الثقافةُ مَنارةٌ لا تُضيء فقط رُوحَ صاحِبها والدائرة الضيِّقة لِأناه، وإنَّما تُضيء أيضا روح الجماعة والفضاء الذي تتخذ منه مجالا لحركتها، بما هي وعي يستكشفُ الحُدود والآفاق، ويَستجلي العناصر والأنساغ، سواء منها تلك التي ما تزال في حالة كمون أو تلك التي تعملُ في كامل اليقظة. إنَّها مِجَسٌّ رمزي يلتقط كل ذبذبات الذات الفردية والجماعية، التي تؤشر على حركة الحياة والاتجاه الذي تختطُّه لنفسها، في هذه البُرهة مِن عُمْر العالم. الثقافة، بهذا المعنى، فضاء للعيش والكتابة، يُفرز بداخله سُبُل سَبر الأغوار، التي تُلقي بها التجاربُ في ضمير الكُتاب والمبدعين، بما هم آلات بشرية رمزية كاسحة للثلوج والأحجار الكبيرة، التي تقف في وجه إرادة الشعوب، وتعوق حركتها وسَيرها الواثق نحو الغد... الثقافة إضاءة واعية للحاضر، بما هو تكثيف لِتاريخ الوُجود الإنساني، وسعي حثيث إلى قفزة ظافرة، تتضحُ معها التباشير الأولى للغد. إنها مجال تشخيص الوعي القائم والمُمكن، في سياق يتداخلُ فيه أفق الحياة مع أفق الرمز، على نحو يجعل الحُلم أحدَ أبعاد معيشٍ يسعى إلى الاغتناء والتجدد مقدار سعيه إلى التجذر والرسوخ. هذا الطابع الجدلي يجعل مِن الثقافة ممارسة مسؤولة، تغتني أبعادها بدرجة إيمان الفاعلين فيها، الذين ينقلونها مِن سياق الرؤية إليها كأداة، إلى منظور يَصِلها باقتصادِ حياةٍ تسعى جادة إلى حماية العمق. مِن هذا الأفق، تكون الثقافة معادلا لحياة ونظرة تقاطعتا في تجربة اختبرتْ صهرَ الوقائع بالحدوس والرؤى وعجنَ الأفكار بالرغبات والأحلام. لا تستقيم النظرة إلى الثقافة خارج هذا المنظور! إنها ليستْ مجرد نجوم تُرَصِّع ليلنا الرومانسي، لِتُشعرنا بمزيد مِن أحاسيس التميز والوحدة والعزلة، التي تُعلي جدارا سميكا بيننا وبين الآخرين، هو، بمعنى ما، جدار بيننا وبين الحياة نفسها. كما أنها ليستْ مجرد نياشين ينضبطُ لَمَعانُها لِكثافة مشاعر الأنانية والنَّرجسية، التي مِن شأنها أن تُغرقنا في بئرها السحيق، فلا يظهر منا غير ما يؤكد موتنا المحقق. إنها قطعا ليستْ تلك ولا هذه. إنها التزام ومسؤولية مُفَرغان مِن إيحاءاتهما الماركسية والوجودية القديمة، لصالح معنى إنساني رحب وعميق، يُريد أن يكون ابن الحاضر وما يعتمل بداخله من أشواق. هذا المعنى للالتزام والمسؤولية، يجعل المثقف لا يهتدي بضوء النجوم إلا ليتحسس، أكثر، خطوته على الأرض، حيث تُقام الوليمة الأبدية للإنسان... ضوءُ الثقافة يَرتبط، تحديدا، بموقف المُثقف. كما أنَّ أثرها يرتبط، تحديدا، بفعله ومداه، في برهة تاريخية معينة. ولعل الإشارة إلى هذه البرهة تبتغي تنسيب هذا الفعل وربطه بسياقات وإرادات أخرى مؤثرة. إن مفهوم المسؤولية يتضاعف كلَّما استحضرنا هذا السياق المعقد، الذي يجعل كلمة المثقف تجتاز أرضا ليستْ مستوية، بالتأكيد. إنها أرض مليئة بالحُفَر والالتواءات والجدران والأسلاك، التي ينبغي للمثقف أن يبذل جهدا أكبرَ في سبيل تجاوزها وتأمين طريقِ العبور لِكلمتِه إلى مَن ينتظرُها في الجهة الأخرى. هذا التأمين هو فعل نضالٍ يومي من قِبل المثقف. قد يأخذ من جهده وطاقته، لكنه ضروري لِفعل العبور، لِكل ثقافة تكابد من أجل البناء. هناك مِن مثقفينا مَن يعرف قيمة هذا النضال، لكنه، للأسف، لا يعمل في ضوئه. فنراه يكتب كلمة، لكنه لا ينتمي، في سلوكه وقيمه، إلى أفقها. ولذلك نجده يساهم، بوعي أو بدونه، في عرقلة طريقها نحو الآخر، وبالتالي تجريدِها مِن كل فعل محتمَل. إن الزمن لَيجود علينا، مِن حين إلى آخرَ، بمشاهدَ سرياليةٍ لمثقفين «نقديِّين» يهرولون مُلبين كل نداء غير نداء العقل والحكمة، فنجدهم لا يتورَّعون في قبول جوائز الديكتاتورية العربية.. أو في الجلوس ضيوفا على موائد مَن انتقته مِن المثقفين العرب لِمنحه جائزتَها. مِن الصعب على بعض مثقفينا تمثُّل درس غويتصولو النبيل، لأن القطيعة عندهم بين الرأس (المفكر) واليد (القابضة) ما تزال أساس الموقف والسلوك، إلى حينٍ لا تبدو تباشيره في الأفق القريب!...