من المعروف أن حملات التبشير كانت من مخلفات الحروب الصليبية وكرد فعل لإعادة الاعتبار بعد الهزيمة النكراء التي تكبدها العالم المسيحي على يد القائد المجاهد صلاح الدين الأيوبي ، ولكنها دخلت عهدها المنظم والهادف مع ظهور حركة الاستشراق التي أمدت المنصرين بكل المعطيات والمعلومات الضرورية ، ولعل القس والمستشرق الاسباني " ريمون بول " هو أول من قام بإيعاز من الكنيسة الكاثوليكية بجولات منظمة قصد التبشير بالمسيحية في البلاد العربية والإفريقية بعدما تعلم العربية واللهجات البربرية منطلقا من المغرب بحكم القرب والجوار . كما أن إذاعة مونتي كارلو الشهيرة والتي تبث حاليا بخمس وسبعين لغة ولهجة عالمية وتخصص فترتها الذهبية للبث إلى دول المغرب العربي وإفريقيا ( بالدارجة المغربية والأمازيغية والعربية الفصحى ) . كانت قد بدأت نشاطها بمدينة طنجة المغربية سنة 1954 باسم " صوت طنجة " على يد مؤسسها القس الأمريكي " بول فريد " . وقد ازدادت حدة التبشير والتنصير مع مرور السنوات والعقود إلى أن دخلت في عصرها الذهبي ، كما يقول الدكتور أبو بطرس عام 1906 عندما انعقد أول مؤتمر للتبشير المنظم بالقاهرة عاصمة بلاد الكنانة تحت زعامة القس " زويمر " ليدخل التبشير رسميا إلى حلبة اللعبة السياسية الأممية ، والمؤتمر الرابع 1918 بالقدس الشريف ، وليس غريبا أن نعلم أن أول مؤتمر عالمي للتبشير انعقد بالقاهرة القلب النابض للعالم الإسلامي ، وأول إذاعة طنجة ، وأن تطبع جل المنشورات والمطبوعات التبشيرية الموجهة إلى الوطن العربي والإفريقي بمدينة سبثة السليبة ، قلت إن هذا ليس بالغريب إذا علمنا أن الخطة كانت مدبرة بكل دقة وداخلة في حسابات اللعبة السياسية العالمية الكبرى ، ومن هنا نعود إلى الشعار الذي يتنادى به المسيحيون في مؤتمراتهم وإذاعاتهم " إفريقيا مسيحية عام 2000 " ، وهذا ما يفسر لنا الرحلات المكوكية التي التي يقوم بها بابا الكنيسة الكاثوليكية يوحنا بولس الثاني إلى القارة السمراء ، ففي ظرف خمس سنوات ( 1981 – 1985 ) قام بثلاث زيارات رسمية لإفريقيا في كل واحدة كان يزور حوالي ثمانية دول ، ناهيك عن زيارته الأخيرة وزياراته السرية وزيارة نوابه ومبعوثيه ورؤساء إرسالياته ، ولقد أكد البابا هذا بنفسه خلال القداس الذي أقامه بالكاميرون حيث قال : " إنني لا آتي إلى هنا رئيسا للكنيسة الكاثوليكية فحسب بل ومبشرا أيضا " ، وجدير بالإشارة هنا إلى أن كل زيارة من زياراته لإفريقيا كانت تصحب بحملة إعلامية هائلة وتحليلات صحفية مسترسلة ، ولعل المهتمين بذلك لا يزالون يذكرون المقالات المطولة على الصفحات الأولى لجريدتي واشنطن بوست ونيويورك تايمز ، حيث نجد في رسالة نشرتاها معا ليلة زيارته الثالثة لإفريقيا جاء فيها : " إن البابا يزور إفريقيا هذه المرة ليطلب من رجال الكنيسة الكاثوليكية في إفريقيا أن يزيدوا من نشاطاتهم التنصيرية للوقوف أمام تعاظم المد الإسلامي الذي يعم إفريقيا حاليا " ، ولم تلبث إفريقيا بعد هذه الزيارة أن تحولت إلى خلية نخل تعج بالإرساليات والبعثات ، الشيء الذي جعل حسن جوليد ، رئيس دولة جيبوتي ، خلال لقائه في بداية أكتوبر بالرئيس المصري حسني مبارك بالقاهرة يصرخ مستغيثا بالأزهر وبالدعاة للوقوف في وجه الحملة الشرسة التي تتعرض لها إفريقيا من طرف المنصرين والخبراء الإسرائيليين وحاخامات اليهود الذين خلا لهم الجو مستغلين أوضاع المستضعفين المزرية ليقدموا لهم السم في الدسم . كما وجه الرئيس حسن جوليد نداء مستعجلا في الموضوع إلى منظمة المؤتمر الإسلامي . المقام يضيق عن التذكير بالأساليب والمناهج التي يعمد إليها المنصرون ، لكن الجديد في الأمر أن الأفعى المسيحية قد غيرت في الآونة الأخيرة جلدها الأشقر لتكون أكثر تناسبا وتناغما ، مع المناخ السائد للقارة الخزان ، كما يصطلح عليها منذ القدم ، فالبابا نوفاثيانوس بابا الكنيسة من 251 م إلى 258 م كان يطلق على المغرب الأقصى " مزرعة روما " ، لأن المدن الرومانية مثل " وليلي " و " ليكسوس " و " طنجيس " كانت تزود روما بكل حاجياتها من الحبوب الزيوت والجلود ... والبابا الحالي يستعمل نفس المصطلح لأن إفريقيا حاليا هي المخزون الاستراتيجي لتكوين القساوسة بعد أن بدأت الكنيسة في استيراد الكهنة السود عندما لم تجد من يدير مؤسساتها في أوربا وأمريكا بسبب عزوف الرجل الغربي عن خرافات الكنيسة وكثرة فضائح القساوسة المالية والأخلاقية وإصابة عدد كبير منهم بداء السيدا ، أقول : ذلك أن الكنيسة المسيحية اعترفت علنا وعلى لسان البابا نفسه في زيارته للكاميرون بالكثير من القيم والعادات والطقوس الوثنية وزواج المتعة وتعدد الزوجات والطلاق والرقص الصاخب المفعم بالطقوس الوثنية عند قبائل الأحراش الإفريقية ، وطبعا فكل هذا من أجل كسب هؤلاء واستمالتهم إلى المسيحية بعدما استحال عليهم الجمع بين المسيحية وتحريم هذه الطقوس التي تعتبر جزءا لا يتجزأ من حياة الرجل الإفريقي ، في الوقت الذي يقول فيه المدير العالمي للتنصير في إفريقيا : " بالإمكان تنصير سكان موزنبيق كلهم في ظرف عشرين سنة ، لكننا فشلنا في دول ما وراء الصحراء " ، يقصد دول المغرب العربي ، ومن هنا نفهم جيدا دوافع الحملة المكثفة والجادة التي تعرفها بلادنا في الآونة الأخيرة ، فقد أصبحت الرسائل تتقاطر على شباب الأمة بشكل غريب آتية من مدن برشيد ومراكش والدارالبيضاء ، كما يدل على ذلك طابع البريد بكل وضوح ، ناهيك عن الرسائل القادمة من وراء الحدود وخاصة من سبتة وإسبانيا وفرنسا وانجلترا وكندا ورغم اختلاف مصادر هذا السيل من الرسائل إلا أنها تتحد في الخطاب والمنهج والأسلوب ، فنلاحظ مثلا : 1 / يتكرم الدكتور أبو بطرس بإرسال مجلة " المنارة " بالعربية والفرنسية والاسبانية ، بانتظام عددا تلو الآخر وقد بلغت الآن العدد 27 ، يتطرق فيها إلى عدة مواضيع دينية بأسلوب أخاذ وجد حذر ، يعرف من خلاله بالكتاب المقدس ؟ متحاشيا تسميته بالإنجيل ، وكيفية قراءته وآداب ذلك ... حتى إنه يصعب عليك وأنت تقرأ فقرات المجلة أن تميز بينها وبين مجلة إسلامية أخرى تتكلم في نفس الموضوع ، لدقة اختيار الموضوع وانتقاء الكلمات المناسبة لخطاب ديني عادي جدا بالنسبة لكل المسلمين حتى لا يحس القارئ بغرابة ما يقرأ مقارنة مع ما ألف قراءته عن دينه . وفي المجلة ركن للتعارف أدرجت فيه مجموعة من العناوين تزعم المجلة أن أصحابها قد راسلوها وهم من المدن التالية : 7 من الدارالبيضاء ، 2 من سلا ، 2 من تطوان ، 1 من الرباط ، اليوسفية ، برشيد ، وجدة . ومن خلال إلقاء نظرة أولية على أصحاب هذه العناوين يتضح لنا الصنف المستهدف ، فمن البيضاء : ع . الكبير ، صانع أحذية ، ج . عز الدين ، من اليوسفية تلميذ 4 إعدادي ، أ . عبد الكريم ، مستخدم بمؤهل 5 ابتدائي ، من تطوان ، أ . أنوار ، 2 ثانوي ، المهدي رفيق من وجدة 1 ثانوي . ونتساءل : هل يستطيع هؤلاء أن يميزوا في مثل الخطاب المستعمل في المجلة بين ما هو إسلامي وما هو مسيحي ؟ ثم إنني قمت بزيارة عدد من هؤلاء معتمدا على العناوين المذكورة بالمجلة ، وجميعهم أكدوا لي أنهم لم يقوموا أبدا ببعث عناوينهم إلى هذه المجلة لنشرها في هذا الركن أو لتلقي مثل هذه النشرات ، وأبدوا استغرابهم ، بل الأغرب من ذلك ، يضيف أحدهم : إنهم يرسلون لي بنشراتهم باللغة الإسبانية ، فمن أخبرهم أنني فعلا أهتم بهذه اللغة وأدرسها بالثانوية ؟ . وعلى الصفحة السادسة من المجلة هناك إعلان مكتوب بخط مكبر يقول : " يمكنك أن تحصل على نسخة من الكتاب المقدس باللغة العربية بالاتصال بالعنوان التالي ... مجانا طبعا " . 2 / في رسائل أخرى تأتي من مدينة برشيد وتحمل مطبوعات عليها عناوين بريطانية ، مكتوبة بالعربية وموقعة باسم " صديقك الشيخ عبد الله " وهي سبعة دروس تحت عنوان " الله أكبر " مرفقة برسالة مطبوعة وموقعة من طرف الشيخ الجليل عبد الله يقول فيها : " هذه الدروس تعين الإنسان على حل مشكلات الحياة ومتاعبها ونحن سنرسلها كلها لك بالمجان لوجه الله وابتغاء مرضاته ، كما أنه أثناء الدراسة بمشيئة الله تعالى سوف نرسل لك كاسيت وبعض الكتب القيمة كهدية أيضا " ، وهذه الدروس مرفقة بورقة امتحان كتبت عليها عشرة أسئلة مثل : كيف نعرف أن الله موجود ؟ من هو أكبر عدو للإنسان ؟ ما هو هدفه ؟ لماذا طرد الله آدم وحواء من الجنة ؟ من هو أول إنسان خلقه الله ؟ ... ومرة أخرى أثير انتباه القارئ الكريم إلى أنه يصعب جدا أن يفرق الإنسان العادي بين محتوى هذه الدروس وبين محتوى دروس الدين والأخلاق في برنامج التربية الإسلامية للابتدائي والإعدادي . وفي النهاية ختم رسالته بقوله : " صديق لك أعطاني اسمك وعنوانك وقال لي : إنك تحب أن تحصل على هذه الدروس ؟ " ، وبهذا الأسلوب الماكر يحاول هؤلاء الخبثاء استدراج البسطاء إلى المسيحية وصرفهم عن دينهم ، ولعل هذه الإستراتيجية هي عملة الساعة ، فقد أصدر مجلس الكنائس الإثيوبي الارثودكسي في الأسبوع الماضي قرارا من طرف الرئيس الأعلى للكنيسة يأمر فيه جميع القساوسة بارتداء الزي الأبيض والعمامة البيضاء تماما كما يفعل الأهالي وكان ذلك خلال الاجتماع الحادي عشر لمجلس البطريرك الكنسي ، وكان الحاضرون قد فوجئو برئيس الكنيسة يدخل مرتديا زيا أبيض وعمامة بيضاء خلافا للتقليد السائد في جميع الكنائس القبطية واليونانية ، أي الزي الأسود والقلنسوة الحمراء ، وكل هذا من أجل الانصهار والتفاعل الحربائي مع المجتمع وإذابة حاجز الغرابة والتميز الذي ينفر الأهالي منهم ، ولهذا السبب قام الفاتيكان بمباركة التحولات الجذرية في التشريع المسيحي مثل جواز الطلاق والسماح للمطلق بإعادة الزواج والسماح لرجال الدين بالزواج ، وللمرأة بممارسة وظائف القساوسة والقول بالحرية الجنسية وتحديد النسل ... بل إن : " القاعدة الكبرى في عدة كنائس عالمية أصبحت قائمة على إدخال الموسيقى والرقص واللهو إلى الكنائس ويلاحظ هنا هوس الشباب الإفريقي بالموسيقى وولعهم بالرقصات الإفريقية التي لم تعد الكنيسة تحرمها " ، ومن أجل هذا الشباب أصبحت الكنيسة مستعدة لتقديم كل أصناف التنازلات حتى في عقيدتها ، فقد قام أحد الشبان الأفارقة بنحت تمثال للسيد المسيح عليه السلام على صورة امرأة فائقة الجمال . وأعجب رجال الدين بفكرة الشاب لأنهم يتصورون أن جماليات الأنثى ومفاتنها تعطي بعدا جديدا للحب الإلهي ، ولما قدم التمثال للبابا يوحنا بولس الأول : " لم يتردد في أن الله يمكن أن يكون امرأة ثم استدرك ... أقصد أما كما هو أب " . 3 / في كل هذه الرسائل توجد إعلانات توضيحية عن كيفية التقاط البرامج الأثيرية من إذاعة " مونتي كارلو " وخاصة برنامج " نمشي معا " وبرنامج " الطريق والحياة " من إذاعة مارساي ، ويتضح من خلال الإعلان المطبوع بكل دقة أن البرامج موجهة خاصة لدول المغرب العربي ودول الشرق الأوسط ، وجمعية الطريق والحياة تبدي نوعا سخيا من الكرم منذ الوهلة الأولى لأنها ترسل مع هذه الرسالة طردا بريديا يحتوي على عدة كتيبات بالعربية والفرنسية والانجليزية وتقترح على من يهمه الأمر تقديم المساعدات اللازمة لدراسة اللغة الفرنسية على الأخص ، وتخبر المرسل إليه أن القس " إيفان " الساكن بالبيضاء سيتصل به لإتمام المشور معه ... صاحبة الجلالة : أسبوعية الصحوة العدد : 17 / يناير 1993