بعد مشاركته في معارض جماعية بالرباط، ومراكش، والدارالبيضاء، وتنظيمه لمعرضه الفردي الأول، سنة 2008، برواق صندوق الإيداع والتدبير بالرباط، تحت شعار "تجاعيد"، عاد الفنان والشاعر عزيز أزغاي بتجربة فنية جديدة تحمل عنوان "ممرات"احتضن التظاهرة رواق محمد الفاسي بالرباط، من 11 فبراير الماضي، إلى غاية 10 مارس الجاري. الفنان عزيز أزغاي معروف كشاعر أولا، أصدر مجموعة من الدواوين الشعرية، ورسخ اسمه كشاعر مغربي إلى جانب ثلة من الشعراء، لم يعلن انتماءه الفني وولعه باللوحة إلا بعد مرور سنوات، رغم أنه مارس الفن التشكيلي في صمت وصمم أغلفة العديد من الشعراء والكتاب، في تجربته الجديدة، يقدم الفنان عزيز أزغاي، نفسه كما لم يسبق له ذلك، ويكشف عبر لوحاته، عن خطوط معاناة شفيفة، وعن صدق في الإحساس، وعن اشتغال فني على المادة والألوان، التي تصبح طيعة بين يدي أزغاي، لتصبح اللوحة لديه قصيدة من ألوان. وفي تقديمه لهذه التجربة الفنية المعنونة ب "تأملات عمودية"، ذكر الناقد الفني فريد الزاهي، الذي تتبع تجربته التشكيلية، أن "عزيز أزغاي يدخل حثيثا إلى مجال الإبداع التشكيلي بعد أن مارس الشعر ردحا من الزمن، أو هو يلجه ويتجذر فيه، لكي يجعل منه مقامه الوجودي. فبين القصيدة واللوحة ثمة تواشجات تسهو عنها اللغة وتقف عند عتباتها أحيانا، لتحول اللوحة مجازا إلى لغة. وإذا كان الشاعر يحمل ورشته بين دفتي ذاكرته فإن التشكيلي، وهو يطل علينا بين الفنية والأخرى كي تصدح فينا القصيدة، يغدو صاحب موطن أو مغارة يدعونا إليها لنتقاسم معه متعة وحرقة تكون اللوحة، أو ليهب لناظرينا ما امتلأت به اليد في عز صولتها". وأضاف الزاهي "الإبداع هنا في مغارة التشكيلي، المفتوحة على الغابة والبحر، خلق بالمعنى الحرْفي والحِرفي، لأنه يصنع من صلب وترائب المادة كينونة تقترح نفسها على نظرنا باعتبارها حالات تتأجج فيها الرغبة ويتوالد فيها المعنى. وأزغاي يبدو في تلك المغارة الإبداعية سيد حالاته، ماسكا بزمام معانيه، بحاثا عما يشكل في بواطنه شتات ذاته وعناصر سموقه... هكذا على الأقل أحسسته وأنا أضع الرجل في خلوته التشكيلية، منغمسا في لحمة الهمّ التشكيلي، متسربلا بقلقه الهادر... منساقا لعتمة المادة...". أعمال أزغاي الحالية، كما يقول الزاهي، تنتمي إليه إطلاقا، لأنها تخرج من عتمة ذاته وشروخها الدفينة، إنها نافذته التي فيها تتزاحم أحيانا المعاني من غير صخب، وتتراكب الدلالات من غير تناكر. وكأننا به يبني عالمه باستكناه طبقاته الخفية، ينثرها رذاذا على السطح ويسترسل في الحجب المتواصل... لعبة التغطية والكشط، الحجب والكشف هذه، لعبة يجعل منها الفنان مدخله الجمالي إلى تشكيل اللوحة. وهو يستعمل الماء كما المصور الفوتوغرافي كي "يكشف" عن الصورة، مستعيدا بذلك التعاضد الرمزي بين الماء والخلق، وبين الماء واللذة، وبين هذه الأخيرة والعنف والألم، إنها حركية مائية تخضع كل شيء للجة التفاعل والتداخل، والتحول والانبثاق، بما يكفي لكي نلامس معه تخوم النور. الصراع مع المادة وفيها يحول اللوحة لدى أزغاي إلى حلبة لاستدعاء المعاني الخفية، تلك التي تكاد لا تستجلي ولو بفاحص النظر، أو بالأحرى تلك التي لا تستنبط إلا في غيوم الوجدان. هذا الطابع العنيف، المأساوي أحيانا، هو ما يضعنا، كما يشير إلى ذلك الزاهي، بين الفينة والأخرى أمام فضاء شبه سديمي، تكاد العين لا تقف فيه إلا على صحراء وتموجات المادة اللونية، وأشباح المعاني وأطياف الكينونات الهاربة. والحقيقة أن هذا النزوع أكثر ملاءمة لأزغاي وأشد مفارقة لمنزعه الشعري. هذا المنزع المولع بتقلبات وانقلابات الأشياء، يجد مقابله هنا في حضور اليومي بعناصره العادية والرمزية، الذاتية والغيرية، من الكأس إلى "لحرف"، ومن السلم إلى المنار. إنه يومي يتخذ شيئا فشيئا طابعا متساميا بل متعاليا، بحيث نشهد في اللوحة منحى يدفع بالأشكال نحو التسامق وتسلق سماوات الروح. ولو أن اللوحة أحيانا تنحو نحو الامتلاء والفيض، ولو أن المساحات تتجدول في ما يشبه البحة، فإن الاشتغال على اللون في تساوق مع الشكل يعتبر، أيضا، مدار التجربة التي يخوضها أزغاي بالكثير من الجموح وبطابع مأساوي خصيب، يبيح له أن يعري عن ذاته في شبه اعتكاف واستبطان ستظهر آثارهما الفنية الكلية بصورة أوضح. ولعل في امتلاك الفنان لنواصي اللون ما يجعل منه فنان اللون والمادة، يمنحهما لنا في تقاسيم موسيقية لها نبرة الانطلاق... نحو مدارات جديدة تتبدى في الآفاق سماواتها المقبلة...