على امتداد هذا الأسبوع يقام في المغرب، بدون علم وزير الاتصال، مؤتمر لأساقفة ومسؤولي الكنائس الكاثوليكية في دول المغرب العربي، لتدارس أوضاع الكنيسة وتباحث الصعوبات التي تعترض عمل كهنة المجمع الكنسي بمنطقة شمال إفريقيا. الملاحظ أن هذا المؤتمر جاء أسبوعا واحدا بعد رسالة العلماء التي وجهوها إلى الملك يعلنون فيها استعدادهم للوقوف في وجه الحملة التنصيرية التي تستهدف أبناء المغاربة. ولذلك فإحدى النقط التي سيطرحها الأساقفة خلال مؤتمرهم هي تداعيات «ترحيل المبشرين المسيحيين والصعوبات التي يجدها المسيحيون في ممارسة العبادة والحريات الدينية». بالنسبة إلى صحافي إسباني كإغناصيو سيمبريرو، يشتغل ضمن أجندة الحكومة الإسبانية، فهذا المؤتمر فرصة ذهبية لكي يصلب المغرب على صفحات جريدة «إلباييس»، خصوصا عندما يتحدث عن «حملة القمع والاضطهاد التي يتعرض لها مسيحيو المغرب منذ شهر مارس الماضي وإلى اليوم». ويضيف أن المغرب اعترف بطرد 16 مبشرا فيما الواقع أنه طرد كثيرين ولا يريد الاعتراف بذلك. والأخطر من هذا كله أن يربط «سيمبريرو» بين طرد هؤلاء المبشرين وتقويض «العمل الخيري» الذي يقوم به المسيحيون لفائدة المهاجرين الذين ينحدرون من الدول الإفريقية وكذا الأمهات العازبات والأطفال المشردين الذين يشكلون النقط المفصلية لمؤتمر الأساقفة المسيحيين طيلة هذا الأسبوع في الرباط. إذن، المغرب -حسب ما كتبه صحافي «إلباييس» وحسب ما يروج داخل مؤتمر لأساقفة ومسؤولي الكنائس الكاثوليكية في دول المغرب العربي- يمارس اضطهادا وقمعا ضد المسيحيين على أرضه ويعرقل قيامهم بعباداتهم وحريتهم الدينية. لعل أهم شيء نسي أن يكتبه هذا الصحافي، الذي تفوح من كتاباته رائحة كراهية دفينة للمغرب، هو أن مؤتمر الأساقفة المسيحيين «لجأ» إلى المغرب بعد أن استحال تنظيمه في الجزائر، والسبب هو أن جنرالات الجزائر رفضوا منح هؤلاء الأساقفة تأشيرات الدخول إلى البلد. وهكذا، ففي الوقت الذي يدخل فيه الأساقفة ورجال الدين المسيحيون واليهود المغرب من أجل إقامة قداساتهم ومؤتمراتهم بحرية كاملة، نرى كيف أن الجزائر تمنع بعض هؤلاء من دخول أراضيها بحجة السيادة الوطنية. ورغم هذا التضييق الفاضح على حرية الأساقفة في التنقل والسفر نحو الجزائر من أجل عقد لقاءاتهم، لم نسمع أحدا في «إلباييس» أو غيرها ينتقد حكام الجزائر ويهاجم التضييق الواضح على الحرية الدينية للأساقفة المسيحيين. ما حدث هو العكس تماما، فقد سمعناهم يتحدثون عن التضييق والقمع والاضطهاد الذي يطال المسيحيين على أرض المغرب، مع أن هذا الأخير سمح لهؤلاء الأساقفة، الممنوعين من دخول الجزائر، بدخول المغرب دون حاجة إلى الحصول على تأشيرة، واجتمعوا في الرباط دون حاجة إلى طلب إذن رسمي بذلك من طرف الجهات المختصة، من أجل عقد مؤتمرهم بسلام. لماذا، إذن، هذا التحامل على المغرب واتهامه على أرضه باضطهادهم وقمعهم، مع أنه يسمح للأساقفة المسيحيين بعقد مؤتمرهم بدون حاجة إلى رخصة، في الوقت الذي لا أحد من مهاجمي المغرب يتحدث فيه عن الجزائر التي منعت هؤلاء الأساقفة من دخول أراضيها من أجل عقد مؤتمرهم؟ الجواب واضح، هناك جهات إعلامية إسبانية مقربة من حكومة «ساباطيرو» تريد استغلال هذا الملف لتصوير المغرب أمام الاتحاد الأوربي كبلد يقمع المسيحيين على أرضه ويضطهدهم ويهدد عملهم «الإنساني» بخصوص مساعدة المهاجرين السريين الأفارقة الذين يتواجدون بالمغرب، والذين يشكلون الغالبية الساحقة من مرتادي الكنائس بالمغرب. ببساطة، إنهم يريدون تلطيخ صورة المغرب كشريك متقدم للاتحاد الأوربي، وتصويره كبلد لا يلتزم بتعهداته بخصوص الحرية الدينية وحقوق الإنسان. أي أنهم، ببساطة شديدة، يوجهون دعوة إلى الاتحاد الأوربي من أجل مراجعة وضع الشريك المتقدم الذي منحه للمغرب، لأن هذا «الوضع المتقدم» وما يترتب عنه من امتيازات فلاحية يضر مباشرة بالمصالح الاقتصادية الإسبانية. وهنا مربط الفرس. تخيلوا لو أن الجيش المغربي هو من تورط في مقتل رجال دين مسيحيين، كما صنع الجيش الجزائري سنة 1996 عندما قصف سبعة رجال دين مسيحيين في منطقة «البليدة» ثم ألصقها في «جبهة الإنقاذ»، لرأينا المغرب مصلوبا على أعمدة كل الصحف وتقارير المنظمات الحقوقية العالمية. لكن بما أن الجريمة البشعة وقعت في الجزائر، فإن رائحة النفط والغاز أعمت أعين الجميع. ولم نعد نسمع أحدا يتحدث عن مسؤولية الجيش الجزائري في مقتل رجال الدين هؤلاء. وحتى عندما ذهب ملحق عسكري فرنسي سابق بالجيش الفرنسي إلى المحكمة وقدم شهادته الشخصية حول مقتل رجال الدين السبعة وفضح مسؤولية الجيش الجزائري في مقتلهم، فإن صحافي «إلباييس» لم يقد حملة إعلامية ضد الجيش الجزائري متهما إياه بتصفية رجال الدين المسيحيين جسديا. وعندما نبحث جيدا بين طيات الأخبار والمقالات المسمومة التي تنشر هذه الأيام في إسبانيا حول «الحالة الدينية في المغرب»، نعثر على بصمات الجزائر في الحملة الإعلامية التي تتحدث عن «اضطهاد الدولة المغربية للمسيحيين وقمعهم». فالجزائر كما إسبانيا لم تهضما بعد الضربة الذكية والقاصمة التي وجهتها الخارجية المغربية إلى مدريد عندما تشبثت بتعيين ولد سويلم سفيرا للمغرب في مدريد. لهذا، نفهم سبب تردد الحكومة الإسبانية طويلا قبل قبولها أخيرا، وعلى مضض، أوراق اعتماد ولد سويلم كسفير للمغرب في مدريد. فولد سويلم صحراوي أولا، وثانيا فهو أحد مؤسسي جبهة البوليساريو. واختيار المغرب لسفير صحراوي مؤسس للبوليساريو لكي يمثله دبلوماسيا في بلد كإسبانيا تعود أن يضع فرقا سياسيا وإعلاميا واضحا منذ خمس وثلاثين سنة بين «المغربي» و«الصحراوي»، يشكل ضربة قاصمة لتلك الصورة التي ظل الإعلام الرسمي الإسباني يقدم بها المغربي كخصم وعدو للصحراوي. الشعب الإسباني في غالبيته لا يعرف أن الصحراويين أيضا مغاربة، يحملون جواز السفر وبطاقة الهوية المغربيين، ويشغلون مناصب رسمية في الدولة والحكومة والبرلمان. لقد قدموا إليهم الصحراوي في وسائل الإعلام الإسبانية دائما كمضطهد وكلاجئ وحامل للسلاح، وخارج هذه الصورة النمطية لا توجد صورة أخرى للصحراوي في المتخيل الإسباني، إذ يستحيل أن تقنع إسبانيا عاديا بأن الصحراوي مواطن مغربي. مصدر تخوف إسبانيا من تعيين الصحراوي ولد سويلم سفيرا للمغرب في مدريد هو زعزعة هذا التعيين لهذه الصورة النمطية التي رسخوها في ذهن الشعب الإسباني عن المواطن الصحراوي. فها هو اليوم سفير للمغرب من أصل صحراوي، وفوق هذا وذاك أحد مؤسسي جبهة البوليساريو. وهذا التعيين سيشكل بالنسبة إلى المواطن الإسباني العادي صدمة سياسية حقيقية، لأنه سيكتشف أخيرا أن الصحراويين يمكن أن يكونوا سفراء ووزراء وبرلمانيين ومسيرين للشأن العام في المغرب، عكس الصورة النمطية التي قدمتها إليهم وسائل الإعلام الإسبانية طيلة خمس وثلاثين سنة عن الصحراوي اللاجئ والمحارب من أجل تقرير مصيره. إنها صفعة سياسية مدوية لازالت حرارتها تلسع الخد السمين لوزير الخارجية الإسبانية «أنخيل موراتينوس». وبسبب هذه الصفعة، وبسبب صفعات أخرى ليس آخرها تحويل طريق عبور المهاجرين المغاربة من ميناء طنجة إلى ميناء طنجة المتوسط، وما سيترتب عن ذلك من قتل اقتصادي لباب سبتة، تترنح جهات إسبانية وتلوح بورقة الاضطهاد الديني للمسيحيين في المغرب. هناك مغالطة وخلط مدهش يقوم به الأساقفة والصحافة الواقفة خلفهم، فهم يخلطون بين ممارسة الشعائر الدينية المسيحية، التي يضمنها القانون المغربي، وبين التبشير المسيحي الذي يمنعه هذا القانون. وإذا كانت الدولة المغربية قد أبعدت هؤلاء المبشرين المسيحيين فلأنهم ارتكبوا، باعتراف السفير الأمريكي، تجاوزات قانونية تستوجب طردهم. ولذلك، فأنا لدي سؤال أود طرحه على هؤلاء الأساقفة المسيحيين. إذا كان الأساقفة المسيحيون يحترمون القانون في بلدانهم الأوربية والأمريكية، فكيف يدافعون عن خرقه في المغرب؟ عليهم أن يعرفوا ما الذي يريدونه بالضبط: ممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية داخل كنائسهم ومعابدهم، وهذا حقهم الذي لا ينازعهم فيه أحد مثلما هو الأمر بالنسبة إلى اليهود، أم إنهم يريدون مغادرة هذه الكنائس والمعابد والنزول إلى الأرض من أجل زعزعة عقيدة أبناء المسلمين تحت ستار العمل الخيري والإنساني؟ عندما سيجيبون عن هذا السؤال، ستتضح الأمور أكثر.