محمد الأشراقي فنان اختار مساره الفني منذ البداية، إنه مسار الطرب الأصيل والشجي وهمس العود وعبير الموشحات... في هذا الحوار مع «المساء»، يتحدث الأشراقي عن تجربته مع الفنان فؤاد نجم ويرسم صورةً لواقع الطرب الراقي ويعود إلى بدايته كفنان ويعتبر أن آلة العود، بقدر ما لها ماض تليد، فلها أيضا مستقبل واعد. - أنت من الفنانين القلائل الذين عايشوا تجارب فريدة من بينها: العزف مع النجم الكبير أحمد فؤاد نجم وأيضا مع ابنته.. كيف كانت تلك التجربة وكيف عشتَها؟ تجربة العزف مع النجم الكبير أحمد فؤاد نجم تجربة فريدة، كما وصفتها، ومع ابنته أيضا، حيث كانت لحظة استثنائية، لأن الرجل يجر وراءه مسارا مثقَلا بالمعاناة والنضال في درب الكلمة الملتزمة بهموم الناس والفن المعبِّر، بكل صدق، عن القضايا الجوهرية، وبذلك اتسعت مساحة عشق الناس له ولتجربته، وهذا العشق الجارف لمستُه خلال الأمسيتين اللتين شاركت معه فيهما في المعرض الدولي للكتاب في الدارالبيضاء وفي المكتبة الوطنية في الرباط. لقد أحسست بقوة اللحظة الشعرية والإبداعية، خصوصا وأنها أحالتني على سنوات الدراسة الجامعية في ظهر المهراز في فاس، بدايةَ ثمانينيات القرن الماضي، حيث كنا نستمع لأغاني فؤاد نجم على أنغام عود الشيخ إمام، وكذلك أغاني مارسيل خليفة، التي كنت أؤديها خلال الأمسيات الطلابية. كل هذه التفاصيل لاحت أمامي وأنا أرافق نجم وابنته بالعزف والغناء. كما أن تجاوب الجمهور مع شاعرنا الكبير زاد من دفء اللحظة وعكس أناقة وجمالية الكلمة الصادقة والمعبِّرة. حينها أدركت أنني أعيش أجمل لحظاتي الإبداعية وأمر بمحطة مهمة في مساري الفني. - كيف بدا لك فؤاد نجم كإنسان قبل أن يكون فنانا؟ أحمد فؤاد نجم الإنسان شخصية فذة، بكل المقاييس. فخلال اليومين اللذين قضيتهما بالقرمنه عاينت تميُّزَه كإنسان يتميز بخفة ظله وتواضعه وبساطته، وهو ما يجعلك، منذ الوهلة الأولى، تنسجم معه وترفع معه كل كلفة، لأنه يعيش تفاصيل يومه بكل عفوية وبساطة، أي بساطة الشخوص التي يكتب عنهم في أشعاره... إنه يمتاز برحابة صدر نادرة تتسع للجميع، حيث لم يكن يَضجَر من كثرة ملاحقات المعجبين والمهتمين بمساره وتجربته الغنية، ولم يكن يتعب من الحوارات الصحافية، رغم تقدمه في السن، وهذه ميزة زادت من توسيع دائرة الحب التي يحظى بها. أما نجم كفنان فإنني أُعجبتُ بثقافته الموسيقية وبطريقة تلقينه لحن قطعته «يا حبابي يا الغزاوية»، وكذا القطع الأخرى من ريبرتواره مع الشيخ إمام. فطريقته الفنية خلقت، بسرعة، الانسجامَ بين العود وصوت ابنته زينب وصوته الجهوري الدافئ. - ابنة نجم، هل وجدتَها فنانة متميزة أم إنها تنهل من شهرة وإبداع والدها؟ بالنسبة إلى ابنة فؤاد نجم، الفنانة زينب، فقد أحسست فعلا بأنها فنانة واعدة وتبذل مجهودا لتطوير أدائها، إنها تعتمد أساسا على موهبتها وصوتها ولا تشعر بأنها تعتمد على شهرة أبيها، وربما حدث العكس، حيث شعرت بأن كونَها ابنة فؤاد نجم أمر يجعلها تحس برهبة أكبر وتتهيب أكثر من مواجهة الجمهور، خصوصا وأن والدها صارم معها في هذا الشأن. وخلال التمارين لم يكن يغفر لها أدنى هفوة أو خطأ... - أصدرتَ، مؤخراً، ألبومين جديدين هما «شموع و«همس العود»، هل تعتقد أن سوق الموسيقى ما يزال فيه متسع لهذا الفن الراقي الذي تعتبر أحدَ رواده؟ أكاد أجزم بأن سوق الموسيقى مازالت فيه مساحة شاسعة لعشاق الفن الراقي، عكس ما يظن الكثيرون من كون كل الأسماع قد اتجهت إلى لون دون آخر. فألبومي الأول «شموع» اشتمل على العزف وعلى قصائد أدّيتُها بالعود. وقد فوجئت بتجاوب الناس مع هذه التجربة وتعطشهم إلى المزيد. وما اقتحامي المغامرةَ الجميلة، من جديد، إلا استجابة لكل الذين حضروا حفلات التوقيع حين يسألونني عن عملي المقبل، حيث أصدرت مؤخرا ألبوم «همس العود»، والذي اشتغلت فيه بشكل مختلف، حيث أفردته للعزف فقط، واشتغلت فيه على التراث الأندلسي وألحان رواد الموسيقى في بلادنا، مثل المرحوم عبد السلام عامر في معزوفة «واحة العمر»، والأستاذ عبد النبي الجيراري، في معزوفة «ابتسم يا غزال»، علاوة على معزوفات من تأليفي بعنوان «همس العود»، «هيام»، «إشراقات»، وقطع موسيقية أخرى. - لو نعود بك قليلا إلى الماضي.. كيف كانت بدايتك مع هذا الفن؟ ولماذا اخترت هذا المسار بالضبط؟ كانت البداية مع الفن منذ سن مبكرة، أي عندما كنا في السلك الدراسي الإعدادي وكان كل واحد يميل إلى ممارسة هواية رياضية أو مسرحية أو موسيقية، فوجدت نفسي أنجرف نحو عالم الأنغام الساحرة، فالتحقت بمعهد الموسيقى في طنجة لتعلم مبادئ الموسيقى والعزف على أيدي أساتذة بارزين، كالفنان مصطفى التسولي والسّي محمد البراق والأستاذ الزيتوني وغيرهم... بعد ذلك التحقت بمجموعات موسيقية أندلسية وعصرية. لقد كان اختياري هذا المسارَ خارجا عن إرادتي، لأنه تيار ساحر وجارف، لأن هاجس الفن والموسيقى يسكننا خلال كل الفترات العمرية وفي كل محطات الحياة. - هل ما يزال لكم اتصال، أنتم الفنانين الذين مررتم عبر برنامج «مواهب»، بالأستاذ عبد النبي الجيراري؟ ظل تواصلي مع الأستاذ عبد النبي الجيراري مستمرا، رغم توقف برنامج «مواهب». إن حاجتنا لهذا الفنان كبيرة، حيث أحرص على استشارته في عدة أمور فنية ونتناقش في هموم وأحوال الإبداع. طبعا، لم يحافظ كل من مر من البرنامج على هذا التواصل، وهو الأمر الذي قد يُغضب أستاذنا ويجعله يحس بنوع من الإجحاف من طرف بعض تلامذته. لكنْ رغم كل شيء، فإن جميع من مروا ببرنامج «مواهب» وكل الفنانين يكنون خالص التقدير للأستاذ عبد النبي الجيراري. - يصفك الكثيرون بأنك فنان مبدع، لكنك «زاهد» في تعاملك مع وسائل الإعلام... هل مرد ذلك إلى بعض الخجل أم إن وسائل الإعلام هي التي تغبطك حقك؟ لست زاهدا في وسائل الإعلام، لكنْ يمكن القول إنني لست ملحاحا، ويبدو أن هذا الميدان يتطلب الكثير من الإصرار والإلحاح. هناك أيضا بعض الخجل فعلا، وهناك كذلك انعدام تكافؤ الفرص وعدم اطلاع المكلفين بالقطاع الفني والموسيقي على كل التجارب وعلى الخريطة الفنية وما تزخر به من إبداعات متنوعة. - العود، هذه الأداة الموسيقية السحرية التي قاومتْ على مر القرون وفرضت نفسها أمام جبروت الآلات الموسيقية الكهربائية.. هل ترى أن لها مزيدا من فرص البقاء؟ للعود أكثر من فرصة للبقاء. إنه آلة سحرية ومن أعرق وأقدم الآلات التي صمدت في كل هذه الأحقاب، و يزداد الاهتمام بها في العالم كله. وقد سبق أن شاركت بالعود في أحد العروض، سنة 1993، مع عازف بريطاني يهتم بهذه الآلة ويبحث في أصولها العربية. إن كل المؤشرات تدل على مستقبل مشرق لهذه الآلة التي يتزايد محبوها كل يوم. في هذا السياق، يجدر بي أن أذكر أننا سنعمل على تنظيم ليلة للعود في رمضان المبارَك، بمشاركة عازفين من مختلف المدن المغربية يمثلون تنوع المدارس وطرائق العزف على هذه الآلة. كما أعتزم توقيع «همس العود» في عدد من المدن، بتنسيق مع جمعيات ثقافية، لترسيخ التواصل مع الجمهور. - لماذا، في رأيك، لا يحدث أن تحتضن مؤسسات اقتصادية كبيرة فنانين وموسيقيين مثلما تحتضن لاعبين ورياضيين مثلا؟ لا تحتضن المؤسسات الاقتصادية الفنانين، ربما لعدم الثقة في نجاح المنتوج الموسيقي، في حين أن الموسيقى هي أيضا، شأنها شأن الرياضة، لها نفس حظوظ النجاح والانتشار والتأثير. فجمهورنا يقبل على الرياضة والفن وكل الإبداع الجميل