رشيد الهاشمي. قدرُ الناس على هذه الأرض أن يتقاتلوا، ويتعاركوا، ويسفكوا دماء بعضهم البعض طمعاً في السلطة،والمجد والجاه، ولا يهم إذا ما امتلأت المقابر بسواعد الضعفاء ورقاب الأبرياء، لا يهم إذا ما كان ثمن ذلك هو الإنسان نفسه. أيها الناس، لا شيء أثمن وأغلى في هذه الأرض من هذا الإنسان،فما بالكم تستخسرونه في سبيل الشهوة الزائلة ونزواة النفس الفانية؟ حروب هي وويلات وقودها الناس والحجارة شنت منذ أزمنة غابرة ولا تزال، ومرد ذلك هو أزمة الهويات المتطاحنة هاته التي تكبد الناس اليوم أرواحهم. للحظة فقط، ينسى المرء أننا من أب واحد، وأنه لا فضل لأقوام على أقوام إلا بالتقوى، فنصنع داخل كل قبيلة قبائل، وداخل كل زعنفة زعانف، ولا نتردد في الوقوف وجهاً لوجه، ولا نستحيي أن نتطاحن ونتقاتل. “هويات متطاحنة”سرعان ما تتحول إلى “هويات قاتلة” لا تنفك حتى تشعل نار فتنة كبيرة إذا اندلعت هيهات أن تخمد وتجد إلى ذلك سبيلا. حتى في بلادنا، لا أحد ينكر أن سؤال “الهويات”هذا لازال قائماً بإشكالات العويصة،فأولئك الذين يدافعون عن “مغرب التعدد” في منابرهم وعلى طاولات الساسة يدركون أيما إدراك أننا كأفراد لازلنا عاجزين على احتواء كل الثقافات التي تشكل في مجملها الثقافة المغربية، كما هو الشأن بالنسبة للثقافة الزنجية. الزنوج أو السود، قد تختلف الأسامي لكنها ترمز إلى جنس واحد هو الجنس الأسود الذي دخل إلى المغرب من بلاد السودان ومن تخوم افريقيا جنوب الصحراء عبر فترات تاريخية، فمنهم من أتى مهاجراً فاراً من حياة البؤس ومن ويلات الحروب فاستقرار به المقام وطاب له العيش، ومنه من تمت الإغارة عليه والتنكيل به، فمن واجه المغتصب بالسلاح فقد قضى نحبه، أما المستضعفون الذين لا يملكون للمصيبة شجاعةولا حيلة فقد تم بيعهم في أسواق النخاسة بدراهم معدودة، ولم يتم تحريرهم إلا في عصور متأخرة. هو الجنس الأسود إذاً الذي ما فتئ البيض يحقرُون من شأنه بسبب لونه الداكن الذي تضعه الأعراف في أسفل الترتيب، ولا تعترف بهم كثقافة فريدة لها خصوصياتها وأصولها المتفردة، إذ لطالما اعتبرناهم محسوبين على ثقافات أخرى عربية كانت أم أمازيغية إلى درجة أضحينا نستغرب عندما نتحدث عن الزنوج ونصفهم كأقلية مغربية لها من المظاهر الثقافية ما يميزها عن باقي القوميات الأخرى. رُب قائل قد يقول إن قضية التعدد الهوي بالمغرب هي قضية متجاوزة ومن شأن الإفراط في تسليط الضوء عليها أن يشتت لحمتنا الوطنية وأن يفعل فعلته المشينة والمخجلة باستقرار وطننا، لكن ألا يفترض بنا أن نرد الاعتبار لهاته الأقلية التي تمثل جزءاً من حضارتنا وثقافتنا وننخرط بشكل فعلي في مغرب التعدد الذي تنصهر فيه الفوارق ويناشد فيه الجميع مستقبل الوحدة؟ لكن لا أحد يبدو مستعداً للاعتراف بهذه الحقيقة والدفاع عن الجنس الأسود كمكون أساسي للثقافة المغربية، ففي الوقت الذي نجد فيه السود يتعرضون لإهانات لفظية بشكل يومي (الحرطاني، العزي، الكحلوشي، الضراوي، اسوقي، القرد، حلوف الغيص، وزون…)، لا نجد من الناس من يعترض على هاته الألفاظ، بل والأنكى من ذلك أنهم يعتبرونها ضرباً من ضروب النكتة والمزاح لا تمت بأية صلة لقضية العنصرية. ومن غرائب الأمور كذلك أننا لا نجد في الترسانة القانونية المغربية قانونا يجرم العنصرية ضد الزنوج، وفي هذا دليل على استمرارية العنصرية ضد الجنس الأسود كثقافة لا زالت تسكن اللاشعور المغربي الجمعي. و الحقيقة أن من يمارس هاته العنصرية، بوعي منه أو بدون وعي، إنما يمارسها – بالإضافة إلى المواطنين السود- على آلاف من العائلات ذوي البشرة البيضاء الذين ينحدرون من أصول زنجية ذائبة في مجتمع البيض منذ قرون عدة. إن معطى الهوية معطى متحرك وليس ثابت. وبالتالي، فإن المغرب اكتسب هويته عبر فترات تاريخية طويلة انصهرت خلالها ثقافات الشعوب الإفريقية والأمازيغية والعربية ….الخ، وتبعا لذلك فإن السبيل الوحيد لفض نزاع الهوية هو الاعتراف بكل المكونات الثقافية التي تؤسس حضارة المغاربة ومناشدةَ أفق الوحدة لبناء سرح وطن متعدد يحكمه الالتحام و التماسك.