يمثل أوكتافيو باث (1914/1998)، الشاعر والناقد المكسيكي الكبير، إحدى المنارات الأدبية المتميزة، التي أضاءت القرن العشرين،وكشفتْ عن انبعاث أدب قارة مليء بالسحر، مختلج بالحياة، مفعم بالأسرار.نقصد أدب أمريكا اللاتينية، الذي تألقت في سمائه نجوم مثل غابرييل غارسيا ماركيز، وخورخي لويس بورخيس، وماريو بارغاس يوسا وكارلوس فوينتيس وآخرين ساهم أوكتافيو باث في حركة أدب أمريكا اللاثينية ، وجنح به جهة الشعر والتأمل النقدي والفلسفي، الذي يكشف عن معرفة واسعة بقدر ما هي عميقة، بحركة القصيدة الكونية، على امتداد الزمن الحديث، بدءا بالرومانسية، وصولا إلى الطليعية، مرورا بالرمزية، التي بصمت الشعر بأثر بالغ. وتُعتبر التأملات التي تركها هذا الشاعر، في كتب مثل «القوس والقيثارة»، و«أطفال الوحل» و«الشعر ونهايات القرن»، نفائس فكرية ونقدية، تضيء المغامرة الشعرية في طلبها للمجهول، وتكشف، في آن واحد، عن عُدة الشاعر الثقافية الضرورية لخوض تجربة الكتابة والإلمام بأسرارها. كتبَ أوكتفيو باث أحد أهم أعماله الشعرية «حجر الشمس» سنة(1957)، لكنه لم يُتوج بجائزة نوبل للأدب إلا في سنة 1990. لقد كان عليه الضرب في الأرض، والتعرف العميق على الأدب الأوربي، ومن خلاله على كبار شعراء القرن العشرين(إليوت، بيرس/ بريتون...) وفلاسفته ومبدعيه، كما كان عليه المزج بين هويته المكسيكية ذات الجذور الهندية، وبين امتداداته الثقافية المختلفة، الشرقية والغربية، التي منحته عمقا وتميزا، جعلته بحق «ابن قرن وقارة». كان عليه أيضا الجمع بين حس النضال وممارسة التسكع والعمل الدبلوماسي والانخراط في مشاريع ثقافية، كإصدار مجلات وغيرها. كل ذلك تقليبا لتربته الخاصة، التي تمكنه من الامتلاء بغيوم الشعر، والسعي في طريقه إلى نوع من «القصيدة الثقافية» المتعددة المصادر والأصداء، وهي التي وجدها فعلا في كتابة شعرية ستُتَوج بجائزة نوبل. أثناء إقامته بالهند واليابان، وهو، حينها، كان يزاول عملا دبلوماسيا سرعان ما استقال منه احتجاجا على سحق حكومة بلاده للطلاب، كتبَ أوكتافيو باث مجموعة من القصائد، استلهم فيها تأثره الروحي بالثقافة البوذية وما يرتبط بها من عناصر الحياة، كما تشرب فيها عناصر الفضاء، فجاءت متميزة بومضاتها الشرقية، القريبة من جوهر قصائد الهايكو. هذه القصائد، عرَّبَ منها الشاعر والروائي والمترجم التونسي، محمد علي اليوسفي، مختارات شعرية، صدرتْ عن دار أزمنة(2008) بعنوان «كنتُ شجرة وتكلمتُ بستان حروف»، وهي الترجمة التي نُقدمها في هذه الورقة التقديمية. أنفاس الشرق وروائحه الميتافيزيقية تُطالعنا في هذه القصائد. الشاعر يستبطن المكان ورموزه ناظرا إليهما بعين الداخل، الشيء الذي مكنه من بناء، ليس فقط تجربة متعاطفة، بل أيضا قصائد تنشد المعرفة والقبض على المجهول، الذي يبتدئ بأنفسنا، قبل أن يأخذ حيزا في الكون والعالم. إن العين المُدربة على النفاذ وراء الظواهر، المُستلهمة لغناها الداخلي، هي التي نظر بها الشاعر إلى ذاته وهي تخطو بأمكنة أخرى، ليس خطوة الغريب الباحث عن الغرابة، ولكن خطوة الضيف المُتطلع للاغتناء بعناصر الفضاء الهندي والياباني. وهذه الضيافة النبيلة، هي التي جعلت روح الأخوة تشع من ثنايا قصائد أوكتافيو باث الشرقية. قصائد تذهب للتفصيل الصغير مشحونا برؤية ما ورائية. من هُنا تتقدم نحونا مشاهد الحياة وعناصر المكان ورموز الوجدان، مفعمة بمعنى مضاعف تضفي عليها الذات، أو توحي به حتى في لحظات الصمت. في قصيدة «حديقة لودي» نعثر على هذا المقطع: «في الزرقة اللامتناهية/ قباب الأضرحة/ سوداء، مفكرة، متأملة أرسلتْ فجأةً / رفَّ طيور»(ص19). في قصيدة «النهار في أودايبور» نعثر على الشذرات التالية، التي تبدو شديدة الانتساب لشعرية الهايكو: «مستغرقة،/ عالية كالموت،/ تنبجس ألواح المرمر. القصورُ تغرق،/ بياض جانح. نساء، أطفال/ عبر الدروب: ثمار مبعثرة. بروقٌ أم أسمال؟ موكب في السهل. مُرنَّةً وباردة/ في المعصمين وفي الكاحلين/ تسيل الفضة. في ثياب مُستَأجرة/ ذهبَ الطفلُ إلى عُرسه. الغسيل الأبيض/ منشورٌ على الحجارة. /أنظر إليه وأسكت. في الجزيرة الصغيرة تصيح/ قرود ذات مؤخرات حمراء. معلَّقٌ في الجدار/ كشمس داكنة حارة،/ وكر زنابير. جبيني هو أيضا شمس/ ذات أفكار سوداء. ذباب، دم./ في فناء «كالي»/ يمرح جديٌ. في صحن واحد تأكل/ الآلهة، البشر والبهائم...»(ص19/20/21). إنها قصيدة شذرية، تنبني عبر فسيفساء من الصور التي تكشف عن عين يقظة، وروح سافرة، لا حجب تمنع عنها رؤية الأشياء بعين المحبة. ومن الفضاء تنتقل العين البصيرة أحيانا لتكشف عن الانسان وما يعتمل بداخله من زوابع: «حدائق غير مشذبة/ بيت رحب مثل مزرعة./ ثمة عدة حجرات فارغة،/ عدة لواحات لمشاهير/ مجهولين. بنفسجية وسوداء/ على الحرير وعلى الجدران الذاوية/ بصمات الرياح الموسمية المزوبعة./ بذخ وغبار. حرارة./ البيت تسكنه امرأة شقراء./ المرأة مسكونة بالريح»(ص24). ترصد الذات أيضا حركة الطيور، بدهشة بدئية يتخلّق منها الجمال المضاعف: جمال الكائن المتناهي الصغر والهشاشة، وجمال الرؤية إليه: «ثابت/ ليس على الغصن/ في الهواء/ ليس في الهواء/ في اللحظة/ عصفور الضُرَّيس»(ص43). ترصدُ الذات كذلك مشهد العناصر، مُنبثقا مِن قلب عناصر الحياة البدوية، مُنفتحا على تخوم الميتافيزيقا.هذا ما نسجله في أكثر من مقطع وشذرة. ولعل قصيدة «وفاق» المهداة إلى كارلوس فوينتيس، تضيء هذا الملمح: «الماء في الأعلى/ الغابة في الأسفل/ الريح عبر الدروب/ طمأنينة البئر/ الدلو أسود والماء صاف / الماء ينزل حتى الأشجار/ السماء تصعد حتى الشفاه.»(ص78). لقد احتضنَ المكانُ الشرقي رؤيا الشاعر في هذه المختارات الشعرية، الحاملة لعنوان يشي بنسبه إلى قصيدة الهايكو «كنتُ شجرةً وتكلمتُ بستان حروف». نسب ينبثق فعلا من البناء وأشكال الصوغ ويفيض على مستوى الرؤيا المُحتضِنة للآخر، في هذه التجربة. وفي كل ذلك، سعى أوكتافيو باث نحو جعل لغة الشعر، متألقةً بحدوس صوفية، تلامس عناصر المكان برهافة الشاعر، الذي يقتات على الندى والضوء، مُنصتا لنداءات بعيدة، توقظها بداخله العناصر والكائنات والأشياء المتلفعة بالسر.