الابتعاد عن الصحافة وعن الجرائد هل هو اختيار شخصي أم هناك ضغوط أخرى جعلتك تبتعد عن هذا الميدان؟أولا، ابتعدت عن الصحافة لأنني لا يمكن أن أشتغل مع الجرائد الحزبية، ولأنني لا منتمي، أنا أنتمي إلى وطني، وليس إلى أي حزب. ثانيا دائما كتاباتي السياسية، حتى التي كنت أنشرها إلى حين في الجريدة الأولى قبل أن تتوقف، كنت أعبر فيها عن رأيي الخاص في القضايا الوطنية المطروحة على الساحة. وثالثا، أنا الآن وصلت إلى سن السبعين من عمري، وفي هذه الحالة لا أعتقد أنه يمكن لأي جريدة أن تشغل رجلا في سني، فمن غير المعقول أن آخذ مكان شاب بالكاد تخرج ويريد أن يشتغل في الصحافة، بحجة أنني أمتلك تجربة. كل ما أطلبه من المسؤولين ومن الدولة، وفي الإطار العام المتعلق بالإعلام، أن ينظروا في وضعية من هو في مثل حالتي. وهذه ليست وضعيتي وحدي بل وضعية العديد من الناس وإذا الدولة تنحت، وغضت الطرف عن مثل هذه الحالات، تكون، بالتالي، ظلمت شريحة من الناس، الذين قدموا حياتهم، وقلمهم، وتجربتهم، وثقافتهم إلى هذا الوطن، وهذا شيء بالنسبة لي غير معقول وليس منطقي. ألا ترون أن اعتزال جيل أعطى للصحافة الكثير يمكن أن يشكل ظلما للأجيال المقبلة؟ كما قلت لك الآن، إن الجرائد الموجودة في السوق، إما أنها جرائد حزبية ملتزمة بخط سياسي معين، وهذا لا يناسبني، وإما أنها جرائد حرة مستقلة لأصحابها، الذين يباشرون فيها تجربتهم. وفي هذه الحالة أين سأضع نفسي. فأنا لست موجودا لا هنا ولا هناك، لكنني مع ذلك أكتب وأواظب على الكتابة، خلال سنة واحدة، صدر لي ثلاثة كتب، وفي السنة المقبلة ستصدر لي ثلاثة كتب أخرى، هي الآن قيد النشر، ولدي كتب تنشر الآن، كما ستنشر وزارة الثقافة السورية كتابا لي هذا العام حول المسرح. وعندي في مصر كتاب عن الشعر المغربي قيد النشر، ولكن هذه الكتب وهذا الحضور وهذا العمل المرتبط بي لا يمكن أن يضمن لي العيش، يعني أنا أخدم الثقافة بالمجان وأنا أتضرر وأعيش في حياة يرثى لها. مثلا عندما أتحدث لك عن التغطية الصحية، فأنا أصرف حوالي 2.500 درهم في الشهر، ولما أراسل المسؤولين لا أحد يجيبني، وهذا بالنسبة لي هذا ليس له أي معنى. وإذا كانت تجربتي بهذا الشكل، فهؤلاء الناس يرون هذه التجربة ولا يهتمون بها، هم من يريد للأجيال المقبلة أن تبتعد وتنفر من الصحافة وتبتعد عن الخوض في تجربة الكتابة، التي لا يمكن أن تضمن العيش لصاحبها. من خلال تجربتك لمدة 50 سنة، كيف تقيمون العمل الصحفي اليوم؟ اليوم هناك تطور كبير جدا في المغرب، في ما يتعلق بالصحافة، كما وكيفا، وهناك الآن حرية أكثر، الأساليب أصبحت متطورة، والتواصل يجري بشكل أفضل، لكن وضعية الصحافيين هي أضعف مما كانت عليه من قبل، وأضعف بكثير، لم أكن أتصور من قبل 20 سنة أن يصل المرء إلى السبعين من عمره ويجد نفسه في وضعية يرثى لها مثل حالتي. أنا كنت، دائما، رافضا الانتماء لأي حزب سياسي، لكني وجدت نفسي، اليوم، نادما، ولو انخرطت في حزب، لكنت اليوم وزيرا، أو رئيس حكومة، لأن كل هؤلاء الذين أراهم اليوم أمامي هم أقل مني بكثير جدا، وأنا كنت أقدم لبعضهم خدمة لكي يشتغل داخل إطاره الحزبي، ولهذا أنا أخاطب الدولة هنا وأقول لها "حرام عليك". لو أتيحت لكم فرصة العودة للعمل الصحفي، هل تختارون العمل في جريدة حزبية، أم في جريدة مستقلة أم ماذا؟ أنا أفضل أن أعيش مستقلا، إذا قدر لي العمل في جريدة حزبية فسأحترم الخط السياسي الخاص بها، لكن سأشتغل بمبادئي الوطنية، وإذا كانت مبادئي الوطنية تتعارض مع مبادئ ذلك الحزب لا أشتغل معه. ألا تخاف أن تؤدي الثمن مجددا؟ لا، أخاف، لأنني بكل بساطة، أديت الثمن، أنا عندي 70 سنة، كم مازال أمامي لأعيشه، يعني أنا أودع. أي أن "العمر ما بقى فيه قد ما فات"، لكن حرام أن تمر تجربة من هذا النوع، وحرام أن تمر تجربة أخرى مماثلة لتجربتي في بلادنا، لأن المغرب، اليوم، ملزم بأن تكون لديه ذاكرة، وذاكرة المغرب هي نحن الصحافيين، والكتاب، والأدباء، والشعراء، الذين يعملون في هذا المجال، خاصة أن الشباب هو الآخر يحب ويعشق هذا الميدان. لا يجوز أن نجد مجالا يعشقه الشباب ونقدم فيه نموذجا يصل فيه الشخص إلى 70 عاما ويعيش ويتكلم بهذا الشكل. أنا حقيقة يمكن أن أكون أخطأت لأنني لم أتحزب، وأنني لم أنتم لأي هيئة سياسية معينة، هذا أمر ممكن لكن أنا حتى في الوقت الذي خرجت فيه للاشتغال بالخارج واشتغلت بالسعودية، وفي مصر، وضعت نفسي في خدمة هذا المغرب، وأنا أتحدى أيا كان، وطيلة خمسين سنة، وأنا أنشر داخل المغرب وخارجه، أن يأتيني بمقال أو فكرة أو كتاب أو أي شيء آخر نشرته يتحدث عن دولة من الدول التي اشتغلت معها أو في جرائدها. أنا كتبت في جريدة الرياض بالسعودية مئات المقالات عن المغرب، وأنا في السعودية. وكتبت في لبنان عشرات المقالات عن المغرب، وكتبت في العراق مئات المقالات عن المغرب. المغرب بالنسبة لي هو الرئة التي أتنفس بها وهو فكري وهو ما كتبت عنه طيلة حياتي لمدة خمسين عاما، إذن، لا يمكن أن يكون هذا هو جزائي. آخر كلمة كنصيحة للجيل الحالي؟ نصيحتي الوحيدة للجيل الذي سيدخل هذا الميدان، هو ألا يتوقف عن التثقيف وأن يقرأ أكثر ما أمكن وينتج من ذاته، ومن فكره، ومن هويته، ولا يخاف. تجربتي لا أعتقد أنها ستكون تجربة عامة بالنسبة للمستقبل لأن المغرب يسير في اتجاه تطوير آلياته. المغرب اليوم يبحث عن كيفية إقرار التغطية الصحية للصحافيين، وعن كيفية وضع الأجر الملائم للعاملين في الصحافة. يحاول أن يعطيهم الإمكانات، لكي يعيشوا، لكن بالنسبة لجيلي، وهو الجيل المؤسس، لا يجب أن يضيع بهذا الشكل، الذي نحن موجودون عليه الآن. لأن هذه المهنة، مهنة المستقبل ومهنة لابد منها وهي التي يمكن أن تعطي للمغرب الانتقال الحقيقي إلى الديمقراطية وإلى العولمة وإلى الحداثة، وعلى الصحافيين والصحافيات، أن يحاولوا، دائما، أن يكونوا طلبة للثقافة وللمعرفة في حياتهم اليومية، لأن الصحافي كلما زاد ثقافة كلما زاد عطاء.لا يجب عليه أن يتوقف، وتلك هي النصيحة التي أقدم للصحافيين في الوقت الراهن.