرن السادس عشر أو في القرن الواحد والعشرين.. والكتاب في فهم دينامية الجماعة وتأثير الزوايا على صاحب القرار السياسي، كما يعد كتابا في سوسيولوجيا الولاية والولي، وفي تتبع كيفية اشتغال «المخيال» الديني، وتحكمه في صياغة الحقل الاجتماعي والسياسي في مغرب لم ينفك يوما على إحلال الوجه الكراماتي المساحة الكبرى، مشيدا لنوع من العلاقة «الجارية» بين رجل السياسة ورجل الدين، وبين منتج الخطاب الديني ومستقبليه من الخاصة أو عامة الناس. هذا الموقف سيتغير طبقا لتغير المصالح والعلاقات، فكلما ضعفت الدولة ارتفع صوت رجل «الصلاح» وكلما كان السياسي قويا في دولته لزم «رجل الصلاح» زاويته وتعبد فيها إلى حين يصبح العصر في «خسر». ينبش الزاهي في الحدود الفاصلة بين «سلطان» ديني وسلطان دنيوي، يتنازعان الاختصاصات والمصالح، ويتحالفان ويعتركان من أجل غلبة الواحد على الآخر، وإخضاع القوي للأقل قوة، ولقد عاش حقل السلطة في المغرب موزعا بين هذين القطبين. يطرح نور الدين الزاهي هذه القضايا وما يرتبط بها من إشكالات معرفية وثقافية، وأيضا من لبس في طريقة اشتغال المجال الديني في مغرب الزوايا، أو على الأقل بالنسبة إلى عدد من الزوايا التي لعبت دورا حاسما في الصراع الديني والسياسي في المغرب، وفي حرب المشروعيات التي لم تنته إلى اليوم، في شبه حرب مفتوحة بين الطرفين، قائمة، في شكلها المظهري، على «إسداء» النصيحة للسلطان، غير أنها تعبر، في حقيقتها وتجليها العملي، عن الرغبة في تقاسم أو في تملك المجال السياسي، أو على أقل تقدير توجيهه لفائدة المشروعية الدينية. يصوغ نور الدين الزاهي إشكالاته وطروحاته النظرية والفكرية دائما بالاعتماد على «الوقائع» التاريخية، خالصا إلى أن المظاهر السوسيولوجية، أو موحيا بها، والتي نعيشها اللحظة، ما هي إلا حلقات في سلسلة طويلة من تاريخ الصراع الثقافي في المغرب. تمنع السلطة السياسية زاوية أو تقرب أخرى، وتضرب بيد من حديد على أتباع بدؤوا يتكاثرون، وتساهم في «بناء» زاوية قد تخطفها التشرذم والبوار، لعبة سياسية متقنة شبيهة بما يحدث في الحياة السياسية أو الحزبية من حيث التحكم في تيرمومتر البعد أو القرب من دوائر القرار، بينما تبدو السلطة أو«بركة السلطان» هي الوحيدة القادرة على تخليص ا«لشعب» من ضحالة اليومي وبؤس «الزوايا الجديدة». بطبيعة الحال، لم يكتب الباحث نور الدين الزاهي هذا الكتاب من أجل أن «يخرج القارئ صفر اليدين»، بل نلاحظ أن الزاهي، وبالتحلي بالصرامة المنهجية والحياد والموضوعية العلمية، يدفع القارئ إلى الخروج من حيز المتلقي «الأعمى» إلى القارئ المبصر، من خلال لفت الانتباه إلى أن طبيعة اشتغال الحقلين السياسي والديني لا تختلف في مغرب القرن السادس عشر وما تلاه عن مغرب الآن، مهما تباعدت السياقات الاجتماعية ومهما تلون «الصلحاء» بتلاوين الجماعة أو الحزب، كما أن السلطان نفسه لم يغير استراتيجيته، مستفيدا من تاريخ التجربة الطويل في «ضبط» المجال الديني، فلا مزاح حينما يكون القطب السياسي والقطب الديني شيئا واحدا.