حظيت مسألة حظر المآذن في سويسرا بردود فعل مفرطة في تركيا من كافة المستويات الرسمية وغير الرسمية، ومن كافة فئات المجتمع؛ طلابا وأساتذة، وعمالا ومزارعين.وكان الدفع باقتراح حظر المآذن إلى الاستفتاء الشعبي في سويسرا بمثابة خطأ فادح في حد ذاته، في نظر الشعب التركي. إذ إنه يؤمن بأن المآذن حق أساسي من حقوق حرية الاعتقاد الديني، ولم يكن ليتوقع أبدا أن تقدم سويسرا على هذه الخطوة. حقا، لقد صُدم المجتمع التركي من ذلك السلوك غير المتوقع من الشعب والحكومة السويسريين. وأحسب أن نتائج ذلك الاستفتاء العجيب ستؤدي إلى نقاشات وجدالات كثيرة لا تنتهي. إنه ليس من الممكن لتركيا أو مصر أو سوريا أن تجري استفتاء تسأل فيه مواطنيها: "هل ترغب في تقليص عدد الكنائس أو المعابد اليهودية ؟". بل هو استفتاء لا يمكن للهند أيضًا أن تقوم به ضد مساجد المسلمين. ومن ثمة فهو استفتاء يبرز النوايا السيئة لدى الإدارة السويسرية. وثمة بعدان في الموقف السويسري: الأول يتعلق بمن سألوا هذا السؤال، والآخر يتعلق بمن أجابوا عنه... فأما الذين صوتوا على ذلك الاستفتاء بالإيجاب فيحملون في دخيلة نفوسهم روحًا عرقية متشددة. فالإنسان الأوروبي رغم ما يبدو عليه من ملامح المدنية ينتسب في الأصل إلى مجتمع غير متسامح. وهذا عنصر أساسي في تركيبة الإنسان الأوروبي. ولقد تعرضت أوروبا للضعف على مدار تاريخها من جراء ذلك النوع من القرارات. وها هي اليوم تخطو خطوة جديدة في المضمار ذاته. إن أوروبا -في الحقيقة- ممزقة كل ممزق بسبب صراعاتها المذهبية وإن لم يبد ذلك على مظهرها الخارجي. وأما نية الذين سألوا ذلك السؤال فأشد وأنكى وأسوأ ممن أجابوا عنه. إن جزءًا مهمًا من المنطقة الجغرافية، التي نطلق عليها اليوم أوروبا قد خضعت للإدارة العثمانية أعواما طويلة. وعند النظر إلى المدن الأوروبية خلال تلك العهود نجدها تضم بداخلها الجامع والكنيسة والمعبد جنبًا إلى جنب. وهو ما لا يختلف عما نراه في اسطنبول اليوم. وإن شئت فاذهب مثلاً إلى حي "اورطه كوى" أو حي "قوم قابى" ستجد المنظر نفسه؛ الجامع يلتصق بالكنيسة وعلى بعد خطوات منهما تجد المعبد اليهودي. إن خطورة ذلك الاستفتاء ستصبح أشد وطأة إذا ما انتهجت الدول الأوروبية مواقف مشابهة لموقف سويسرا. فسويسرا دولة سياحية من الدرجة الأولى، وهي من الأماكن المفضلة لدى السياح العرب، ومن ثمة ينبغي علينا القيام برد فعل ضد الدول التي ترغب في القيام بمثل هذه المواقف المتشددة، ولتكن ردود فعل متزنة إيجابية لا تصل على حد التطرف. ويقول أحد الأتراك الذين يعيشون في سويسرا: "إن المسلمين في سويسرا يعاملون مع الأسف معاملة من الدرجة الثالثة. والمسلمون هناك يخضعون لتمييز سلبي أكثر من التمييز العنصري، الذي يعاني منه الزنوج في أميركا". ويقول تركي آخر: "ثمة دروس ينبغي تعلمها من ذلك القرار. فرغم أن هناك حديث عن الإنسانية والتطور الحضاري والتسامح، وكذلك رغم الحديث عن ثراء التعددية الثقافية، إلا أن الذهنية الأوروبية لم تتغير والإنسان الأوروبي هو الإنسان الأوروبي..". إن تجاوز أوروبا لمسألة الأحكام المسبقة والخطوط الحادة أمر غير يسير. وهو ما عبر عنه المفكر الغربي "رديارد كبلنغ" حيث قال: "الشرق شرق، والغرب غرب. والشرق سيمارس شرقيته، والغرب أيضًا سيمارس غربيته ما دامت السماوات والأرض. هذه هي خلاصة الأمر". وبالنظر إلى البعد الإنساني في مسألة حظر المآذن، نجد أنفسنا أمام وضع يستعصي على الفهم والاستيعاب. لقد علق بعض السياسيين الأتراك على الموضوع بقوله إن ما حدث عيب في حق الغرب. والحقيقة أن ما حدث يمثل مأساة الشرق أكثر من كونه عيبًا في حق الغرب. وذلك لأن الإنسان الشرقي يكافح وينافح ليكون غربيًّا في حين أن الغرب يقول بلسان حاله دومًا "أنتم لستم منا ونحن لسنا منكم". وهو ما يعبر عنه المثل التركي الشهير: "لا امتزاج لزيت مع ماء". وفي رأيي، هذا الموضوع لا يعبر عن مسألة دينية بل هي مسألة ثقافية وحضارية. فالمئذنة لا تمثل عنصرا من عناصر الدين، كما لا تمثل روح الدين أيضًا. وعلى الرغم من ذلك فإن للمئذنة في تاريخنا التركي ميراثا ثقافيا أصيلا وتأثيرا وجدانيا بالغا. وحين تذكر كلمة مئذنة نستدعي إلى ذاكرتنا ومخيلاتنا كل ما يحيط بالمئذنة من روعة في المعمار، ورمز في ميراثنا الأدبي/ وشعور بالعزة والشموخ. ويكاد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لا يترك حديثًا من أحاديثه دون أن يتحدث عن مسألة المآذن في سويسرا. وخلال محاضرة له باسطنبول في الخامس من ديسمبر الحالي (2009)، وكان قد بدأ الحديث عن مسألة الاستفتاء حول حظر المآذن في سويسرا، إذا بصوت الأذان يرتفع من حوله، فتوقف أردوغان عن حديثه وأخذ يردد الأذان حتى انتهى. إن الشعب التركي بمختلف فئاته وتياراته يتابع عن كثب هذا الموضوع، وقد نظم الأتراك المسيرات الاحتجاجية ومظاهرات أمام السفارة السويسرية في أنقرة ووضعوا على بابها إكليلاً أسود. وبصفتي واحدا من الذين يتابعون عن قرب العالم العربي أيضًا، فقد قفز إلى ذهني سؤال: هل تركيا هي التي ضخمت من هذه المسألة أم أن الدول العربية هي التي لم تهتم بها؟ كاتب تركي