عندما زار حميد شباط، عمدة مدينة فاس، الإعدادية التي درس فيها وقف في قسم وسط التلاميذ وخطب فيهم ناصحا إياهم أن يأخذوه قدوة وعبرة. بعدها تبرع على أساتذتهم في التربية البدنية بأحذية وبدلات رياضية، وتسلم صورة رسمها له أحدهم انطلاقا من صورة شخصية له كانت في ملفه المدرسي. إذا قرر التلاميذ اتخاذ شباط قدوة لهم، فعليهم أن ينهوا مشوارهم الدراسي في مستوى الإعدادي. لأن الإعدادية التي زارها شباط كانت آخر عهده بالعلم والتحصيل. وهي إشارة لا تسير مع السياسة التعليمية للدولة التي تريد محاربة الانقطاع الدراسي. وربما كان شباط يريد عبر مطالبته للتلاميذ اتخاذه قدوة أن يستوعبوا حقيقة مؤسفة نعيشها في المغرب، وهي أن النجاح يمكن أن يتحقق لصاحبه بدون شواهد جامعية أو علمية. والمثال الساطع هو شباط نفسه، الذي يوجد اليوم على رأس مدينة اشتهرت بالعلم والعلماء، هو الذي لم يدخل جامعاتها ولم يحصل على أكثر من الشهادة الابتدائية. وحقيقة لسنا نعرف أي مثال يريد شباط أن يعطيه لهؤلاء التلاميذ، هو الذي خرج ليصرح أخيرا بأن المجلس الجهوي للحسابات تخترقه عناصر إرهابية، لمجرد أن هذا المجلس قام بواجبه وقرر استدعاء مجموعة من المسؤولين الجماعيين للاستماع إليهم، ثم روج أخبارا عن قرب إحالة ملفاتهم إلى قاضي التحقيق. والنتيجة أن قضاة المجلس الجهوي للحسابات قرروا مقاضاة شباط بسبب اتهامه لمجلسهم بكونه مخترقا من طرف عناصر إرهابية. هل هذه هي السلوكيات التي يريد شباط من تلاميذ إعداديته القديمة أن يتخذوها قدوة. وحتى لا يتعب قضاة المجلس الجهوي للحسابات أنفسهم ويضيعوا وقتهم في متابعة شباط أمام القضاء، أرجو أن يعملوا بنصيحتي ويعدلوا عن هذا الأمر، حتى لا تتلقى العدالة من جديد لطمة أخرى على وجهها المليء بالكدمات الزرقاء. فلو كانت المتابعات القضائية ضد العمداء تجدي نفعا لكانت أفادت في وضع البحراوي عمدة الرباط وراء القضبان منذ أشهر. فسعادة العمدة لم تقدر عليه محكمتان عتيدتان في الرباط، هما المحكمة الابتدائية التي تتابعه بتهمة «عقد اجتماع غير مرخص له ومحاولة الحصول على أصوات ناخبين وتقديم هدايا وتبرعات والوعد بها وتسخير وسائل مملوكة للجماعات المحلية في العملية الانتخابية». ثم المجلس الدستوري الذي وضع فيه منافسه في الدائرة إدريس لشكر عن الاتحاد الاشتراكي طعنا قانونيا لإلغاء نتيجة الانتخابات. محكمتان بجلالة قدرهما عجزتا عن تطبيق القانون في حق العمدة البحراوي، مع أن فصول المتابعة ، خصوصا الفصول 33،56، 40، 60، 28 من القانون التنظيمي للانتخابات، واضحة. وأقوال الشهود الذين ضبطوا في بيته بالسويسي وهم يتناولون الشاي والحلوى، المحشوة بالوعود المعسولة، متطابقة ولا تناقض فيها. فكلهم أكدوا أنهم جاؤوا إلى بيت العمدة محمولين في حافلات وسيارات تابعة للجماعة، وأن العمدة خطب فيهم وطلب منهم التصويت لفائدته مقابل تشغيل أفراد من عائلاتهم أو قضاء مصالحهم الشخصية. ولعل الجميع يتذكر تلك الزوبعة التي قامت قبل الانتخابات عندما ضبط رجال الأمن ضيوف البحراوي الستين واعتقلوا الجميع وقادوهم إلى التحقيق. وانتقل بعد ذلك التحقيق إلى القضاء ليتقرر تأجيل القضية في كل مرة تعرض فيها على أنظار سعادة القاضي. وقد كان تم الاتفاق على جمع الملف وطيه بعد فتوى أعطاها أحدهم للبحراوي أصبح يردد بموجبها أن ضيوفه لم يأتوا عنده بغرض الإعداد لحملة انتخابية سابقة لأوانها بدليل أنه لم يتقدم بعد بأي طلب لحزبه لكي يزكيه. وقد استطاع البحراوي أن يخفف عنه الضغط الإعلامي والقضائي الذي طوقه من كل جانب بتبني هذه الفتوى. لكن الأيام أظهرت أنه فعلا كان يستعد للانتخابات وأنه أخذ تزكية من الاتحاد الدستوري وترشح ونجح في الانتخابات. ولذلك تحركت الآلة القضائية من جديد بعد أن سخن خصومه الطرح. لكن هذه الحركة القضائية تبدو فاقدة للقدرة على تطبيق القانون لصيانة هيبة القضاء وقدسيته. ولكي تشرح الجهات التي تحمي ظهر البحراوي، والمتهمين الثلاثة الذين يتابعون معه في هذا الملف، سعيد المهند، حسن طاطو، عبد القادر توربى، لكل الذين طبقوا القانون مع البحراوي وأعطوا الأمر بالانتقال إلى عين المكان واعتقال الجميع وأخذهم إلى أقسام الشرطة لتحرير المحاضر في حقهم، طبقوا معهم قاعدة «طلع تاكل الكرموس نزل من كالها ليك». فالقانون المنظم للانتخابات واضح، ويعطي لوزارة الداخلية الصلاحية الكاملة في تفويض الشرطة بتوقيف واعتقال كل من يقوم بحملة انتخابية سابقة لأوانها أو كل من يستغل وسائل الدولة للقيام بذلك. وكم كان مصطفى بنبراهيم مدير الشؤون العامة بولاية الرباط على نياته عندما صدق هذا البند القانوني المنظم للانتخابات، وأعطى الأمر، عبر الباشا الحبيب الباركي، للشرطة القضائية للانتقال إلى فيلا البحراوي واعتقاله متلبسا بتقديم وعوده لناخبيه قبل الأوان. لأن نتيجة تطبيق القانون في المغرب ضد أشخاص مثل البحراوي يمكن أن تكلفك كرسيك. وهذا ما حدث بالضبط لرئيس مديرية الشؤون العامة بولاية الرباط. فعندما وضعت الانتخابات أوزارها ونجح البحراوي رغم أنف القضاء، أول شيء ستقوم به الداخلية هو إعفاء بنبراهيم من منصبه على رأس مديرية الشؤون العامة وإدخاله إلى الوزارة. بمعنى وضعه في «التيروار»، بلغة أهل الإدارة. وليس وحده، بل حتى الباشا الباركي، الذي بنظر حماة ظهر البحرواي لم يقم بواجبه في إطلاع الوالي بقرار استنفار الأمن لاعتقال البحراوي وضيوفه قبل تنفيذه. وهكذا تذكرت الداخلية فجأة أن الباشا وصل إلى سن التقاعد منذ سنوات، فأحالته على المعاش. رغم أن زميله الباشا ركراكة وصل سن التقاعد قبله ومع ذلك لازال ينزل بنفسه لكي يتابع عمليات «تفليق» المعطلين والمعطلات وسط الرباط. إن العدالة في الدول الديمقراطية لا تستمد هيبتها من محاكمة المواطنين البسطاء فقط، وإنما أيضا تستمد هيبتها وشرعيتها من قدرتها على محاسبة وإدانة الكبار أيضا. وهذا ما يسمى عند فقهاء القضاء بقوة القانون. والقانون الذي ليست لديه القوة لكي يجبر نوعا من المواطنين أو المسؤولين على الخضوع لسلطته وأحكامه، هو في الواقع قانون يفقد هيبته في أعين الناس. وليس هناك من خطر يتهدد بناء الدولة الديمقراطية أكثر من قانون تمرغ هيبته في التراب. لذلك أعتقد أن محاكمة شباط ستكون مضيعة لوقت وجهد السادة القضاة. وربما كانت مصالح المواطنين وملفاتهم القضائية هي التي ستتضرر من هذه المحاكمة أكثر مما سيتضرر منها شباط نفسه. لأنها ستأخذ من السادة القضاة وموظفي المحكمة جهدا ووقتا سيكون أحسن لو وفروه لدراسة ملفات ومظالم وقضايا المواطنين. نخشى على الذين يريدون محاكمة العمدة شباط اليوم في فاس أن يجدوا أنفسهم غدا عرضة للمصير نفسه الذي لقيه من حاولوا تطبيق القانون ضد العمدة البحراوي في الرباط. فالدولة في هذه البلاد لازالت تعمل بقاعدة «طلع تاكل الكرموص»، وذلك حتى إشعار آخر.