لم يزعجني يوماً أني ذو انتماء مزدوج يجمع بين الهوية العربية و الأمازيغية و أنا الذي لا أجيد الحديث بحروف "تيفيناغ"، و إن يكن فهذا لا يمنع أن عروقاً أمَازيغيةَ تسْري في دمائي و تلَون مع العروبة هويتي الهجينة لتنطبق عليَّ أنا الآخر نظرية الهوية المركبة للمفكر اللبناني أمين معلوف. هكذا أجدني أسمع الشاعر الفلسطيني محمود درويش يردد بصوت عالٍ: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، فأجدني أدندن لنفسي و أقول: " على هذه الأرض ما يستحق التعايش". لا يستقيم صراحة في - زمن التعددِ و الاختلاف هذا- أن نتمادى كما نتمادى اليوم في إشهار هوياتنا "القاتلة"، و نتبارى كما نتبارى هاته الأيام في رفع أعلامنا الثقافية ضد الآخر، لأن من شأن ذلك أن يؤدي بنا إلى ما لا تحمد عقباه و ما لا نستطيع تحمل نتائجه من صراع و عداوة، خاصة و أننا لسنا ببعيدين عن رُقع الإجرام و التطاحنِ. فلا يجوز لنا إذن بأي كان أن نطمئن كثيرا على أمن وطننا متعللين في ذلك بأن هناك استتباب أمني رصين يبعدنا عن خطر التصادم، و نجد في ذلك حجة للانخراط في حركات التعَصب و الوقوف نداً ضد الآخر الذي نتقاسم معه نفس الهوية و نفس المصير. فالمغاربة أضحوا اليوم أكثر استيعابا لمنطق التخفي في جلباب الدفاع عن الإتنيات بغية تمرير المنظور المصلحي الضيق الكامن في الوصول إلى السلطة متجاهلين ما قد يفعل بنا فعلهم ذاك، و ما قد يجر علينا من ويلات. لن نجد حرجا في القول بأن أزمة الهوية التي يتخبط فيها المغرب اليوم لا ترتبط بتاتا بسؤال تواجد الأمازيغ و العرب جنباً إلى جنب في رقعة واحدة، فلقد ارتبط تعايش الشعبين منذ قرون عديدة، إذ غالبا ما كانت تنصهر هاته الانتماءات العرقية في سبيل إعلاء كلمة الوطن، و غالبا ما كانت تتواشج حروف "تيفيناغ" و أبجدية الضاد لترسم لغة التعايش و الحوار. إلا أن الإشكال المطروح يكمن في تلك الثقافات الغريبة التي غزتنا في وقت سابق و تريد منا الآن أن نرى في تعددنا عيباً و رذيلة، و الحالة أن المسألة واحدة، و الخطر مشترك على قدم من التوازن التام. كم يخطئ ذلك الذي يُقيّم الأممَ و الشعوب قياساً على تصرفهم في فترةٍ من الزمان أو فعل واحدٍ من الأفعال، و يسري ذلك على المغرب حينما بزغ شنآن بين الأمازيغِ و العرب في مسألة الاختيار اللغوي و ما رافقه من صراعات خفية لم تنتج جعجعتها نخالة و لا طحين، لكنها كشفت عن ملامح صراع مستور نخشَى أن يَنبَجِس بأشكال أكثر عنفوانية. قد تخطئ العبارة عندما نتحدث عن المغرب بوصفه دولة عربية – و قد يكون الأمر خطيراً أكثر مما نتصور - لأن ذلك ليس إقصاءً فقط للقومية الأمازيغية و حسب، بل إقصاء كذلك لأقليات زنجية، و يهودية و مسيحية، و...الخ، لكن لن تكون أكثر خطورة من ركوب صهوة التصادم و العنفوان في سبيل الانتصار لهوية ما على حساب هويات الآخرين. و هذا ما نجده حاضرا اليوم بصور و أشكال متعددة، إذ يَكِد نشطاء في التصدي لكل انحراف يهدد هوية الاتنيات و الأقليات، وهذا حقهم، لكن ماذا عن واجبهم؟ ! هل يكدون بنفس الدرجة لمضاعفة الدفاع عن هويات الآخرين و عن قداستها، أم لا يحسنون سوى الانتصار للانتماءات الفردية بغية شعْل فتيل الفتن ؟ ! و في الختام، لا يسعنا إلا أن نستحضر كلمات أمين معلوف و هو يروي لنا حكاية حسن الوزان في رواية "ليّون الإفريقي" نظنها الأكثر تعبيراً عن ما نحن في حاجة إليه اليوم، إذ يقول :"ستسمعُ منْ فمِي العربيَّة والتركيَّة والقشتاليَّة والأمازيغية والعبريَّة واللاتينيَّة والإيطاليَّة العاميَّة، فكلُّ اللغة وكافَّة الصلوات تنتمِي إليَّ، لكننِي إلَى أيِّ منهَا لا أنتمِي"