يقترن عيد الاستقلال، الذي يخلد الشعب المغربي اليوم ذكراه الرابعة والخمسين، بذكرى انصهار القمة والقاعدة، والتفاف إرادتهما للمضي قدما على طريق الحرية، ثم البناء المؤسساتي، الذي أرسى الدعائم الأساسية للتوجه في مسلسل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وفق مقاربات تتجاوب مع مقتضيات العصر وروحه وامتداداته.فهذا الحدث يمثل وقفة مصيرية، شكلت، كما قال المغفور له محمد الخامس «نبراسا يضيء لنا سبل العمل ،» و »صيانة الاستقلال وتحقيق الحكم الديمقراطي ». إنها محطة مضيئة، خاض خلالها محمد الخامس ملحمة الاستقلال، وقاد شعبه إلى الحرية والكرامة، التي اغتصبها المستعمر لأزيد من 43 سنة، بنهج سياسة حكيمة ومتزنة، تميزت بصمود ملكي بطولي في وجه الإعصار، إلى أن تحقق الانتصار، وتحرر الوطن من ربقة لاستعمار. وسجل الواقع التاريخي هذه القصة الوطنية الخالدة، لترويها الأجيال خلفا عن سلف، وليذكرها المغاربة على الدوام، فتبعث في نفوسهم الفخر والاعتزاز، إنها قصة كفاح جلالة الملك محمد الخامس، من أجل تحرير المغرب، والخروج به من عهد التأخر والانحطاط، إلى عهد التقدم والرقي، ومن ظلمات الاستعمار والعبودية، إلى نور الاستقلال والحرية. ميلاد وملك وإصلاح في مطلع القرن المنصرم، كان المغرب دخل في عهد مظلم من تاريخه، إذ امتدت إليه الأطماع الاستعمارية، وبدأت بعض دول أوروبا تبرم في ما بينها الأوفاق السرية في غفلة عنه وعن أبنائه، من أجل احتلال أرضه، التي ظلت، طيلة أكثر من ثلاثة عشر قرنا، صامدة في وجه المعتدين، مستقلة عن كل تدخل أجنبي. وما أن أطلت سنة 1909 حتى كان السيل بلغ الزبى، والشعب الشهم الأبي ينادي من كل جهة: «الغوث.. الغوث يا رب، خذ بيدنا يا إله العالمين،انصرنا يا رب على الأعداء ». وزاد في الطين بلة أن الأيدي الأجنبية كانت أخذت تمد العون للخوارج على السلطة، وتعطي المال لأمثال «الروكي بوحمارة »، وتنشر الفتنة والجهل في البلاد في تلك الظروف الدقيقة الصعبة القاسية، ويوم 23 رجب 1327 للهجرة الموافق ليوم 10 غشت 1909 ، نادى المنادي، ورددت صداه المملكة شرقا وغربا: "في هذا اليوم المبارك السعيد، أكرم الله الشريف الأصيل، الحسيب النسيب، الأمير ابن الملوك، وسليل السلاطين العلويين: مولاي يوسف بن السلطان المنعم مولاي الحسن، فرزقه تعالى ولدا ذكرا أسماه محمدا". كان المستعمر تمكن من المغرب بقوة السلاح والنار، وبتشجيع الشعوذة وتضليل العامة، وفرضت الحماية الأجنبية على المملكة المغربية المنيعة، وتحدث أحداث، وتمر الأيام، ويشب سيدي محمد، ويتوفى الله إليه والده، السلطان مولاي يوسف، وتبحث الأمة عمن يخلفه، ويكون هذا الخلف الطيب هو محمد بن يوسف، ويكون يوم المبايعة من أعظم أيام تاريخ المغرب: يوم الجمعة 22 جمادى الأولى 1346 للهجرة، الموافق ليوم 18 نونبر 1927 ، وكان أول تصريح سمعه العالم من السلطان الشاب هو: إن الشعب المغربي ينتظر منا مجهودا مستمرا، لا من أجل تنمية سعادته المادية وحدها، ولكن لنكفل له الانتفاع من تطور فكري يكون متلائما مع احترام عقيدته، ويستمد منه الوسائل التي تجعله يرتقي درجة عليا في الحضارة بأكثر ما يمكن من السرعة". وكان وعدا لم يخلفه صاحبه، وكان في الوقت نفسه تلميحا وتصريحا بما حققه الرجل العظيم. العلم والخرافة وتبدأ قصة كفاح محمد بن يوسف من أجل عزة بلاده وشعبه بمحاربة البدع والشعوذة لتطهير العقول من الخرافات، التي كانت مطية للمستعمر. وهكذا فما مضت مدة وجيزة على مبايعته حتى أصدر أمره الشريف إلى الباشوات والقواد بما أفصح عنه المنادون العموميون، الذين انطلقوا في شوارع المدن وأرجاء القرى يرددون: يا عباد الله، يا أيها المسلمون، لن تسمعوا إلا خيرا: بأمر من جلالة السلطان، نصره الله، يمنع من اليوم التجول في الشوارع على طريقة الهمج: بافتراس الأكباش واللحوم، وشق الرؤوس، ومن أنذر فقد أعذر. وتقبل الناس هذا الإصلاح بالترحيب والاستبشار، ورأوا فيه بداية خير ورقي، لأن أمير المؤمنين سعي بذلك العمل إلى الرجوع بشعبه إلى الإسلام الصحيح، والى تطهير المجتمع من الاضاليل. ثم أخذ الملك الشاب يهتم بالعلم ويصلح شؤون التدريس ببناء المعاهد ومراجعة برامج التعليم الإسلامي، كما أخذ يجدد المساجد ويبنيها وحرص على أن يحضر بنفسه بعض المظاهرات الدينية، التي كان دعاة التدجيل بتشجيع من المستعمر يستغلونها، حتى تخلو مما قد يسيء إلى الإسلام الحقيقي والسلفية الصالحة، ولم تكن هذه الحركة الإصلاحية، التي ينهجها السلطان الشاب لتروق الإقامة العامة، ولكنه سار فيها قدما. الظهير البربري وكان أول كيد كاده رجال الحماية للملك الشاب ولشعبه، وأعظم بادرة شر دشنوا بها ذلك العهد أن أصدروا المرسوم الرامي إلى تفريق سكان البلاد، وخلق النزعات القبلية.. عملا بمثلهم السائد: «فرق تسد »، وكانت منهم خدعة واستغفالا لم ينجحا، وانطلق الشعب يردد: لن يفرقنا كيد المستعمرين أبدا، فلنا من إخلاص أمير المؤمنين أقوى ضمانة لوحدتنا، فليس في المغرب إلا مغاربة إخوة كرام يدينون بالولاء لإمام واحد، وملك واحد، فهو عمدتنا ورمز وحدتنا، سواء منا العرب والبربر فكلنا مغاربة ونموت جميعا فداء لوحدة أمتنا وبقائها على قلب رجل واحد، ودين واحد، وشريعة واحدة، وعرش واحد »، كما انطلقت أرجاء المساجد تردد الدعاء الشهير: «اللهم يا لطيف نسألك اللطف في ما جرت به المقادير، اللهم لا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر . وكانت تلك المحنة في سنة 1930 بعد ثلاثة أعوام فقط على تربع محمد بن يوسف على عرش المملكة، فوقف رحمه الله موقف الدفاع عن وحدة شعبه، خاب كيد الكائدين رغم تأسيسهم المحاكم العرفية وتحريمهم اتباع الشريعة الإسلامية في الحكم والترافع بين المواطنين في المناطق الجبلية، فما ازداد الشعب إلا تعلقا بالإسلام، والشريعة المحمدية، وتشبثا بجلالة الإمام المخلص أمير المؤمنين محمد بن يوسف الذي اخذه، بعد فترة وجيزة من تلك المناورة، يقوم بالزيارات التفقدية ويتصل مباشرة بمختلف الطبقات برنامج الإصلاحات والمطالب المستعجلة وأعطت بذور الموجه الحكيم ثمارها الباكرة، وهام الشعب في ملكه حبا، وكانت سنة 1934 تحولا عظيما، وتجلت مظاهر الحب المتين بين الملك وشعبه في سلسلة الحفاوة والابتهاج التي أصبحت عادة في كل عام.. ثم كان عمل الملك المجاهد الباعث على تقديم لائحة )برنامج الإصلاحات المغربية9). ولكن الصدمة الكبرى التي تلقتها السلطة الاستعمارية هي التي اصابتها في سنة 1935 حينما تقدم جلالة السلطان محمد بن يوسف بطلب تعديل الحماية، الأمر الذي رفع من معنوية الحركة الوطنية التي كانت نبعا من عمل الملك القائد ومن نضاله، وما جاءت سنة 1936 حتى كان التطور الفكري والوطني أخذ ينتشر، وسرى الوعي مسراه، رغم ضغط الحماية ورجالها، وكانت خلاصة هذه الحركة هي التي تضمنتها حينئذ لائحة «المطالب المستعجلة»، التي عمل محمد بن يوسف على تشجيع المطالبة بها ولكن الإقامة العامة قاومتها اشد المقاومة فإن السلطان حينئذ طالب وراءه شباب الوطنية المغربية بتحقيق ما ملخصه: 1 الحريات الديموقراطية )الصحافة الاجتماع الجمعيات حرية التجول في انحاء البلاد النقابات). 2 التعليم )توحيد البرامج في جميع اقاليم المملكة تكثير عدد المدارس). 3 العدل )فصل السلطة الادارية عن العدلية والتنفيذية). 4 الفلاحة )تأسيس الملك العائلي). 5 العملة والصناع )تجديد الصناعة المغربية وحمايتها من المزاحمة الأجنبية). ولكن المستعمرين ما كان منهم إلا أن تحدوا كل ارادة ملكية سامية، وزجوا في السجن ببعض شباب الأمة، وتعسف الجيش الاستعماري وتعسفت شرطة الحماية ما شاء لهما التعسف ولكن عزيمة محمد بن يوسف لم تنفذ لذلك التحدي السافر، فظل المدافع المقاوم عن حرمة الوطن، والأمام الأوحد للوطنيين، كما ظل يرسم الخطط ويتحين الفرص المواتية ويشجع على نشر التعليم ورفع ألوية النهضة في شتى الميادين. سلطان في مؤتمر أنفا كان موقف ملك المغرب عند اندلاع الحرب العالمية الثانية بجانب معسكر الديموقراطية وشارك مشاركة فعالة لتحقيق حرية الشعوب وحكم نفسها بنفسها، كما كانت شجاعة جنود المغرب في تلك الحرب مضرب الأمثال. وفي سنة 1943 ، اجتمع بالمغرب أقطاب الحلفاء وفي مقدمتهم الرئيس روزفلت، وونستن تشرشل: ولم يترك السلطان الوطني هذه الفرصة النادرة تمر دون أن ينتهزها لصالح حرية بلاده واستقلال وطنه. واندهش العالم عندما رددت الإذاعات حينئذ هذا الخبر قائلة: «تحدث أمس في مؤتمر أنفا عظمة سلطان مراكش إلى الرئيس روزفيلت ومستر ونستن تشرشل حديثا طويلا: وعلم مراسلنا من مصدر خاص أن عظمة السلطان قد تكلم عن حق بلاده في حريتها واستقلالها بمجرد ما تضع الحرب أوزارها". وكان هذا الموقف الوطني المشرف الانطلاقة الصريحة نحو الاستقلال الناجز مباشرة، كما كان الباعث الحقيقي على كل ما تلا ذلك التاريخ من المواقف الأخرى، وما كانت عملية تحرير عريضة المطالبة بالاستقلال يوم 11 يناير 1944 إلا تصريحا كتابيا لما عبر عنه السلطان في مؤتمر الاقطاب: ولذلك هرعت مئات الوفود إلى القصر الملكي في يناير 1944 تؤيد الملك الزعيم الذي جمع حينئذ مجلسا وزاريا مهما من أجل المطالبة باستقلال بلاده وتحريرها من ربقة الحماية. ولم يفقد المستعمرون وسيلة للانتقام من سير هذه الحركة التحريرية التي يقودها الملك المكافح، والقت الحماية القبض على الوطنيين الملتفين حول السلطان، وهيجت الناس عمدا بذلك الاجراء. ثورة المطالبة بالاستقلال تفاقمت الحالة العامة في البلاد، وكثرت المظاهرات واستخدمت سلطة الحماية كل ما تملك من قوة السلاح والنار التي صوبتها نحو صدور الابرياء الذين كانوا يتساقطون في الشوارع والازقة وهم يهتفون بكل ايمان وحماس. عاش سيدي محمد بن يوسف عاش الملك، يحيى زعيم الأمة محمد ابن يوسف زعيم الحرية والاستقلال. وكم سقط من الأبرياء في معركة يناير 1944 ، وكم نهبت جيوش الاحتلال من بيوت ودكاكين، وكم انتهكت من حرمات، ولكن الشعب ظل وراء ملكه المكافح، وظهرت روح التضامن الكامل بين سائر الطبقات. مئات من المغاربة استشهدوا والآلاف سجنوا. وعشرات من الشباب حكم عليهم بالإعدام. وموظفون مغاربة كثيرون عزلوا، وأقفلت المدارس أمدا طويلا في وجه أبناء المغرب. ومحمد بن يوسف مع هذه الحالة يواجه سيطرة المستعمر ونكاية أذناب الاستعمار. رحلة طنجة التاريخية أصبح محمد بن يوسف وجها لوجه حينئذ امام سلطة الحماية، التي باتت تخشاه كما تخشى أفراد أسرته الكريمة، لأن الشجرة الطيبة لا تلد إلا طيبا. ولكن السلطان كان ربانا حكيما شجاعا لا يخشى الزوابع مطلقا ما دام الحق معه. وحدثت أحداث قبل الرحلة الملكية إلى طنجة. ففي سنة 1945 سافر جلالته إلى فرنسا وقدم إلى الحكومة الفرنسية مذكرة تتعلق بمستقبل المغرب وعأرض من جهة أخرى، معأرضة باثة مشروعات الظهائر التي هيأتها الإقامة العامة لتأسيس شركة الفحم وامثالها، وكان القصد منها تأميم ثروات المغرب تأميما فرنسيا ابديا. أما في سنة 1946 فقد تم ما سعى من اجله جلالته سعيا حميدا وهو تحرير المعتقلين السياسيين الذين سبق للحماية أن القت القبض عليهم في السنوات السالفة. ومع ذلك، ظل الاستعمار، يكيد للسلطان. ففي مساء 7 ابريل 1947 ، ليلة السفرة الملكية إلى طنجة، أحدثوا في الدارالبيضاء ما دبروه. عشر ساعات من تقتيل الأبرياء المغاربة في حي ابن مسيك على يد الجيش المستعمر، إثر مناورة استفزازية سافرة ضد السكان العزل، كان الغرض منها هو عرقلة سفر الملك الوطني إلى طنجة حيث كان نظامها الدولي سيسمح لجلالته بالتذاكر مع نواب الدول المعتمدين هناك: وتساقط الأطفال والنساء والعجزة المغاربة صرعى وبدون اي جزم يذكر، وامتدت المذابح على مدى عشرة كيلومترات. وخاب سعي الكائدين وكانت سفرة الملك العظيم الذي ألقى وسط شعبه الطنجي الوفي الخطاب التاريخي الذي دوخ دولة الاستعمار، وكان ضربة من يد معلم. وصفق الطنجيون تصفيقات جنونية لملكهم محمد الخامس ولسمو ولي عهده المحبوب مولاي الحسن، ولسمو زعيمة النهضة النسوية للاعائشة، ولكافة الامراء والأميرات، وكانت اعيادا من اعياد لم يرفع من مبدئها الاستعمار رأسه، ودخلت بفضلها قضية المغرب في طور جديد، إذ خرجت من النطاق المحلي ودخلت المجال الدولي. مملكة الشباب والنساء كان خطاب جلالة محمد الخامس في قصر المندوبية بطنجة هزة عنيفة في الداخل والخارج بالرغم من كونه اتسم بروح المسالمة والحكمة والرزانة، فقد عز على المستعمرين أن يشير ملك المغرب إلى الجامعة العربية «المؤسسة الرشيدة التي متنت العلاقات بين العرب أينما كانوا ،» وعز عليهم أن يروا ذلك التجاوب المتين والملتحم بين الشعب، والعرش. وأعطى جلالته في تلك المناسبة التاريخية المثال الناطق لما يجب أن تكون عليه تربية الشباب ونهضة الفتاة، إذ تقدم إلى الجمهور الطنجي سيد الشباب مولاي الحسن تغمده الله برحمته الواسعة، وزعيمة الحركة النسوية للاعائشة كأكمل ما يكون عليه الفتى المغربي المثقف الناهض وابهى ما تكون عليه الفتاة المغربية العصرية المتحررة، وكان خطاب المغفور له مولاي الحسن، في «المدرسة المحمدية » وفي «معهد مولاي المهدي » مبعثا على الحماس والتأمل، وبرنامجا دقيقا لما يحققه المستقبل في ميدان الدين والقومية والعلم والوطنية «إسلام، وعروبة، وعلم، وعمل، ووحدة، وتعاضد .» وعندما تصدت للاعائشة، في زيها العصري، للخطاب بالعربية والفرنسية والانجليزية في «دار المخزن » كان بروزها اكبر من توجيه واعظم من ارشاد في نهضة المرأة المغربية وتحريرها وتربيتها. ولذلك فإن محمد الخامس قد كان بتلك الرحلة، الحكيم العبقري، والمدبر الموفق، ولا عجب اذا كان المستعمر قد شنها على جلالته حينئذ حملة اشد من الماضي: ولكن القافلة تسير. مناورات سلطات الحماية بعد رحلة طنجة الظافرة، أخذ جلالة محمد الخامس يواصل جهاده في سبيل تحقيق الاستقلال ووضع خطة لمراجعة معاهدة الحماية وجعل حد للسيطرة الأجنبية في البلاد، وكان لابد من ادراك هذه الغاية النبيلة لاسيما وهو الذي ما فتىء يردد في مختلف المناسبات: «ما ضاع حق وراءه طالب ». وحدثت احداث، في الميدان الداخلي، بين القصر الملكي والإقامة العامة ولاسيما في ما يتعلق بالتنظيمات الإدارية، وحقوق الأجانب في المغرب، والحق النقابي للمغاربة، ومجلس شورى الحكومة.. إلى أن كان استدعاء صاحب الجلالة من طرف رئيس الجمهورية الفرنسية لزيارة فرنسا بناء على رغبة سدته العالية لاجراء مفاوضات مباشرة عن مستقبل المملكة وكان ذلك في سنة 1950 وحدثت مفاوضات فعلا ولكن الفرنسين راغوا فيها وتصلبوا في مواقفهم السلبية وكان الشعب المغربي، في تلك المناسبة، يوافي القائد البطل بسيل من برقيات التأييد والولاء التي ظلت تصل إلى باريس صباح مساء. وبعد المذاكرات التمهيدية قدم الملك مذكرة مفصلة إلى الحكومة الفرنسية يشرح فيها وجهة نظره الوطنية الصريحة، وكان بجانب جلالته وبرفقته ولده البار الصالح ورفيقه في الكفاح على الدوام مولاي الحسن تغمده الله برحمته الواسعة. وطال انتظار الملك للجواب الفرنسي، وما وافاه هذا الجواب حتى تأكد له فراغه، لأنه لم يستهدف المبتغى الأسمى وكان مجرد تطمينات جزئية وهامشية، فبعث بمذكرة ثانية توضيحية وتكميلية، يؤكد فيها أن امل المغرب هو تعديل معاهدة الحماية بما يصح أن يكون مرحلة إلى الاستقلال. مع ذلك كله لم تستجب الحكومة الفرنسية لهذا المطلب، فتبين الخلاف وعاد الملك إلى مملكته ولم يبق على موعد ذكرى عيد العرش لسنة 1950 إلا أيام واستقبله شعبه النبيل استقبال المجاهد الذي هو اهله. وفي خطاب العرش لتلك السنة، قال في هذا الصدد: «ولم يكن قط هدفنا من المحادثات السياسية التي اجريناها بفرنسا أن نظفر بتقوية سلطتنا لغاية شخصية، وإنما قصدنا بمساعينا وجهودنا صالح البلاد ورقيها وتقدمها ولم يغب عنا لحظة واحدة أن افضل حكم ينبغي أن تعيش في ظله بلاد تتمتع بسيادتها وتمارس شؤونها بنفسها هو الحكم الديموقراطي الذي تقوم عليه الدول المعاصرة والذي يوافق مبادىء ديننا الحر الكريم .» وبعد أن شرح في ذلك الخطاب مختلف مراحل المفاوضات بالكتابة والقول، واعد شعبه بمواصلة السعي وموالاة الجهود. وبدأت الأزمة تطل برأسها، وواصل الملك جهاده لحرية شعبه. المؤامرة الأولى ونسترسل في سرد قصة محمد الخامس مع المستعمر وأذناب الاستعمار، إذ كان هناك مجلس استشاري للمقيم العام، فيه قسم فرنسي وقسم مغربي، ويسمى مجلس شورى الحكومة، ويجتمع دوريا لدراسة الميزانية، التي يقررها المديرون الفرنسيون ويتصرفون فيها وبفعل الاحداث السالفة صعد إلى ذلك المجلس اعضاء مغاربة جدد من بينهم وطنيون مخلصون وشبان واعوان لم يكن المقيمون المديرون الفرنسيون في الإقامة العامة متعودين على وجود امثالهم في ذلك المجلس فلما انعقدت دورة مناقشة ميزانية 1951 اخذوا يناقشونها مناقشة دقيقة ويعبرون عن آرائهم وانتقاداتهم بشأنها. وكان المقيم حينئذ هو «جوان » فتضايق مرة من صراحة احدهم وطرده، فما كان من بقية الاعضاء الوطنيين الاحرار إلا أن تضامنوا مع زميلهم «المطرود »، والتجأوا جميعا إلى حصنهم وحامي حماهم وحمى الوطن والوطنية جلالة محمد الخامس. وأسرها المقيم العام في نفسه ولم يبتلعها وكانت هناك مناسبة عيد المولد النبوي وتقدم التهاني للجناب الشريف، فاتفقت الإقامة العامة مع احد بيادقها ذوي النفوذ بحكم اعتباره في نظرها اقوى باشوات المملكة حينئذ وحركته كما شاءت، وبعثته متذمرا شاكيا إلى الملك يوم ثاني العيد صباحا من جماعة الوطنيين الذين يعتبر اعضاء المجلس المنسحبون منهم واليهم، وكذلك كان، فقد تجرأ ذلك «الباشا » على المقام المولوي بحديث غير لائق، وتكلم بوقاحة شديدة، وادعى انه لابد من جعل حد للوطنيين في الحال.. ولذلك ما كان من الملك الهمام والحالة تلك أن طرد المتكلم من القصر الملكي جزاء تصرفه الوقح، وامره بالرجوع إلى مقر عمله. فخرج فعلا من هناك في ذلة، ولكنه التجأ إلى الإقامة العامة الأجنبية التي كانت تسيره واتخذته وسيلة لبث سمومها وتفريغ حقدها ضد الملك الوطني الصالح المصلح. ودارت الحوادث دورتها وأسفرت الإقامة العامة عن وجهها، فبعدما جعلت جميع امكانياتها رهن اشارة عملائها ومنها وسائل الدعاية تقدم عميدها المقيم جوان إلى الملك المجاهد يوم 26 يناير 1951 مهددا متوعدا، وطلب من جلالته استنكار الوطنيين ووضع خاتمه الشريف على مجموعة ظهائر في غير صالح الشعب المغربي وطرد اعضاء ديوان الملك الوطنيين. واخبر بأنه ذاهب إلى الولاياتالمتحدة في مهمة لحكومته، ولابد من انجاز هذه المطالب لدى عودته، والا فإن العرش سيتعرض إلى ما لا تحمد عقباه. ولكن محمدا الخامس استهان بكل وعيد وتهديد في سبيل أمن شعبه وبلاده، ولم يستجب لطلب المقيم، الذي عاد من رحلته يوم 12 فبراير 1951 . وكثر الأخذ والرد بين القصر والإقامة العامة. وازدادت مناورات أذناب الحماية وتصريحات رئيسهم الذي كان ينتقل هنا وهناك ويلقى مساعدة رؤساء النواحي والمراقبين المدنيين وضباط الشؤون الاهلية الفرنسيين. وكانت تلك الاعمال كلها تهديدا خطيرا لمحمد الخامس الذي لم تأخذه في الحق، والحالة هذه لومة لائم وجعل يقينه في الله وفي شعبه الوفي. وفي يوم 21 فبراير، أعلنت الإقامة عن عزمها على قطع كل علاقة بالقصر الملكي. ومعنى ذلك أنها تتخلى عن «حماية الملك » وأسرته الكريمة زيادة في التهديد والضغط والوعيد، فلم تلن لمحمد الخامس قناة في سبيل الحق ونصرة شعبه. وعمدت سلطات الحماية إلى مهزلة من أسخف المهازل، إذ استقدمت نحو فاسوالرباط وسلا أفراد من القبائل على صهوات جيادهم واعدت انها «تحركات تلقائية » للاحتجاج والاستنكار لموقف الملك من الاستعمار.. وكان أولئك النفر لا يدرون شيئا عن المهمة التي أرسلوا إليها، وحسبوها إحدى المناسبات، التي كانوا يسخرون لها وجوبا، فلبسوا زي العيد على مألوف العادة، وساروا في سرور وابتهاج، وضحك العالم أجمع لهذه السخافة، التي تدل على سخافة عقلية المستعمر. وتوالت أحداث هذه المؤامرة، واستفحلت مكيدة الخوارج بزعامة الباشا المسخر وبعض أتباعه المسخرين أيضا. ولكن ما اسفرت عنه هذه الاحداث كان دعاية لقضية المغرب في الخارج، فأخذت الدول العربية والإسلامية والصديقة تناصر ملك المغرب وتؤيده. وفشلت المؤامرة فشلا واضحا. وعزل المقيم جوان من وظيفه بالمغرب وخلفه خلف سوء، المقيم كيوم، وقوي الوعي الوطني في البلاد، وانتقلت القضية المغربية إلى المحافل الاممية وكان عيد العرش 18 نونبر 1952 اكبر صرخة من الملك الذي قال «لو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره على أن يترك ذلك الامر، ما كان ليفعل » واعلن في خطاب ذلك اليوم جهارا عن وجوب مراجعة معاهدة الحماية. ثم ازدادت الحالة استفحالا وكانت مأساة 8 دجنبر 1952 على أعقاب العيد الفضي، وهي المأساة التي حدثت بمناسبة التظاهر استنكارا لاغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد وتساقط المواطنون المغاربة في الدارالبيضاء تحت وابل قنابل المستعمرين. وتوالت المظاهرات دوريا في مختلف انحاء المملكة تأييدا شعبيا للملك الوطني الزعيم والقت الحماية القبض على عدد من انصار الملك، وامتلأت المعتقلات استفزازا وترهيبا. وفي كل تلك الأحداث ظل محمد الخامس يقود سفينة الحرية إلى شاطىء النجاة. المؤامرة الثانية إنها المؤامرة على العرش وعلى صاحب العرش وأسرته الشريفة، وساهمت هذه المرحلة، التي تبدأ بيوم 7 يناير 1953 ، في تقوية شوكة الثالوث، الباشا «الكلاوي » والمقيم العام «كيوم » والشيخ «الكتاني »، الذين اجتمعوا حينئذ في «تيسة »، ودبروا ما دبروه ضد محمد الخامس وعرشه، وذلك بإمالة عدد من الباشوات والقواد وتأليبهم على سيدهم ووالي نعمتهم المدافع عن الحرية والاستقلال. وهكذا فما أن أشرف شهر مايو 1953 على نهايته (يوم 27 منه)حتى حملت الأنباء أن المقيم كيوم سلم في باريس إلى وزير خارجية بلاده «بيدو » عريضة تحمل توقيع 270 من القواد والباشوات ويطالبون فيها بتنحية السلطان وخلعه ووضع مقاليد الأمن في يد شخصية أكثر استحقاقا وجدارة. ولم تنطل الحيلة على الرأي العام في الداخل والخارج لأنها صبيانية وحماقة ما بعدها حد للعقل والمنطق. وصاح الناس: إن هذا منكر بلغ في سيله الزبى. وطبعا لم يزحزح هذا التهديد الملك عن موقفه وهو يعلم أن أصحاب عريضة 270 جبناء وقعوها خوفا من نقمة المستعمرين وقوتهم وسلطتهم، فلم يعر القضية اكثر مما تستحق من الاستخفاف، وما زاده هذا الحادث إلا ايمانا وحزما وعزما على مواصلة الكفاح إلى النهاية لأنه يدرك أن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وان عاقبة المخلصين النجاح. وحاول المقيم كيوم أن يجس النبض يوم 31 مايو 1953 حينما تقدم إلى القصر الملكي، فسمع من الملك ما أذهله. إذ وجده ملكا ثابت الجنان، وصلب العود وقوي الإخلاص لمبادئه محافظا أمينا على سيادة بلاده ولا يبالي بعواء النباحين. وانتشرت موجة من السخط في البلاد على الحماية ورجالها واذنابها، وعمت الأوساط فورة الاستنكار، وانطلق الشعب بكافة طبقاته يوجه عرائض التأييد والولاء إلى الملك وبرقيات التشبث بعرشه العلوي الشريف. وأظهر باشوات وقواد آخرون استنكارهم الصريح للعريضة المذكورة وأعربوا عن ولائهم لسيد البلاد. وحاول المستعمرون محاولات أخرى، إذ أسسوا جمعيات وأشباه أحزاب أهمها جميعا «جمعية الوجود الفرنسي »، أخبث منظمة رجعية استعمارية بليدة عرفها العالم، ولم تفت جميع المناوشات والمناورات في عضض الملك المجاهد وولده البار المخلص، وما كانت أصداء تنقلات خديم الحماية بين باريز والمغرب خلال شهر يوليوز 1953 لتنقص من ايمانهما بمواصلة الكفاح العادل. وظل الشعب يتجول في الشوارع ويتحدى المستعمر ويردد جهارا: يحيا محمد الخامس، يحيا الملك، عاش ولي العهد المحبوب. وتزاحم الشعب في الدارالبيضاء على تسجيل ولائه لملكه في دفتر القصر الملكي، ويكذب الاشاعات التي يروجها اولئك الذين تجمعوا في مولاي ادريس زرهون يوم 11 غشت 1953 استجابة لرغبة «بونيفاص .» وحذر الملك في رسالة الحكومة الفرنسية من مغبة هذه الفتنة التي تشعلها الإقامة العامة في المملكة المغربية، وتبرأ العلماء من زعيم الخوارج باشا مراكش، واصبحت مراحل المغرب تغلي حامية وكانت أياما شاب لهولها الصبيان. وكان الأسبوع السابق ليوم 20 غشت 1953 سلسلة متوالية الحلقات من المآسي التي يضيف عن تفصيلها هذا المقام، إذ أصبحت حينئذ عاصمة الجنوب ملتقى كل رقطاء وتفشي الظلم وقلب الحقائق في أخطر صورها، وشاع نبأ استقدام دمية للتربع على العرش، فتجاوبت أرجاء المملكة من اقصاها إلى اقصاها ملك واحد، محمد الخامس، ملكنا واحد، محمد الخامس . نعم، تجمع مضلل في مراكش تحميه القوة وترعاه، وتجمعات وطنية في مساجد البلاد وشوارعها طولا وعرضا تشتتها القوة بالسلاح والنار، وبلاغات تصدر هنا وهناك، وجنود المستعمرين ورجال شرطتهم يستفزون المواطنين ويسيلون دماء الأبرياء وديانا وأنهارا، والملك الحكيم يتألم حسرة وأسى، ويدعو إلى الهدوء والرزانة ورباطة الجأش وقصره مطوق من جميع الجهات بدبابات المستعمرين والمراقبة الصارمة مضروبة ومفروضة على تنقلات الامراء والأميرات وخروجهم ودخولهم. وكان الناس هنا وهناك ينتظرون على احر من الجمر أن تسفر الحكومة الفرنسية عن موقفها بعدما تذاكر المقيم «كيوم » مع وزير الخارجية «بيدو » واجتمع المجلس الوزاري بباريس وكل هذا يوم 19 غشت 1953 . وعاد مقيم السوء إلى الدارالبيضاء صباح يوم 20 غشت 1953 ، إذ اجتمع توا بباشا مراكش، بينما كانت الطائرات العسكرية تحلق فوق الرباط وتنشر الذعر. والجنود بسلاحهم ومعداتهم الحربية متمركزون في مختلف منافذ امهات المدن.