توجهت أنظار العالم إلى العاصمة الدنماركية كوبنهاكن حيث انعقدت قمة للأمم المتحدة حول المناخ (7-18 دجنبر 2009) التي حضرها العديد من زعماء العالم من أجل تداول الإجراءات الكفيلة للحد من مخاطر التغيرات المناخية.ويعد هذا الموضوع من أخطر التحديات المطروحة على الساحة الدولية، نظرا لما لها من انعكاسات خطيرة على مستقبل العالم برمته، فقد أثبتت الهيئة الحكومية الدولية، المعنية بتطور المناخ، التي يرأسها باتشاوري، أن تغير المناخ حقيقة، وواقع علمي لا لبس فيها، ولا يدع مجالا للشك. وعليه فإن الجدال حول حقيقة هذا الموضوع أصبح جزءا من الماضي، ولا يمكن كذلك، حسب باتشاوري، أن نتحمل نقاشات جديدة حول ضرورة التصرف والفعل. لهذا فالأمر يقتضي المرور إلى الفعل وبشكل جدي واستعجالي ومحكم. ويرى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أن الإخفاق في كوبنهاكن غير مسموح أخلاقيا، فالواجب الأخلاقي يفرض على العالم أجمع، وخصوصا البلدان الغنية، أن تتحمل مسؤوليتها التاريخية في التخفيف من حدة الكارثة المتوقعة مستقبلا في مختلف بقاع العالم جراء تأثيرات الانحباس الحراري الذي أصبح واقعا لا يكتنفه غموض. وتجدر الإشارة إلى أن ظاهرة الاحترار ليست جديدة على العالم الذي شهد عصورا عرفت تغيرات مناخية مستمرة، أثرت بشكل جلي على تطور الأرض والكائنات الحية، ولعل أبسط مثال في هذا المجال هو انقراض حيوانات كما هو الشأن بالنسبة للديناصورات. غير أن الانحباس الحراري الذي نتحدث عنه اليوم يتميز بخصائص جديدة ومعقدة: فخلال العقود الأخيرة، شهد العالم ارتفاعا لدرجة الحرارة بشكل ملحوظ ومتسارع يختلف تماما عن وتيرة الاحترار الملاحظ قبل هذه الفترة. ومن المؤكد أن يستمر الوضع في التفاقم حتى في ظل السيناريو التفاؤلي. ولعل ما زاد الوضع تعقيدا، هو الأنشطة البشرية والصناعية، التي ينتج عنها انبعاث الغازات الدفيئة (ثاني أوكسيد الكربون وغازات أخرى) المسببة الرئيسية للانحباس الحراري. ويعد العنصر البشري أهم محور في هذه الظاهرة: فهو المؤثر على مدخلات النظام المناخي باعتباره مسببا للغازات المنبعثة من جهة، ومعرضا لمخرجات نفس النظام لكون تأثيراته المتعددة تنذر بحدوث كوارث بشرية في المناطق العديدة من العالم، ولا سيما الأكثر هشاشة تجاه العواقب المترتبة عن التغيرات المناخية، أو التي قد تكون فيها بالغة الشدة. ويمكن حصر أهم التأثيرات المحتملة للاحترار العالمي في ما يلي: ارتفاع مستمر ومتسارع لدرجة الحرارة على المستوى العالمي يتراوح حسب بعض التوقعات من 1,1 درجة إلى 6,4 درجة مائوية بحلول عام 2100. تزايد محتمل لموجات الحر وارتفاع في مستوى تبخر المياه، مما سيؤدي إلى انتشار الجفاف في مناطق عديدة من المعمور ولاسيما المناطق الرطبة. هطول أمطار غزيرة ومزيد من الفيضانات في مناطق أخرى من العالم نتيجة التبخر المفرط للمياه. إضافة إلى الخلل، الذي سيطرأ على مستوى التوزيع المألوف للتساقطات السنوية. تراجع الكتل الثلجية والجليدية في العالم بشكل ملفت وسريع مما يتسبب في ازدياد حجم البحار والمحيطات من جهة وفي جفاف ونقص المياه الصالحة للشرب من جهة أخرى في المناطق المعتمدة على المياه المنصهرة من ثلوج المناطق الجبلية. ارتفاع منسوب مياه البحار والمحيطات نتيجة انصهار الكتل الثلجية والجليدية من جهة، ومن جراء التوسع الحراري لمياه البحر نتيجة ارتفاع درجة حرارتها من جهة أخرى. وهكذا يتضح أن مآل النظام المناخي ستترتب عنه وضعيات جديدة للأنساق البيولوجية والفيزيائية في مختلف بقاع المعمور، فقد يشهد العالم ندرة في المياه وتراجعا للمنتوج الزراعي، خصوصا في المناطق الاستوائية وحوض البحر الأبيض المتوسط، كما أن الفيضانات التي يحتمل أن تكون مكثفة، ستؤدي إلى خسائر مادية جسيمة وانجراف للتربة مسببا تعرية مناطق فلاحيه تصبح غير قابلة للزراعة ، مما سيؤثر بشكل خطير على الأمن الغذائي ليشمل مئات الملايين من البشر. وتعتبر المناطق الساحلية من البقاع الأكثر هشاشة تجاه تأثيرات ظاهرة تغير المناخ، فهي تؤوي عددا مهما من السكان اعتبارا لثرواتها وللإمكانيات الاستثمارية التي تتيحها. فبالنسبة لحوض البحر الأبيض المتوسط، تشكل مناطقه الساحلية 12% ولكنها تؤوي حوالي 33% من السكان، ونظرا لهذا الضغط السكاني الذي تعرفه، فإنها تخضع لضغوطات بيئية خطيرة ومتنوعة. وإذا اعتبرنا تأثيرات الاحترار المرتقبة، ولا سيما الفيضانات وارتفاع منسوب المياه فإن مساحات مهمة منها ستغمرها المياه مستقبلا، وهذا ستترتب عليه عواقب خطيرة عديدة تهم البنى التحتية والأنشطة الاقتصادية والأنظمة البيولوجية ، فضلاً عن نزوح السكان وما يليه من أزمات اجتماعية وسياسية. وخلاصة القول، فإن ظاهرة الانحباس الحراري عالمية وانعكاساتها المتنوعة كذلك رغم اختلاف حدتها من منطقة إلى أخرى، كما أن مجالاتها واسعة ومترابطة لذا يتوجب على العالم أجمع أن يتخذ الإجراءات الضرورية والعاجلة لتفادي الكارثة. وتتمحور هذه التدابير حول نقطتين: العمل على الحد من انبعاث الغازات المسببة للانحباس الحراري وفق جدول زمني واضح يحدد مستوى تخفيضات هذه الغازات التي يجب تطبيقها من طرف المجتمع الدولي، حتى لا تكون المصيبة أعظم. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الإجراء يجب أن يتعزز بتدابير أخرى مترابطة ومكملة كدعم الطاقات المتجددة والنظيفة والرفع من مساحات الغطاء النباتي... وحسب الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتطور المناخ فإن تكاليف الجهود الصارمة للحد من التأثيرات المترتبة على تغير المناخ لن تتجاوز 3% من الناتج الداخلي الخام للعالم في عام 2030. وإذا كانت هذه النسبة ستترجم إلى تكاليف باهظة، فإن الأرباح التي سيجنيها العالم ستكون في غاية الأهمية، ولهذا فإن هذا الإجراء استثمار يعود بالنفع على الجميع، سواء على المستوى البيئي أو الطاقي أو الاقتصادي، فضلاً عن التخفيف من حدة ظاهرة الاحترار. التأقلم مع التغيرات المناخية: باعتبار ظاهرة الانحباس الحراري حتمية ولا يمكن تفاديها رغم كل الإجراءات الاحترازية المتعلقة بتخفيض الغازات المسببة للاحترار، والتي سوف تعمل بالتأكيد على التخفيف من حدتها، وتبقى ضرورة دعم قدرات المجتمعات البشرية على التكيف مع التغير المناخي باتخاذ الإجراءات الكفيلة للتخفيف من حدة آثار هذه الظاهرة. وهذا العمل التربوي والتحسيسي يتطلب جهودا وتكاليف يتوجب على الدول الصناعية أن تساهم فيه بشكل فعال وأن تبادر إلى دعم الدول السائرة في طريق النمو الأكثر عرضة لهذه المخاطر من أجل دعم قدراتها في التأقلم مع تأثيرات تطور المناخ. وقد انطلقت بالفعل تجارب في مختلف بقاع العالم، وعلى سبيل المثال لا الحصر مشروع (أكما) للتأقلم مع التغيرات المناخية بالمغرب، الممول من طرف مركز البحوث الدولية للتنمية بكندا. هذا المشروع، الذي انطلق منذ أكثر من سنتين بكل من إقليمي الناظور وبركان، وساهم بشكل ناجع في دعم قدرات المسؤولين ومختلف الهيئات والسكان المحليين للتكيف مع التغير المناخي، وتبين بشكل جلي أهمية هذه المبادرة في دعم قدرات السكان في التخفيف من حدة تأثيرات هذه الظاهرة. إن هذين المحورين، هما اللذان يشكلان محتوى نقاشات وقرارات قمة كوبنهاكن للمناخ، دون أن ننسى سيرورتها الطبيعية لكونها تندرج في إطار مسلسل الاتفاقيات الدولية الأساسية في هذا المجال والذي بدأ في سنة 1992 بالاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة حول التغيرات المناخية بريو دي جانيرو ودخلت حيز التنفيذ سنة 1994 ، ثم تلاها بروتوكول كيوتو سنة 1998، الذي دخل حيز التنفيذ سنة 2005. لقد كان هدف الاتفاقية الإطارية، التي صادقت عليها 189 دولة، هو استقرار تركز الغازات الدفيئة في الجو، في مستوى يمنع حدوث خلل خطير بالنظام المناخي. أما بالنسبة لبروتوكول كيوتو(جرى التوقيع عليه من طرف 172 دولة) الذي نص على التزامات واضحة في هذا المجال، فقد وضع جدولة زمنية لتخفيض الغازات المنبعثة لتصل إلى 5.2 % سنة 2012 مقارنة بسنة 1990. وعلى هذا الأساس، ينتظر من قمة ما بعد كيوتو، قمة كوبنهاكن للمناخ، أن تؤسس لحكامة مناخية جديدة وتتخذ خلالها قرارات حاسمة وجريئة تلتزم بها بلدان العالم وعلى رأسها الولاياتالمتحدة والصين والهند، وغيرها من الدول الصناعية والملوثة أكثر للجو بالغازات الدفيئة. إن الأمل كبير في هذا المؤتمر الأممي، للتخفيف من حدة المخاطر المناخية المحتملة، لتفادي الجفاف والتصحر، والتعرية وتراجع المحصول الزراعي، وغمر مساحات مهمة من المناطق الساحلية، وانهيارات الأنظمة الطبيعية والمادية والبشرية، والأوبئة، والأزمات الاجتماعية والسياسية العنيفة، ولعدم تعريض مئات الملايين من البشر للمجاعة، ولإنقاذ مستقبل البسيطة من كوارث مهولة. يا زعماء العالم، إن جزءا من مستقبل كوكبنا يحدد الآن، وإن الأجيال المقبلة ستحكي عما ستقررونه، فماذا ستحكي؟