الدخول إلى عالم المشردين، يعني الخوض في مستنقع يخفي أكثر مما يظهر، ويعكس في واقع الأمر تناقضات كثيرة في المجتمع تتطلب إيجاد حلول مناسبة، والاقتراب من هذه الفئة المعوزة، التي تنبت في كل مدينة وقرية، يقربنا من مشاكلهما وهمومهما الحقيقية وعالمهم الغريب.مشردون وجها لوجه مع الموت (خاص) وتتضاعف مشاكل هذه الفئة، كلما حل فصل الشتاء، حاملا معه زمهريرا لا يرحم، يعصف بكل كائن يسكن الشارع، يفترش الأرض ويلتحف السماء. فكيف يواجه المشردون موجة البرد غير العادية، في غياب جهات معنية تحتضنهم، على الأقل في هذا الفصل الغاضب؟ وما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه دور العجزة، والخيريات الإسلامية، والمستشفيات لفائدة هؤلاء المواطنين المغاربة؟ تفشت ظاهرة الهجرة من البوادي نحو مدينة خريبكة، بسبب التقلبات المناخية من جهة، وانعدام الشغل من جهة أخرى، بالإضافة إلى استخراج الفوسفاط من هذه المناطق، ما اضطر الفلاحين إلى بيع أراضيهم والتوجه إلى الحواضر، بحثا عن موارد جديدة للرزق .هذه الهجرة كانت لها سلبيات كثيرة، فبعد أن توافد سكان هذه المناطق على المدينة، تناسلت بفعل ذلك أحياء هامشية، وكثرت حرف غير منظمة، وارتفع عدد البائعين المتجولين إلى أزيد من 4000 بائع، ويبقى قطاع البناء أهم مجال يشتغل فيه هؤلاء الشباب، نظرا لإقبال الجالية المغربية على الاستثمار في هذا المجال، في غياب التحفيز على ولوج ميادين أخرى أكثر نفعا للمستثمرين والسكان، على حد سواء. نظرا لهجرة عدد كبير من سكان هذه المناطق إلى أوروبا، خلال السبعينيات والثمانينيات، خصوصا إلى إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، وتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية ، بدأ الشباب يتطلع إلى الهجرة السرية بأي شكل، وكان "الحريك" هو السبيل الوحيد أمام استحالة الحصول على "فيزا"، وكانت الوسيلة هي قوارب الموت، وبموازاة مع ظاهرة الهجرة السرية ، تفشت ظواهر أخرى اجتماعية، من بينها ظاهرة المشردين الذين يتكاثرون كالفطر وقد توافدوا بالعشرات، من المدن المجاورة، مثل ابن احمد وأبي الجعد وواد زم، وبوجنيبة، وحطان، وأبي الأنوار، وأيضا من الأحياء الهامشية بالمدينة، وأغلب المشردين، حسب الإحصائيات والدراسات التي جرت، قدموا من هذه المدن واستقروا في خريبكة، في أماكن معلومة، حيث أصبحوا معروفين. ألف حكاية وحكاية حالات المشردين تختلف من شخص لآخر، وحسب الفئات العمرية، حتى أن البعض له مواهب ومهارات تجعله معروفا في المدينة، مثل شخصية "با صالح"، الذي يُعرف بأنه شخص مثقف يتقن أكثر من لغة ويقرأ الجرائد بانتظام ويطلب دراهم معدودة تكفي لسد رمق جوعه، وفي الغد يفعل الشيء نفسه دون أن يثير فوضى أو يؤذي أحدا. هذا الشخص الذي ألفه سكان المدينة، لقي حتفه، خلال موجة البردة الأخيرة من السنة الفارطة، في ظروف قاسية جدا. و"سي محمد الناشط"، كما يلقب، شخص يعمل عمل شرطي المرور بتفان وحركات مضحكة، تراه طول الوقت يقطع شارع الروداني وبني عمير، ينظم المرور، ثم ما يلبث أن يبدأ بالقفز وتمويه السائقين، كما لو أنه يستعد لرمي نفسه أمامهم، فيحدث ارتباك لدى السائقين ويختل النظام من جديد. كما يحفظ كل أغاني الغيوان وجيل جلالة ولمشاهب، ويؤديها بالحان عذبة جميلة، وبحركات مسرحية متجانسة. أما العجوز المعروفة ب"مبروكة"، فهي المرأة التي يعرفها الصغير والكبير في إقليمخريبكة ككل، وهي تسكن تحت سقيفة أحد الحوانيت وسط المدينة منذ أزيد من 10 سنوات، وتتناسل ألف حكاية عن حياتها الخاصة، إلا أن جميع هذه الحكايات تظل لغزا محيرا، في غياب عائلة تثبت أو تنفي ما يشاع عنها. وفي الآونة الأخيرة، جرى تحقيق حلمها بسكن متواضع، هو عبارة عن إطار حديدي مربع يلتحف غطاء ب بلاستيكيا يأوي جسدها الهزيل، الذي حفر فيه الزمن أخاديد عميقة. الحالات الثلاث الآنفة الذكر، وحسب مصادر مسؤولة، هي حالات مستعصية، وجميع المحاولات، التي جرت من اجل إدماجهم واحتضانهم، باءت بالفشل، بهدف الاحتفاظ بهؤلاء في دار الأطفال، مؤقتا على الأقل، قصد توفير العناية لهم، لكن ذلك لم يدم طويلا، نظرا لان الدار مكلفة بالأطفال فقط، وأمر المشردين لا يدخل في إطار عمل المسؤولين بها، بالإضافة إلى ذلك، فإن الحالات المذكورة أعلنت العصيان والتمرد، للانطلاق من جديد والعودة إلى التشرد. مشرد غريب أما حالة "احمد. س"، شخص مشرد غريب الأطوار، فقد عاش سنوات قرب السكة الحديدية، قبل أن يغادر إلى ايطاليا عبر قوارب الموت، بمساعدة أحد الأشخاص. وعند استقراره بايطاليا، كان يجمع الأحذية والألبسة المسروقة، أو تلك التي يلتقطها من القمامة، ويعطيها لأبناء وطنه العائدين إلى المغرب، مقابل أن يجلبوا له، عند عودتهم، مادة " السيليسون"، وهي المادة التي كان مدمنا عليها في المغرب، وعند عودته أخيرا من إيطاليا، بعد فشله في إيجاد عمل قار، اعتكف في أحد المساجد، يقوم بتنظيفها وإعداد الماء الساخن للمصلين، مقابل أن يبيت في أحد البيوت ويأكل لقمة يومه مما تجود به أريحية بعض المحسنين بالمدينة. شخصية أخرى قدمت من مدينة بوجنيبة، شخص كان في السابق معلما لكن لأسباب لايعلمها أي أحد، أصبح مشردا بمدينة خريبكة، وكان معروفا عنه صمته الرهيب ونظراته الزائغة، وكان يزيل كل ملابسه ويبقى عاريا، هو الآخر لقي حتفه في إحدى موجات البرد. وحسب مصدر مسؤول، فإن إحصاء جرى خلال سنة 1999، بناء على مذكرة من الداخلية، في إطار حملة خاصة بأطفال الشوارع، قدر عدد المشردين بالمدينة ب78 شخصا،53 رجلا و25 امرأة و14 شابا، و6 فتيات. وبعد حملة منسقة بين جميع المصالح المعنية، جرى تجميع المشردين بدار الأطفال في خريبكة، حيث جرى الاعتناء بهم، وقامت لجنة مكلفة بدراسة كل حالة على حدا، ليتم ترحيل المشردين من خارج المدينة عبر الحافلات، والباقين من المشردين، وعددهم 39 حالة، جرت المناداة على بعض أقربائهم، وبعد التعرف على هويتهم، جرى ترحيلهم بواسطة سيارات الأجرة الصغيرة إلى العناوين التي جرى التعرف عليها. أين مقر العجزة؟ كما زارت المغربية "المركب الاجتماعي التربوي" الموجود قرب طريق لفقيه بن صالح، وهو المقر الذي كان مخصصا أول الأمر للعجزة، لكن سرعان ما جرى تحويله، بإجماع المسؤولين والفاعلين الجمعويين، إلى مركب اجتماعي تربوي .. يعمل على إعادة تأهيل الشباب ضحية الهذر المدرسي، مخافة من الانحراف والتشرد، بتخصيص فضاءات لتعلم الحرف المهنية المتضمنة لأنشطة مدرة للدخل، والدعم المدرسي ومحو الأمية، كما يعمل على إعادة تكوين المشردين، الشباب منهم على الخصوص، لمدة عام، بتعاون مع منظمة دولية خاصة بالهجرة، في إطار مشروع "سالم"، الذي يسعى إلى احتضان المشردين والعمل على تكوينهم وإدماجهم في خلية المجتمع. يذكر أن المنظمة المذكورة، رصدت مبلغا ماليا مهما للمشروع، قدر ب 1.830.000 يورو، حوالي 20 مليون درهم. هذا المشروع يندرج ضمن مشروع "سالم"، وهو جزء من استراتيجية إنمائية شاملة تشارك فيها: منظمة العمل الدولية (المنظمة الدولية للهجرة)، ومختلف السلطات والمنظمات غير الحكومية، يهدف إلى وضع الأسس لسياسة التنمية المشتركة، وتقديم الدعم الاستراتيجي الوقائي للحد من الهجرة السرية التي تستهدف بالدرجة الأولى، القاصرين المرشحين للهجرة غير الشرعية، وتقديم خدمات اجتماعية، بشراكة مع التعاون الوطني، لمحاربة ظاهرة المشردين والعاطلين.. بتنسيق مع المسؤولين بالمركب الاجتماعي التربوي، ويسعى مشروع "سالم" إلى تنمية الموارد البشرية والتنظيمية، لتعزيز شبكات الحماية القائمة بالفعل، بما في ذلك الشباب. جناح الأمراض العقلية في غياب مؤسسات محتضنة للمشردين، زارت "المغربية" مستشفى الحسن الثاني، جناح الأمراض العقلية والنفسية، لمعرفة حيثيات هذا المشكل، قابلنا الممرض المشرف، وحول احتضان هؤلاء المشردين، أفاد أن هذا الجناح ليس من اختصاصه إيواء هذه الفئة، لأن الجناح الوحيد بالمستشفى، خاص بالمرضى، وهو لا يسع لأكثر من 15 مريضا، ومع ذلك، يضيف الممرض – نضطر لمضاعفة العدد، ونستعمل إمكانياتنا الخاصة من أجل المريض، الذي يقطع عشرات الكيلومترات للعلاج في هذا المستشفى. وحول المقاييس المعتمدة في قبول هذا النوع من المرضى، يضيف مصرحا "لا يمكن قبول غير المرضى الذين يعانون أمراضا مزمنة أو مستعصية، وليس المشردون الأصحاء، لأن أمر هؤلاء هو من اختصاص المؤسسات الخيرية بالدرجة الأولى". والملاحظ، أن جل المشردين الموجودين بمدينة خريبكة، توافدوا من المدن الصغيرة المجاورة، كأبي الجعد وواد زم وبوجنيبة وحطان وبرشيد، لذلك نجد أن فئة المشردين قليلة بها، باستثناء مدينة برشيد وواد زم. وفاة مهمشين يذكر أن حادث وفاة 8 "مهمشين" بمدينة واد زم، خلال الأسبوعين الأخيرين، استنفر السلطات المحلية والمصالح الأمنية محليا وجهويا، وعقد اجتماع على إثر ذلك، بباشوية وادي زم، خصص لتتبع ملف الوفيات المسجلة في صفوف المهمشين والمشردين المدمنين على الكحول، لاتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لمواجهة ظاهرة المشردين بهذه المدينة وغيرها من المدن ، تفاديا لمثل هذه الأحداث المفجعة. وكان هذا الحدث، مناسبة للتفكير في طريقة ناجعة لاستئصال هذه الظاهرة، خصوصا أننا نعيش هذه الأيام موجة برد شديدة، قد تعصف بحياة المشردين، سيما الشيوخ والأطفال منهم.