إن مسار اليسار بالمغرب مسار متميز، فعوض أن يسبق الحزب الاشتراكي الحزب الشيوعي حصل العكس، إذ سبق الثاني الأول.. شارك بفعالية في تحرير البلاد من الاستعمار لكنه لم يشارك في السلطة كما حصل بالنسبة إلى أغلبية الأحزاب الوطنية التي قادت معركة الاستقلال، وأخيرا وليس آخرا، كان من بين القوى السياسية التي انتقلت من المطالبة بإسقاط النظام إلى موقف التوافق والتساكن، وصولا إلى التشارك معه وانتهاء بالدفاع عنه. يشير العنوان إلى محطتين بارزتين في الحياة السياسية المغربية، تؤرخان لمنعطف حاسم في تاريخ الفكر والممارسة السياسيين بالمغرب، حيث انتقل فيها المغرب من مرحلة «الفلاح المدافع عن العرش» إلى مرحلة «دفاع كل من الفلاح واليسار عن العرش». هذا المسار مهما كان المصطلح الذي نطلقه عليه (مسلسل ديمقراطي، انتقال ديمقراطي،...) هو مسار فريد من نوعه، وبالتالي جدير بالمناقشة والتحليل، فلعل في ذلك ما ينعش الذاكرة السياسية للمغاربة، وللأجيال الجديدة منهم بالخصوص، وربما ساعدهم في فهم طبيعة المشهد السياسي بالمغرب وفهم المنحى الذي اتخذه. وقد أثار اهتمامي بالموضوع الدراستان اللتان تحملان العنوانين المذكورين أعلاه نفسيهما: الأولى، وهي للراحل ريمي لوفوو، أطروحة نشرت لاحقا في كتاب وسبق الحديث عنها، والثانية للباحث عبد الرحيم المصلوحي وقد نشرت مؤخرا في المجلة الفرنسية «سنة المغرب»، واضعين جانبا عددا من التحفظات.. جرت مياه كثيرة تحت الجسر قبل وصولنا إلى هذه المرحلة.. إذ كيف يمكن تفسير انتقال اليسار، وبالخصوص حزب الاتحاد الاشتراكي، من موقع معارضة الحكم إلى موقع المدافع عنه؟ وكيف استطاعت عشر سنوات من المشاركة في الحكم أن تأكل أربعين سنة من المعارضة؟ خاصة وأنه طيلة مشاركته في السلطة -يقول الباحث- لم يستطع (الاتحاد) لا أن يترك بصماته «الاشتراكية» على الحكومة التي هو جزء منها ولا أن يطبق البرنامج الذي طالما نادى ووعد به الشعب المغربي، بل تفاقم وضعه والوضع العام، سواء بازدياد نسبة العزوف السياسي أو بتشتت تنظيمه وبتعمق الأزمة على جميع المستويات. ويسترسل صاحب دراسة «اليسار المدافع عن العرش»، مثله مثل عدد كبير من الباحثين، في طرح تساؤلات واستفهامات في الموضوع، مستفيدا من اجتهادات ومقاربات منهجية جديدة لتحليل الأنظمة السياسية العربية. انعطاف اليسار.. التبريرات كثيرة والدواعي عديدة يجمع أغلب الباحثين على أن التغيرات والمراجعات الإيديولوجية التي عرفها العالم بعد تفكك الاتحاد السوفياتي دفعت بعدد من الأحزاب السياسية المعارضة، وفي مقدمتها اليسار المغربي والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالخصوص، نهاية التسعينيات، إلى الاقتناع بأنه يصعب الوصول إلى السلطة بأسلوبها وبشروطها، وأن الأنظمة السياسية القائمة عرفت كيف تفرض على خصومها الاشتراك معها في تدبير الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، وحولت ضعفها إلى قوة. فلا يجب أن ننسى بأن الاتحاد الاشتراكي وحزب التقدم والاشتراكية والحزب الاشتراكي الديمقراطي.. من الأحزاب القليلة التي استطاعت أن تمر إلى مقاعد السلطة بعد عقود من المعارضة والمعارضة الشرسة. فالبعض يعتبرها إنجازا، إذ لم يكن يتصور، في أي بلد عربي، أن يصل حزب شيوعي سابق وقوى سياسية كانت تعمل على الإطاحة بالنظام القائم إلى المشاركة في السلطة. .. الدفاع عن العرش مصدر للريع السياسي
إن المعالم الأولى لتحولات اليسار سجلت أساسا على مستوى تحليله السياسي، فتدريجيا بدأ يستبدل لغته ومصطلحاته السياسية القديمة بأخرى جديدة، فغاب الصراع الطبقي ونمط الإنتاج والدولة النيوباتريمونيالية إلى غير رجعة.. وأصبح يرى أن الانتقال إلى الديمقراطية يتطلب معالجة إجرائية تركز أساسا على البعد الأداتي للإصلاحات لا غير، فكان شعار الديمقراطية التوافقية. والتوافق مع السلطة يعني استبعاد المشاركة التنازعية، فالنظام السياسي لن يقبل إلا الفاعلين المندمجين، القابلين والمسلّمين بشروط اللعبة كما هي قائمة، أما المعارضة فأصبحت في المصطلحات الرسمية مرادفة للشغب. الجميع يعرف أن تبني الاشتراكية الديمقراطية كان بداية لتحول الحزب على المستويين النظري والسياسي، وبالتالي انزلاق نحو الوسطية، حيث اختار الحزب الاشتراكية منهجا للتحليل، والنضال الديمقراطي استراتيجية في الممارسة السياسية، مسجلا قطيعة مع الخيار الثوري رغم أن البعض لم يعتقد في ذلك، معتبرا أن الأمر مجرد تكتيك.. فكان أن أدى الحزب غاليا ثمنَ الغموض الإيديولوجي وغياب نقد ذاتي حقيقي.. لقد كان لحدث استرجاع الصحراء المغربية وما تلاه من تطورات أثر كبير على مسار الحزب، إذ وعى حدود إمكانياته وقوته، فميزان القوة لم يعد في صالحه. ذلك أن المعارضة يجب أن تمارس داخل قبة البرلمان، ومن ثم وجب الدخول إليه. وهذا في حد ذاته شكل من أشكال الحوار مع النظام. ولكن مع حلول الأزمة المالية في الثمانينيات، سيقع تغيير تكتيكي في أسلوب المعارضة، بحيث ستركز على انتقاد أسلوب تدبير الحكم والممارسة اليومية لشؤون البلاد. إلا أنه مع الأحداث والهزات الاجتماعية 8184-90، سيلاحظ تذبذب المعارضة بين التشدد والارتخاء وبداية تمزق حقيقي للتنظيم.. بعدها سيدخل اليسار، والحزب بصفة خاصة، مرحلة تجريبية جديدة وهي انتقاء العناصر الملائمة للمشاركة في تدبير الشأن العام. فكانت البداية على مستوى الأفراد، فاختيار أحد الاقتصاديين على رأس المجلس الوطني للشباب والمستقبل اعتبر فاتحة عهد جديد لولوج الحزب دهاليز السلطة ورسالة إلى جميع من يهمه الأمر.. فمن المسلم به أن تذوب جميع التحفظات الإيديولوجية والسياسية لليسار تجاه السلطة أمام فتح هذه الأخيرة أبواب الموارد المؤسساتية في وجهه. لذا لاحظ الجميع كيف تخلى الطرفان عن مناوءة أحدهما للآخر، بحيث أصبحا يتقاسمان منافع متبادلة، فمشاركة اليسار ترفع من أسهم المصداقية الديمقراطية على الصعيد الخارجي للبلاد وخاصة تجاه المؤسسات النقدية الدولية، واليسار هو الآخر أصبحت له القدرة على مكافأة أطره والمنتسبين إليه. ولكن ما حصل مع مرور الوقت هو أن قاعدة الدولة تقوت وتجذرت، بينما تآكلت وتلاشت قاعدة اليسار، إذ فقد الحزب قطبيته الإيديولوجية.. وتراجعت مبيعات جريدة الحزب من عشرات الآلاف من النسخ إلى بضع مئات فقط، وتراجعت أيضا بنية الملتحقين به، وبالخصوص الأساتذة والأطر والمثقفين وأصحاب المهن العصرية. وجاءت نتائج الانتخابات صادمة له، إذ فقد مواقع نفوذه في قلاعه التاريخية، وبخاصة المدن الكبرى كالرباط والدار البيضاء وأكادير...، حيث تراجع إلى المرتبة الخامسة، ليسجل بذلك فشل قياداته في الانتخابات. والخطير هو تراجع المدينة في خريطة الحزب مقابل دخول وانخراط الأعيان.. رغم بعض إيجابياتها.. وبهذا حرم الحزب من مصادر القوة الضرورية للدخول في أي صراع سياسي أو انتخابي، بل أكثر من ذلك أصبحت لافتته ثقلا وعبئا على المرشحين باسمه، وهو عكس ما كان يحصل سابقا، حيث كان بإمكان المغمورين أن يصلوا بمجرد رفع اسم الحزب.. هذه اللحظة ستشكل فرصة مناسبة للباحثين والمحللين لفهم وتفسير ما حصل.