تميزت العلاقات بين القوى السياسية المغربية، التي كانت تصنف في خانة المعارضة اليسارية التقدمية والوطنية، وبين القضاء، بغلبة الريبة والشك والتوجس، من قبل الأولى تجاه الثانيوخاصة عندما يقدم قادة ومناضلو تلك القوى إلى المحاكمات. ولم تكن القوى سالفة الذكر تتردد في وصف تلك المحاكمات بالجائرة، واعتبارها محاكمات للآراء والمواقف، وتصنيفها ضمن أدوات التضييق على المخالفين، والانتقام من المعارضين. وإلى جانب ذلك، ظل شعار استقلال القضاء يتصدر البرامج السياسية لتلك القوى. لكن مياها كثيرة جرت تحت الجسر المغربي، عندما تحسنت وضعية الحريات العامة في البلاد، وشاركت معظم القوى المعارضة في تحمل المسؤولية الحكومية، ابتداء من ربيع 1998، وأسندت وزارة العدل، بعد ذلك، إلى شخصيتين بارزتين من قادة تلك القوى، وكادت تختفي محاكمات الرأي، وأخذ القضاء المغربي يراكم العديد من عناصر المصداقية والهيبة، عندما أطلقت يده في معالجة ملفات ثقيلة تتعلق بالفساد، وتشمل شخصيات تحتل مواقع حساسة. وعندما أعلن عن حضور قوي، وباعث على الأمل، في مواجهة الفساد والإفساد الانتخابيين، خلال تجديد ثلث مجلس المستشارين، في خريف 2006. وعلى الرغم من أن استقلال القضاء في المغرب سيتطلب أشواطا عديدة أخرى من العمل والاجتهاد، وسيتطلب المزيد من التقدم على باقي الواجهات، السياسية والقانونية والاجتماعية، فإن ما تحقق من مكتسبات، في السنوات الأخيرة، لا يسمح للقوى السياسية، خاصة منها تلك التي تساهم في تحمل المسؤولية الحكومية، باعتماد المواقف، التي كانت ثمليها، أو تبررها الشروط السابقة، التي كان فيها، مثلا، وزير الداخلية الأسبق، المرحوم إدريس البصري، يجند جهاز القضاء، ووزارة العدل في "حملات صليبية" ضد رجال الأعمال، كما حدث في أواسط العقد الماضي، أو ضد عموم المناضلين السياسيين، كما حدث في مناسبات متعددة، بدءا بسنة 1979، مرورا بسنتي 1981، و1984، وصولا إلى سنة 1990. وفي هذا السياق، لا بد من التذكير بأن المواقف، التي اعتمدتها أحزاب سياسية عدة، أحيل مرشحوها ومنتخبوها على القضاء، في معركة تجديد ثلث مجلس المستشارين، لم تكن إلا مواقف سلبية، من شأنها تكريس الفساد، واعتماد مقولة "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". ووصل الأمر بهذه المواقف إلى الاحتجاج على التقدم، الذي تحقق، ممثلا بتعيين شخصية سياسية في منصب وزير العدل. ولن ينسى المغاربة، المتطلعون إلى دولة الحق والقانون، وقوف بعض أعضاء لجنة العدل والتشريع في مجلس المستشارين ضد ميزانية وزارة العدل لسنة 2007، بسبب الدور المشرف، الذي لعبته هذه الوزارة وجهاز القضاء، يومئذ، ضد الفساد الانتخابي. وفي السياق نفسه، كم تمنيت أن يتنحى قادة حزب الاستقلال ونقابته جانبا، وأن يتركوا للقضاء صلاحية البت في قضية عبد الرزاق أفيلال، سواء بإبطال المتابعة في حقه، لهذا السبب الوجيه أو ذاك، أو بمواصلة محاكمته، بما يثبت له أو عليه، خاصة وأن القيادي النقابي والسياسي السابق لا ينتمي إلى جهة سياسية مطاردة من قبل أجهزة الدولة، كما كان حال العديد من المناضلين في العقود الماضية. وعندما أتذكر كيف بادر رئيس صندوق النقد الدولي حاليا، ووزير المالية الفرنسي الأسبق، كلود سترواس- كان، إلى تقديم استقالته من المسؤولية الحكومية والحزبية، عندما أحاطت به بعض الشبهات، ووضع نفسه رهن إشارة القضاء، وأثبت براءته أمام هذا القضاء، وعاد كبيرا إلى المشهد العمومي... عندما أتذكر ذلك، أحلم بأن أرى مسؤولا مغربيا يحذو حذوه.