الدستور مصطلح فارسي الأصل، ويعني في اللغة العربية "الأساس أو القاعدة"، ويمكن أن تعني، أيضا، الإذن والترخيص، وفي اللغة الفرنسية، تعني كلمة دستور (constitution)، التأسيس أو التكوين. والدستور وثيقة إنسانية، يمكن تعريفها من ناحية الموضوع بأنها مجموعة من القواعد، التي تنظم عمل أجهزة الدولة الرئيسية وعلاقتها في ما بينها ومع المواطنين، أما الدستور بمفهومه الشكلي، فيشير إلى نص قانوني، يسمو عن غيره من القوانين، يجري تعديله وتغييره بإجراءات خاصة، ينص عليها الدستور نفسه، وهو يحتوي عادة على تنظيم دقيق لعمل السلطات الثلاث وتحديد مهامها الرئيسية، بالإضافة إلى سرد لمجموعة من الحريات العامة والحقوق الأساسية للمواطنين، فالفرد يتحدد في الدستور كمواطن، له حقوق وواجبات، وتتحدد الدولة في المقابل كدولة مواطنين لها حقوق وواجبات على المواطنين، على أساس مبدأ المواطنة الذي يربط بين الدولة ومواطنيها. والمواطنة مفهوم قانوني في المقام الأول، تتجسد نظريا في مبادئ وقواعد دستورية وقانونية تحدد شكل النظام السياسي والقيم والأهداف، التي يقوم عليها، وكذا في الكيفية، التي يشارك بها المواطنون في صنع القرارات والسياسات العامة. وترتكز هذه القواعد الدستورية والقانونية المجسدة للمواطنة على مبدأ المساواة بين الأفراد والجماعات في الحقوق والتكاليف العامة. ومن هذا المنطلق، فإن المواطنة، بما تتضمنه من حقوق وواجبات، ومشاركة واعية، وإحساس ناضج بالانتماء، هي حجر الأساس في البناء الدستوري والسياسي للدولة الحديثة، فالفكر السياسي الحديث يعتمد في البناء القانوني للوطن على هذا المفهوم، ويحدد له جملة من الإجراءات والاعتبارات. ويتبلور ويتفتح مبدأ المواطنة في النظرية والممارسة كلما قدم الدستور ضمانات أوسع للحريات والحقوق والواجبات العامة، لذلك، فتطوير واقعنا السياسي والقانوني اليوم، مرهون إلى حد بعيد في القدرة، على المستويين النظري والعملي، على بلورة هذا المبدأ في الفضاء الاجتماعي والوطني. فكيف إذن جرت صياغة وبلورة المواطنة في مشروع الدستور؟ ما هي مضامينها ؟ وما السبل اللازمة لتطويرها؟ وإلى أي حد ينطوي مشروع الدستور على مبدأي المواطن والمواطنة ؟ جاءت المواطنة في مشروع الدستور بمعان ودلالات تنص على ما يلي: 1- المواطنة كأساس لبناء الدولة الوطنية الحديثة: بما أن الدستور يعتبر هو أسمى قانون للدولة فإن مشروع الدستور ينص على مبدأ المساواة بين جميع المواطنين دون تمييز، وعلى احترام حقوق الإنسان، وينص خاصة على المساواة في تلك الحقوق بين المرأة والرجل، إذ تكررت كلمات (المواطنين والمواطنات) في مشروع الدستور ستة عشرة مرة. ومن ضمن الحقوق السياسية الأساسية، التنصيص على حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي مضمونة. ويحدد القانون شروط ممارسة هذه الحريات. (الفصل 29) من مشروع الدستور، وحماية الحقوق والمصالح المشروعة للمواطنين والمواطنات المغاربة المقيمين بالخارج، في إطار احترام القانون الدولي، والقوانين الجاري بها العمل في بلدان الاستقبال، كما تحرص على الحفاظ على الوشائج الإنسانية معهم، سيما الثقافية منها، وتعمل على تنميتها وصيانة هويتهم الوطنية وتسهر الدولة على تقوية مساهمتهم في تنمية وطنهم المغرب، وكذا على تمتين أواصر الصداقة والتعاون مع حكومات ومجتمعات البلدان المقيمين بها أو التي يعتبرون من مواطنيها (الفصل 16) من المشروع. ويتمتع المغاربة المقيمون بالخارج بحقوق المواطنة كاملة، بما فيها حق التصويت والترشيح في الانتخابات، ويمكنهم تقديم ترشيحاتهم للانتخابات في اللوائح والدوائر الانتخابية المحلية والجهوية والوطنية. ويحدد القانون المعايير الخاصة بالأهلية للانتخاب وحالات التنافي. كما يحدد شروط وكيفية الممارسة الفعلية لحق التصويت وحق الترشيح، انطلاقا من بلدان الإقامة (الفصل 17). ويتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الواردة في مشروع الدستور، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها وتسعى الدولة إلى تحقيق مبدأ المناصفة بين الرجال والنساء (الفصل 19). كما نص مشروع الدستور على مجموعة من الحقوق الأساسية، منها الحق في التصويت، وفي الترشح للانتخابات (الفصل 30)، والحق في الحياة (الفصل 20.) والحق في سلامة المواطن وأقربائه، وحماية ممتلكاته، وتضمن السلطات العمومية سلامة السكان، وسلامة التراب الوطني، في إطار احترام الحريات والحقوق الأساسية المكفولة للجميع (الفصل 21). وتجريم المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، ومن قبل أي جهة كانت، خاصة أو عامة (الفصل 22 )، كما نص المشروع على أنه لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته إلا في الحالات وطبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون، واعتبر المشروع أن الاعتقال التعسفي أو السري والاختفاء القسري من أخطر الجرائم، وتوعد مقترفيها بأقصى العقوبات (الفصل 23)، ونصت المسودة على الحق في حماية حياة الشخص الخاصة (الفصل 24)، والحق في الحصول على المعلومة الموجودة في حوزة الإدارة العمومية والمؤسسات المنتخبة، وبذلك أصبح لكل مواطن الحق في المطالبة بالاطلاع على وثائق تدبير المرافق التي تهم حياته الاجتماعية دون التأثير على أمن الدولة الداخلي والخارجي (الفصل 27) وحرية الصحافة (الفصل 28). 2- المواطنة كمصدر للعلاقات الاجتماعية: جاء في تصدير مشروع الدستور إن "المملكة المغربية، وفاء لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل إقامة مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة". ونص مشروع الدستور على مجموعة من الحقوق الاجتماعية الأساسية من تعليم وصحة وسكن، في الفصول 31 و32 و33 و34 و35. وهكذا، بموجب هذه المقتضيات، تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات، على قدم المساواة، من الحق في العلاج والعناية الصحية، والحماية الاجتماعية، والتغطية الصحية، والتضامن التعاضدي أو المنظم من لدن الدولة، الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة، التنشئة على التشبث بالهوية المغربية، والثوابت الوطنية الراسخة، والتكوين المهني والاستفادة من التربية البدنية والفنية، والسكن اللائق، والشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل، أو في التشغيل الذاتي، وولوج الوظائف العمومية حسب الاستحقاق، والحصول على الماء والعيش في بيئة، والتنمية المستدامة (الفصل 31). كما نص مشروع الدستور على أن الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع، وتعمل الدولة على ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة، بمقتضى القانون، بما يضمن وحدتها واستقرارها والمحافظة عليها، وأن الدولة تسعى لتوفير الحماية القانونية، والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال، بكيفية متساوية، بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية والتعليم الأساسي حق للطفل وواجب على الأسرة والدولة، يحدث مجلس استشاري للأسرة والطفولة (الفصل 32) وعلى السلطات العمومية اتخاذ التدابير الملائمة لتحقيق ما يلي توسيع وتعميم مشاركة الشباب في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للبلاد، ومساعدة الشباب على الاندماج في الحياة النشيطة والجمعوية، وتقديم المساعدة لأولئك الذين تعترضهم صعوبة في التكيف المدرسي أوالاجتماعي أو المهني، وتيسير ولوج الشباب للثقافة والعلم والتكنولوجيا، والفن والرياضة والأنشطة الترفيهية، مع توفير الظروف المواتية لتفتق طاقاتهم الخلاقة والإبداعية في كل هذه المجالات. ويُحدث مجلس استشاري للشباب والعمل الجمعوي، من أجل تحقيق هذه الأهداف (الفصل 33). وتقوم السلطات العمومية بوضع وتفعيل سياسات موجهة إلى الأشخاص والفئات من ذوي الاحتياجات الخاصة ولهذا الغرض، تسهر خصوصا على ما يلي: معالجة الأوضاع الهشة لفئات من النساء والأمهات، وللأطفال والأشخاص المسنين والوقاية منها، إعادة تأهيل الأشخاص الذين يعانون من إعاقة جسدية، أو حسية حركية، أو عقلية، وإدماجهم في الحياة الاجتماعية والمدنية، وتيسير تمتعهم بالحقوق والحريات المعترف بها للجميع (الفصل 34). 3- المواطنة كبعد ثقافي: إن الانتماء لا يمكن أن يتحقق إلا بمواطنة تضمن لجميع المواطنين حقوقهم الثقافية، وتفسح المجال أمامهم للالتزام بواجباتهم والقيام بمسؤولياتهم، وجاء في التصدير، وهو جزء لا يتجزأ من مشروع الدستور، أن "المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية - الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية، كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوؤ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء". والوطن الذي تتعدد انتماءات مواطنيه، لا خيار أمامه لضمان الوحدة والاستقرار إلا تأسيس الأوضاع القانونية والسياسية على مبدأ المواطنة ومقتضياتها الدستورية والسياسية، بحيث تكون مؤسسة الدولة حامية لانتماءات مواطنيها. ولضمان حق الاختلاف في العقيدة الدينية، نص الفصل الثالث من مسودة الدستور على أن "الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية"، وتأتي دسترة اللغة الأمازيغية إلى جانب اللغة العربية لترسيخ التعددية الثقافية، إذ نص الفصل الخامس (5)على أن الأمازيغية تعد أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة دون استثناء كما تعمل الدولة على صيانة الحسانية، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الهوية الثقافية المغربية الموحدة، وعلى حماية اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة في المغرب، وتسهر على انسجام السياسة اللغوية والثقافية الوطنية، وعلى تعلم وإتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولا في العالم، باعتبارها وسائل للتواصل، والانخراط والتفاعل مع مجتمع المعرفة، والانفتاح على مختلف الثقافات، وعلى حضارة العصر. ومن الحريات المهمة التي جاءت في مشروع الدستور ضمان حرية الإبداع والنشر والعرض في مجالات الإبداع في الفن والثقافة (الفصل 25)، وحرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها، وحرية الإبداع والنشر والعرض في مجالات الأدب والفن والبحث العلمي والتقني مضمونة ودعم السلطات العمومية بالوسائل الملائمة، تنمية الإبداع الثقافي والفني، والبحث العلمي والتقني والنهوض بالرياضة، كما تسعى لتطوير تلك المجالات وتنظيمها، بكيفية مستقلة، وعلى أسس ديمقراطية ومهنية مضبوطة. (الفصل 26). ثم انتقل مشروع الدستور إلى التأكيد على واجبات المواطنة، منها احترام الدستور والتقيد بالقانون (الفصل 37)، ومساهمة كل المواطنين والمواطنات في الدفاع عن الوطن ووحدته الترابية تجاه أي عدوان أو تهديد (الفصل 38)، وتحمل التكاليف العمومية (الفصل 39)، وتحمل بصفة تضامنية، وبشكل يتناسب مع الوسائل التي يتوفرون عليها، التكاليف التي تتطلبها تنمية البلاد، وكذا تلك الناتجة عن الأعباء الناجمة عن الآفات والكوارث الطبيعية التي تصيب البلاد (الفصل 40). وخلاصة القول إن المواطنة لا تبنى بتغييب خصوصيات المواطنين أو تهميش بعضهم لدواعي ومبررات معينة، وإنما هذا المفهوم يبنى كحقيقة واقعية باحترام التعددية وفسح المجال القانوني والثقافي لكل المكونات والتعبيرات للمشاركة في بناء الوطن وتعزيز قوته وإنجاز مشروعه التنموي والحضاري. وكل ثقافة تؤسس للتمايز أو التفريق بين أبناء الوطن الواحد على أسس دينية أو عرقية تساهم بشكل أو بآخر في تقويض أركان الوحدة الوطنية وفي تأخير إنجاز مشروع الوطن والمواطنة. وإن نجاح الأنظمة الدستورية لا يتأسس فقط على الجانب النظري منه، وإنما يجب أن يكون حصيلة وروح عامة في التضامن والتعاون والحوار والتعايش بين مختلف الجماعات والهيئات، في وحدة وطنية تسودها قيم مشتركة، إذ لا توجد مواطنة دون قيم وأهداف جماعية.