تبقى مدينة الدار البيضاء تحتضن أعدادا هائلة من دور الصفيح الموزعة على نطاق واسع من أحيائها وضواحيها، رغم المساعي المبذولة من قبل وزارة السكنى وسياسة المدينة لاجتثاث الأحياء الصفيحية وذلك في إطار برنامج "مدن دون صفيح"، فالتدابير الجارية لتقليص هامش هذه الدور العشوائية لم يخلص الدارالبيضاء من تبعات انتشارها، بشكل لا يقر أن تكون من بين 17 مدينة، التي قال عنها نبيل بنعبد الله، وزير السكنى وسياسة المدينة، أخيرا، إنها ستكون مدنا دون صفيح مع نهاية هذه السنة، في رده على سؤال بمجلس النواب. جولة واحدة ببعض أحياء الدارالبيضاء، تكفي لإدراك أن المدينة مازالت تتخبط في واقع عشوائي، يكرسه ما يعرف ب"الكريانات" أو "دور الصفيح"، التي تتشكل من "براريك" متفاوتة المساحات ومتباينة من حيث مواد البناء (أحجار إسمنتية وآجور وقصدير وخردة ومتلاشيات)، ولأن الدار البيضاء تستقبل على نحو مضطرد مواطنين نازحين من مدن ومناطق بعيدة، فإن الأحياء الصفيحية تستقبل الوافدين على المدينة بعدما يستأجرون غرفا "ب"البراريك" من القاطنين الأصليين، حسب ما اطلعت عليه "المغربية" خلال زيارات متعددة ل"كريانات" مختلفة بالعاصمة الاقتصادية. إن منع السلطات المحلية لقاطني الكريانات التصرف في "البراكة" ب"البيع" أو "التنازل" للغير، جعل السكان يكرونها هذه الوحدات، لسد حاجياتهم اليومية، حسب إفادات الكثير ممن التقتهم "المغربية"، إلى حين تمكينهم من مساكن بديلة بمواصفات بناء ملائمة للاستقرار الاجتماعي والنفسي. مشاكل مختلفة تختلف مشاكل كل "كريان" على حدة، بالدار البيضاء، تلك المشاكل التي تجدها الوزارة الوصية حجرة عثرة أمام عجلة محاولاتها في القضاء على دور الصفيح بالمدينة، غير أن الطموح الموحد الذي يحمله جميع سكان "الكريانات" هو الحصول على مسكن يراعي خصوصية كل أسرة. فوفقا للزيارات المتعددة التي أنجزتها "المغربية" لمجموعة من "الكريانات"، اتضح أن مشكل "الأسر المركبة يعيق عملية تحديد المؤهلين للاستفادة من الشقق البديلة، لهذا فكثير منهم كانوا يرفض الخضوع لقرارات الإفراغ الصادرة في حقهم، بدعوى إقصاء بعض الأفراد من التعويض، مبررين رفضهم بأن عمليات الإحصاء كثيرا ما كانت تنفي إقامة البعض في "الكريان" رغم الولادة والنشأة بوسطه. ومن بين "الكريانات"، التي زارتها "المغربية"، وتحدثت إلى بعض سكانها، كريان سنطرال"، و"كريان باشكو"، و"كريان عريان الراس"، و"كريان الكريمات"، و"كريان أمبيركو" و"كريان الشنيدر"، و"كريان المعلم عبد الله"، و"دوار الأزهري"، و"كريان السكويلة"، وغيرها من "الكريانات" التي لا تختلف قصص سكانها عن قصص هؤلاء. فشهادات معظم السكان كانت تصب في إطار واحد يتعلق بأنهم "مستعدون للرحيل عن الواقع الاجتماعي المتسم بالفوضى والعشوائية، شرط إنصاف جميع القاطنين ب"الكريانات"، بمن فيهم أولئك الأبناء المتزوجون الذين يعتبرون أسرا مركبة متفرعة عن أسر أصلية. إن إقصاء البعض من الإحصاء المخول للتسجيل في لائحة المستفيدين من السكن، يجده قاطنو "البراريك" ليس حلا للتخلص من "الكريانات" اعتبارا إلى أن تشريد هؤلاء سيقود إلى خلق مناطق عشوائية في أماكن أخرى، في غياب الإمكانيات المادية لشراء أو اقتناء مسكن، خاصة أن مدينة الدارالبيضاء، تشهد توسعا عمرانيا كبيرا، يوازيه غلاء في أسعار المواد الاستهلاكية. "كريان سنطرال" حاولت "المغربية" الوقوف عن كثب عند مشاكل بعض "الكريانات"، التي مازالت تعيش المشاكل نفسها مع تغيير طفيف في بعض الأمور، إما بتعويض البعض من السكان بالشقق البديلة وبقع أرضية أو باضطرار البعض الآخر إلى الرضوخ لقرارات الإفراغ وهدم "براريكهم" لعدم أحقيتهم في المكوث، ماعدا "كريان السكويلة"، الذي جرى ترحيل جميع سكانه وتسوية ملفات إسكانهم، كخطوة ستشمل باقي "الكريانات" وفق تدابير وإجراءات منتظمة ومهيكلة. إن كريان "سنطرال" بالحي المحمدي، الذي يضم عددا من "الكريانات" (الخليفة، والقبلة، وغيرها)، مازال سكانه يترقبون إتمام عمليات ترحليهم، خاصة أن العديد منهم أتيحت لهم فرص الرحيل إلى شقق ملائمة للعيش، حسب قول البعض،، لهذا فهم مستعدون للانتقال لأي مكان تقره الجهات المعنية، فغايتهم هو التخلص من واقع اجتماعي هش وعشوائي". وحسب ما ذكره البعض، فقد تم منح قاطني "كريان سنطرال" شققا أو بقعا أرضية، بمنطقة الهراويين، وهي منطقة قالوا عنها رغم بعدها عن مركز المدينة إنها مكسب كبير يعفيهم من اجترار إكراهات العيش وسط "براريك" ضيقة. "كريان عريان الراس" يتحمل قاطنو "كريان عريان الراس" العيش وسط "براريك" شيدت بمنحدر في منطقة "عين الذئاب"، يقود إلى الغرق في المياه العادمة والملوثة مع كل فصل شتاء، بعد اختراق مياه الأمطار ل"براريكهم"، إلى جانب غياب مجاري الصرف، لتتلف كل حاجياتهم وأغراضهم، حسب وصف بعض السكان، دون أن يجدوا بدا غير الحسرة على غرقهم المستمر في "براريك" مهترئة، تحيط بها نفايات متراكمة بالجوار وانعدام قنوات الصرف الصحي، إضافة إلى مستنقعات صغيرة تتشكل من المياه العادمة والفضلات التي يلقون بها، وكذا ما يلقيه سكان الفيلات المحاذية ل"الكريان". وسُمي الكريان ب"عريان الراس" نسبة إلى شخص كان أصلع الرأس يملك أرضا مجاورة للكريان، فاشتهر باسمه، خاصة أن ورثته مازالوا يقيمون في الأرض إلى اليوم، أما الاسم الأصلي للمنطقة حيث يوجد الكريان، يدعى "دوار ولاد عبو ولاد حميدة"، لكن السكان اعتادوا على اسم الشهرة وأصبح "الكريان" معروفا به. "كريان باشكو" يعد "كريان" باشكو، من أكبر الأحياء الصفيحية في الدارالبيضاء، تحيط به "الفيلات" والمرافق الاجتماعية من كل الجهات، فيما يتميز دوره بوجود طوابق فيه، يعيش في كل دور أكثر من أسرة واحدة، وكل هذا يعتبره السكان امتيازا، كما يوجد ب"الكريان" مالكون لقطع أرضية وفق وثائق تثبت ذلك، ما جعل عملية التخلص من "الكريان"، تستغرق سنوات عديدة. ويحتضن "الكريان" بدوره أسرا مركبة، حاولت أن تتعايش مع ظروفها المتردية بفتح محلات تجارية وسط "الكريان" وهو المكسب الأول الذي سيضيع منها بعد الرحيل عن "الكريان"، لانعدام أي إمكانية بمنحهم محلات تجارية بديلة، إذ تعود قاطنوه لسنوات طويلة العيش في "الكريان" كفضاء مستقل بنفسه يضم جميع المرافق. وانتقل أولئك الذين شملتهم الاستفادة ب"باشكو" إلى منطقة الرحمة بعد منحهم قطعا أرضية مناصفة بين أسرتين، وآخرون استفادوا من شقق بناء على نتائج ما يعرف "بالقرعة" المعمول بها في إطار ترحيل سكان "كريان باشكو". "كريان الكريْمات" سعى سكان دوار الكريمات بعين السبع، في أكثر من مناسبة، إلى أن تكون الاستفادة من السكن اللائق عامة، على جميع السكان دون إقصاء، خاصة أن أحكام الإفراغ كانت تصدر في حق العديد ممن أقصاهم إحصاء سنة 2005، حسب إفاداتهم ل"المغربية". ودعا سكان دوار الكريمات أكثر من مرة إلى إيفاد لجنة تحقيق مستقلة للبحث في ملابسات ترحيل السكان، وكشف مكامن الخلل في إقصاء أغلبهم، حتى يكون ملف إسكانهم منصفا وعادلا لسكان قطنوا سنوات طويلة في قلب هذا "الكريان". وكان سكان "الكريمات" وجدوا في إمكانياتهم المادية المحدودة مشكلا آخر، ضخم معاناتهم النفسية في ظل توالي قرارات الإفراغ التي شملت الكثير منهم، وقادتهم إلى إنشاء خيم ب"الكريان" لفترة مؤقتة إلى حين تسوية ملف إسكانهم، في حين آخرون، رفض الإقامة بشقق اعتبروها ضيقة المساحة، بعدما كانوا يقيمون ب"براريك" تناهز 200 متر مربع. "كريان السكويلة" غادر سكان"السكويلة" واقع العشوائية والفوضى الذي طالما قالوا عنه، إنه يعمق معاناتهم الاجتماعية والنفسية، بعدما شهد الدوار عمليات هدم شاملة حولته إلى أرض خلاء، في إطار برنامج "محاربة السكن غير اللائق" (مدن بدون صفيح). وجرت عمليات هدم "البراريك" في أجواء عادية، إثر قبول السكان بهذا القرار مقابل تعويضهم ببقع أرضية بالفضاء نفسه، مناصفة بين شخصين، وحين كانت تتجول "المغربية" في الأرجاء، اتضح أن بعض الأشغال الأولية جارية في الفضاء، إعدادا لورشات البناء التي سيشهدها في الأجل القريب، لإعادة إيواء السكان، الذين صرح بعضهم أن رحيلهم من الدوار استجابة للقرارات القاضية بحتمية تعويضهم، كان نابعا من تطلعهم إلى ظروف عيش كريم. سيدي مومن من جهة أخرى، أعلن مسؤولو مقاطعة سيدي مومن عن إطلاق أول برنامج استعجالي على صعيد مدينة الدار البيضاء، لفك العزلة عن أزيد من 700 ألف نسمة من سكان المقاطعة وتأهيل البنى التحتية وتقويتها وتوسيع المجالات الخضراء وصيانتها وحل إشكالية النظافة بالمنطقة. وقال أحمد بريجة، رئيس مقاطعة سيدي مومن، في تصريح أمام الإعلام، إن من بين الشركاء العموميين الذين ستعتمد عليهم منطقة سيدي مومن، مجموعة العمران التابعة لوزارة السكنى وإدماج السكن التي سيوكل لها أمر المساهمة في حل إشكال 7000 من دور الصفيح الموجودة بكاريان الرحامنة وسط مقاطعة سيدي مومن، التي تحتضن لوحدها 6000 براكة تقريبا، إلى جانب مجموعة من الجيوب المنتشرة عبر تراب المقاطعة". ويبقى سعي الدارالبيضاء إلى أن تكون مدينة خالية من "البراريك" حلما عسير المنال في فترة وجيزة لتشابك الإكراهات والعراقيل، وتعدد الأحياء الصفيحية، وتناسل المشاكل الاجتماعية التي يعيشها مواطنون معوزون، فاقدون للإمكانيات المادية، لكن برنامج "مدن بدون صفيح" هو المشروع الذي تتبناه وزارة الإسكان وسياسة المدينة، بجهود مضاعفة هذه المرة، تسييرا لظروف "الحلم" وتجاوز العسر فيه لبلوغ واقع حقيقي "الدارالبيضاء دون صفيح".