2 . محاولة تحليلية لمنطق تداخل المركزي بالمحلي من خلال قراءاتنا المتعددة لمجموعة من الأبحاث والدراسات والأطروحات بشأن تداخل المركزي بالمحلي، تبين أن تاريخ المغرب المستقل سيطر عليه هاجس مراقبة كل ما يحدث من تفاعلات في المجالات المحلية. بالطبع، تحقيق ذلك ليس بالأمر الهين بل يتم تارة من خلال آلية استقطاب النخب بناء على معايير معينة (الأعيان أبناء القواد والباشوات وشيوخ القبائل والذين تحولوا إلى برلمانيين بسبب تحويل رجل سلطة إلى موظف) أو عن طريق التكيف وآلية الوصاية والضغط بمصادر التمويل لتقليص من هامش حرية النخب الرافضة للتبعية في المجالات التي عرفت فيها الأحزاب الوطنية شرعية سياسية. كما تم استعمال آلية تشجيع السكن غير القانوني لتشجيع الهجرة القروية لإضعاف مشروعية النخب غير المرغوب فيها (خلق دوائر انتخابية إضافية من سكان القرى في أحياء السكن غير القانوني بجوار المدن وإدماجهم في المجال الحضري). والنماذج كثيرة نذكر أهمها مدينة سلا التي اشتغل عليها الأستاذ ابوهاني (أطروحة دكتوراه الدولة تحت عنوان «السلطة المحلية والمجال الحضري بالمغرب»((1988 )، ومدينة شفشاون، ومدينة تيفلت، ومدينة سوق الأربعاء التي اشتغل عليهما كمدن متوسطة الحجم الأستاذ عزيز عبد المولى العراقي (اطروحة دكتوراه الدولة التي حولها إلى كتاب تحت عنوان «أعيان المخزن أمام امتحان الحكامة: النخب المحلية، التدبير الحضري والتنمية بالمغرب» ((1999 )، ناهيك عن أطروحات وأبحاث أخرى مرتبطة بالموضوع في مجال علم الاجتماع السياسي... وسنعود إلى مناقشة بعض الاستنتاجات التي وصل إليها هؤلاء من خلال دراستهم لنماذج معينة في مقالات مقبلة. المهم، القاسم المشترك لهذه البحوث والدراسات يتجلى في كونها أكدت كلها كون النظام السياسي المغربي يعرف تقابلا واضحا بين نموذجين من العلاقة التي تربط المركزي بالمحلي. ويخضع هذا التقابل لمنطق «تملكي» يبرز تشبث السلطة المركزية بضرورة مراقبة وتكوين شبكات سياسية لا يمكن أن تكون إلا خاضعة لها وبالتالي تتحول اللامركزية إلى تفويض مراقب عبر آلية الوصاية وتبعية النخب المستقطبة وآلية التفاوض. فإلى جانب نخب الأعيان التابعة والمسيطرة بدعم من الدولة على مجالات ترابية عديدة، هناك جماعات محلية مستقلة بحكم تاريخها وثقافتها تشرعن نخبا تمثلها وتعطي صورة حقيقية للممارسة الديمقراطية واستقلالية العمل الجماعي. بالرغم من هذه الاستقلالية تلجأ الدولة لمجموعة من الآليات لإضعاف هذه الشرعية (السكن غير اللائق، السكن العشوائي، التدبير العقاري، الوصاية الإدارية والمالية، تقديم الدعم غير المباشر لشرعنة نخب منافسة تابعة لها،...). وهذا التشبث بالتحكم في كل شيء مركزيا ومحليا ما هو إلا نتيجة للتأويل السلفي للدستور الذي يختزل، حسب العروي، حياة البشر في الخضوع والانقياد. يحول العقيدة إلى سياسة كما يحول السياسة إلى عقيدة، ينتفي في هذه وتلك كل تطلع وطموح. يفعل المرء أشياء كثيرة صالحة مفيدة لكن منصاعا منقادا. يفعلها لا لذاتها، لمنافعها، بل إظهارا للطاعة والانقياد. بالطبع إنتاج هذا المنطق لا يتم بطريقة متشابهة في المجالات المحلية بل يأخذ أوجها مختلفة كنتاج تكيف الدولة مع طبيعة النخب والمجتمعات المحلية عبر آلية «التفاوض». تفاوض يراد منه تحقيق تحويل السياسة إلى آلية لخلق النوازع وتوظيفها للحفاظ على الازدواجية، الأمر الذي اختلف بشأنه المرحوم الحسن الثاني مع المهدي بن بركة منذ مطلع الاستقلال (بنسعيد ايت يدر في برنامج بثته قناة مدي1 سات). وحتى السلوك الاقتصادي للنخبة المحلية يبقى مرصعا في السياسة. فعندما يكون أغلب العقار ملكا خاصا بالمدن، يتحول الامتياز العقاري إلى مجال للاستثمار السياسي بالنسبة للنخب المالكة ويسيطرون بذلك على السياسة الجماعية لمدة طويلة (شفشاون، سلا تابريكت، دار الكداري،...). كما ثبت أن هذه النخب لا تهتم بإعداد المجالات المحلية لجلب الاستثمار (تهيئة الأحياء الصناعية كمثال)، ومن ثم خلق مناصب الشغل. وباستثناء بعض الحالات الخاصة، نجد على العموم أن تدخل ودعم الدولة كان معطى أساسيا في تاريخ النخب الاقتصادية حيث تم تطوير مجموعة من القطاعات كقطاع تجارة الحبوب، والنقل الطرقي والحضري، وقطاع العمارة والأشغال العمومية (الصفقات العمومية)، استغلال المقالع،.وتجارة المواد الغذائية بالجملة، ودعم القطاع الصناعي والتصدير والاستيراد بالمدن الكبرى، وتفويت الضيعات، والسقي الكبير،... (الدارالبيضاء، طنجة، سوق الأربعاء،...). وفي صلب هذا المنطق نجد البرلماني المستفيد الكبير. إن منطق التشبيك للحفاظ على المواقع القيادية المؤدية إلى البرلمان شكل دائما عرقلة لمسلسل إنتاج النخب الجديدة (الشباب) وللإرادة في الانفتاح السياسي الديمقراطي الحداثي. وقد وصف العروي هذا الوضع قائلا «ترتفع الأمية لا بإتقان الكتابة والقراءة ولا بحفظ مقولات عن الكون والإنسان والماضي، بل عندما يستقل المرء بذاته ويرى فيها المادة التي يشيد بها الكيان السياسي عوض الدخول في مجال تربوي جديد مخالف ومناقض لتربية الأم، هي التربية المدنية». واليوم، بعد مضي عشر سنوات من عمر العهد الجديد، تبقى كل التساؤلات والفرضيات مطروحة. توجت هذه المرحلة بإنتاج زخم كبير من مصطلحات جديدة متعلقة بالتدبير (التدبير الإستراتيجي، تدبير وقيادة التغيير، تدبير منظومة الإعلام، تدبير المشاريع المدرة للدخل، تدبير النزاعات، تقنيات التواصل والتفاوض،...)، وازاه إحداث تعديلات مؤسساتية جديدة كذلك كالتدبير المفوض للخدمات العمومية المحلية، تلاها الإعلان الرسمي للمفهوم الجديد للسلطة ثم الدعوة إلى تطبيق الحكامة الجيدة (مشاركة المواطن في تدبير الشأن العام والتفاوض بشأن تحقيق مصالح الفاعلين). وبالرغم من كل هذه التجديدات يبقى من حقنا أن نتساءل: