كثيرة هي الشعوب والحضارات التي عانت من ويلات التسلط الاستعماري الذي سعى منذ قرون خلت وبشتى الوسائل إلى محو آثار وجودها..واجتثاث كل مظاهر تجلياتها من موطنها الأصلي حتى تبقى السطوة للقوة الاستعمارية الدخيلة التي حرمت البشرية من حقها في الإنتفاع بقسط غير يسير من الإرث الحضاري الذي أضحى اليوم في جزء كبير منه ملكا للإنسانية جمعاء. وخلال العقود الأخيرة توالت الصيحات المدوية عبر مختلف بقاع العالم للحيلولة دون استمرار مسلسل طمس الخصوصيات الثقافية والحضارية لعدد من الشعوب والأقليات العرقية التي بقيت صامدة في وجه المحاولات المتواصلة لاستئصال هويتها التاريخية والحضارية أو تشويهها. فكان لهذه الموجة المتصاعدة من المطالب عبر العالم وقع إيجابي كبير على تطوير مفهوم" كونية حقوق الإنسان" . وكنتيجة منطقية لهذه الحركة المطلبية التي امتدت لسنوات, أصدرت هيئة الأممالمتحدة في شهر شتنبر من سنة2007 "الإعلان العالمي لحماية حقوق الشعوب الأصيلة" الذي صوتت لفائدته الجمعية العامة للمنتظم الأممي ب143 صوتا, من أصل158 مشاركا في التصويت, مقابل4 دول فقط صوتت ضده, و11 امتنعت عن التصويت, ليتمكن بذلك السكان الأصليون عبر العالم, والذين يقدر عددهم ب370 مليون نسمة, من استصدار نص قانوني دولي, والذي حتى وإن كان غير ملزم للدول, فإنه يستند إلى مرجعية كونية سامية تتمثل في الدعوة إلى احترام حقوق وحريات الإنسان أفرادا وجماعات, والقضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز العنصري أو الديني أو القومي بين البشر. والملاحظ أن هناك تفاوت واضح في درجة الاهتمام بقضايا الدفاع عن حقوق الشعوب الأصيلة وإحياء ثقافاتها ولغاتها ومختلف مظاهر تجليات حضاراتها في شتى مناطق المعمور, سواء من طرف المؤرخين, أو الباحثين في مختلف التخصصات العلمية, أوالحركات المدافعة عن حقوق الإنسان, أو حتى من طرف أفراد هذه الأقليات العرقية المعنية نفسها بهذه القضايا. فبينما حظيت حضارة السكان الأصليين للقارة الأمريكية وهم الهنود الحمر مثلا, أو الشعب الجنوب إفريقي, أو شعوب البلقان, ومنطقة التيبت في الصين بمتابعة واهتمام جعلها محط أنظار المؤرخين, والسياسيين, والباحثين ووسائل الإعلام وغيرها, فإن حضارات وثقافات شعوب أصلية أخرى ظلت مهملة, وكاد الزمن أن يمحو تجلياتها, أو جزءا غير يسير من هذه التجليات, كما هو الشأن مثلا بالنسبة لحضارة "الغوانش" (أو"لوس كوانشيس" كما يتم النطق بها باللغة الإسبانية), وهم السكان الأصليون لجزر الكناري المحاذية للشاطئ الغربي للمغرب, والتي تنعت أيضا باسم " الجزر الخالدات ". * "الغوانش" استوطنوا جزر الكناري منذ فترة ما قبل الميلاد * وتؤكد بعض الكتابات التاريخية القديمة, المدعمة بنتائج لأبحاث الأركيولوجية معاصرة أن"الغوانش" الذين يعتبرون السكان الأصليين لجزر الكناري ينحدرون من أصول أمازيغية حيث حلوا بالأرخبيل ما بين السنة الألف قبل الميلاد, والسنة المائة قبل الميلاد. وتتعارض الروايات حول الأسباب التي جعلت "الغوانش" يحلون بأرخبيل الكناري قادمين من منطقة شمال أفريقيا وبالضبط من منطقتي سوس ودرعة. فالمؤرخون القدامى مثل بيطليموس يقولون إن الاحتلال الروماني لشمال أفريقيا لقي مقاومة شرسة من طرف الأمازيغ الذين كانوا يستوطنون المنطقة, مما جعل روما تبعث ما بين القرن الثالث والأول قبل الميلاد بحملة عسكرية كبيرة لإخضاع القبائل"المتمردة", وتم بالتالي تنظيم عملية تهجير واسعة لشبان من هؤلاء السكان نحو الأرخبيل, كان زادهم الوحيد أثناء عملية الترحيل القسري بعض رؤوس الماعز كي يقتاتوا من ألبانها. ومقابل هذه الرواية, يرى بعض الباحثين المعاصرين مثل أنطونيو بيريس غارسيا أن زحف التصحر والسعي نحو الحصول على مراعي وأراضي زراعية جديدة يمكن أن يفسر هجرة "الغوانش"نحو أرخبيل الكناري, لكنه لا ينفي في الوقت ذاته رواية التهجير القسري لما يسميه ب"السكان ما قبل الإسبانيين" للأرخبيل من منطقة شمال إفريقيا بسبب مقاومتهم ورفضهم للإحتلال الروماني. ومهما اختلفت الروايات حول الطريقة التي استوطن بها ""الغوانش" أرخبيل الكناري, فهناك إجماع لا جدال فيه حول انتسابهم الجغرافي إلى منطقة الشمال الأفريقي, وكونهم من أصول أمازيغية. كما أن هناك إقرار لا غبار عليه بأنهم تعرضوا, كغيرهم من العديد من الشعوب الأصيلة, لمحاولات مقصودة وممنهجة لاستئصال ومحو كل ما من شأنه أن يبرهن على أن شعبا حاملا لحضارة سبق له أن استوطن أرخبيل جزر الكناري قبل مجيء المستكشفين الأوربيين ابتداء من القرن14 الميلادي. * "الغوانش" عانوا كغيرهم من الشعوب الأصيلة من ويلات الاستعمار * وقد اتخذت محاولات طمس الهوية الثقافية واللغوية ل"الغوانش" أشكال عدة, كما تشهد على ذلك العديد من المؤلفات والأبحاث التاريخية. فبمجرد ما تم إخضاع أرخبيل الكناري لسلطة العرش القشتالي (الأسباني) في القرن15 , تم الشروع في عملية استيطان واسعة للأرخبيل من طرف الأوربيين. كما تم الشروع في الوقت ذاته في عملية إجبار السكان الأصليين على اعتناق الديانة المسيحية كما يؤكد ذلك المؤرخ خوصي دي لاروزا فاروخيا ومن تم تبني اللغة الأسبانية في تواصلهم. وفي السياق نفسه, اعتبرت بعض الأبحاث التي تناولت ثقافة ونمط حياة السكان الأصليين لجزر الكناري, والتي لا تخلو من نزعة استعمارية تحقيرية, أن "الغوانش"كانوا قبل حلول الأوربيين بالأرخبيل "يعيشون حياة بدائية مثل حياة العصور الحجرية الحديثة". كما ذهبت أبحاث أخرى أوردتها الموسوعة الإلكترونية "ويكيبيديا"إلى أن ""ثقافة الغوانش تكاد تكون اختفت... ولكن يمكن ملاحظة بعض آثارها مثل لغة الصفير(السيلبو) التي يتحدث بها سكان جزيرة لاغوميرا"على سبيل المثال لا الحصر. وسجل الدكتور أحمد صابر الباحث المتخصص في اللسانيات الأسبانية في تصريحات أدلى بها لوكالة المغرب العربي للأنباء أن مسلسل طمس معالم اللغة والثقافة الغوانشية استمر حتى فترة حكم فرانكو لأسبانيا, حيث كان يسود في أوساط الباحثين والمؤرخين تخوف من كل ما من شأنه أن يثبت أن هناك علاقة تاريخية بين جزر الكناري وشمال أفريقيا تعود لفترة ما قبل مجيء الإسلام.