منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي، بدأ العد العكسي ل "العقد الأحمر"، الذي جرى تدشينه بفضل تضافر أربعة عوامل: الكفاح من أجل التحرير الوطني (الفيتنام وفلسطين)، والحركة العالمية للشباب الطلابي في ألمانيا، اليابان، أميركا، المكسيك... ، وتمردات المعامل )في فرنسا وإيطاليا(، والثورة الثقافية في الصين، كما تراجع المد الاشتراكي والشيوعي، بعد سقوط الكثير من الأفكار والإيديولوجيات، وحدوث نوع من الارتداد الذاتي، المتمثل في العودة إلى العادات، بما فيها العادات الانتخابية، واحترام النظام الرأسمالي – البرلماني أو الغربي، والاقتناع بأنه ليس في الكون أفضل مما هو كائن، والارتداد الثقافي، الذي تجلى في فرنسا، من خلال "الفلسفة الجديدة"، التي روجت للنزعة الأميركية المضادة للشيوعية في خمسينيات القرن الماضي، التي تقول إن الأنظمة الاشتراكية عبارة عن أنظمة استبدادية مشينة، وديكتاتورية دموية، يتعين معارضة "كليانيتها" الاشتراكية على مستوى الدولة بالتمثيلية الديمقراطية، رغم أنها غير تامة، ولكنها تظل شكل السلطة الأقل سوءا. بهذا المدخل التمهيدي، يشرح الفيلسوف والروائي الفرنسي، ألان باديو، موضوع فشل اليسار، وبالتحديد النظام الشيوعي في العالم، في كتابه "فشل اليسار"، الصادر سنة 2009 بفرنسا بعنوان "الفرضية الشيوعية"، والصادرة، حديثا، ترجمته العربية عن "دار توبقال للنشر" بالدارالبيضاء، من طرف عزيز لزرق ومنير الحجوجي، ويتحدث في هذا العمل الفلسفي بامتياز، الموزع إلى أربعة فصول: مازلنا معاصرين لماي 68، والثورة الأخيرة، ومجموعة باريس: إعلان سياسي بصدد السياسة، ومثال الشيوعية، عن اليسار الاشتراكي، وعن فكرة الشيوعية، التي قال إنها "عبارة عن يوطوبيا مجرمة، فشلت في كل مكان"، وإنه يتعين عليها أن تترك المجال لثقافة "حقوق الإنسان"، التي تجمع من جهة بين عبادة الحرية والتمثل الأضحوي للخير. وأضاف ألان باديو، المزداد بالمغرب سنة 1937 والشهير بكتاب عن الرئيس الفرنسي ساركوزي وبكتاب "الكائن والحدث"، في المدخل التمهيدي للكتاب "لا توجد اليوم أي دولة قوية تستند إلى الشيوعية، أو حتى الاشتراكية. في القرن العشرين يمكن القول إن الأنظمة الاشتراكية، وهي الأشكال الملموسة الوحيدة للفكرة الشيوعية، منيت كليا بالفشل، بل هي نفسها عادت لتتبنى العقيدة الرأسمالية الظالمة. إن فشل هذا المثال يتركنا عرضة لعقدة التنظيم الرأسمالي للإنتاج وللنظام الدولتي البرلماني، في غياب أي حق في الاختيار: يجب أن نقبل ذلك طوعا أو كرها". ماذا تعني بالضبط لفظة الفشل؟ وهل الفشل جذري أم نسبي؟ عن هذين السؤالين المرتبطين بأسئلة أخرى متناسلة، وانطلاقا من أحداث ماي 1968، والثورة الثقافية، استعرض الكاتب أنواع الفشل، التي تبدو أحيانا دامية، ومليئة بالأحداث المرتبطة بشكل عميق بالفرضية الشيوعية، وقال إنها ستظل مجرد مراحل تعكس تاريخ هذا الفشل، الذي تساءل عن ماهيته وفحواه. ومن الفشل اليميني المتطرف، وفشل اليسار المتطرف، إلى كلمة السر الماوية "تجرأ على الكفاح، تجرأ على الانتصار"، تطرق الكاتب إلى ثلاثة أشكال مختلفة جدا من الفشل في الصيرورة التحررية، أولها فشل المحاولة، الذي يسعى فيه الممسكون بزمام السلطة إلى وضع قوانين جديدة، وأعطى فيها أمثلة عديدة من بينها ثورات السبارتاكوسيين في برلين، بعد الحرب العالمية الأولى، وثورة شانغاي وكانتون في الصين في عشرينيات القرن الماضي، وثاني أنواع الفشل هو المتعلق بحركة كبيرة، تنخرط فيها قوى مختلفة ومتعددة، وتمثله حركة المقلاع بفرنسا في بداية القرن السبع عشر، وحركة 1911 بالصين، وحركة ماي 1968. أما النوع الثالث من الفشل، فيتعلق بمحاولة تحويل الدولة، التي تقدم نفسها على أنها اشتراكية، لكي يجري توجيهها في اتجاه التداعي الحر، الذي يبدو أن الفرضية الشيوعية قامت بفرضه منذ ماركس، وأبرز مثال على ذلك "الاشتراكية ذات الوجه الإنساني" في تشيكوسلوفاكيا، التي سحقها الجيش السوفياتي سنة 1968، والحركة العمالية البولونية "سوليدار نوسك" في 1980. وفي نهاية هذا الكتاب الفلسفي المركب، يتساءل باديو، الذي تلقى كتاباته إقبالا كبيرا، ويرى أن المطالبة بنظام أكثر أخلاقيةً لم يعد كافيا، لأن المعركة ضد الخنوع يجب أن تبحث عن أحلامها وأسلحتها، "ماذا تبقى من عناء "الفلاسفة الجدد"، الذين نورونا، نقصد استهبلونا، طوال ثلاثين سنة؟ ما هي في نهاية المطاف الأنقاض الناجمة عن الآلة الإيديولوجية الكبرى للحرية، حقوق الإنسان، الديمقراطية، الغرب وقيمه؟ كل ذلك يختزل في لفظ سلبي وضيع كحالة مثبتة عارية مثل اليد: في القرن العشرين، يمكن القول إن الأنظمة الاشتراكية، وهي الأشكال الملموسة الوحيدة للفكرة الشيوعية، منيت كليا بالفشل، بل هي نفسها عادت لتتبنى العقيدة الرأسمالية الظالمة".