كانت الستينيات (من القرن الماضي) عقد المفارقة بامتياز: مأسسة الإستبدادالسياسي والإجتماعي والإقتصادي. وبالمقابل أحلام تطاول الجبال. تلك هي مدرستك الأولى ..أحلام تنهار، وتحل محلها أحلام جنينية كما هي أمواج البحرالتى لاتمل من العودة إلى الشاطئ حتفها الأخيرالذي لافكاك منه. كنت ترى، في هذه الأثناء، بيدك قبل عينيك، وأنت تتأبط صحفك الأولى التي ستحمل وشم تلك المرحلة .. تخطيطات مباشرة لمظاهر العسف وألوانه، بقلم الرصاص، أو بأصبع الفحم الذىواظبت على اقتنائه، بقروشك القليلة، من مكتبة «لابلياد» التي لم يبق منها إلا الإسم. كان الفن رسالة، قبل أن يكون ترفا.والرسم لم يكن ممارسة عابثة، بل كان ممارسة مسؤولة يتكامل فيها اللون بالمعرفة.فبجانب كبار الرسامين، وجد الفلاسفة والأدباء ورواد الموسيقى، خاصة الكلاسيكية منها.. لم تلتحق بمدرسة للفنون، أو التشكيل، بل التحقت بمدرسة الحياة ديدنك : اليد الرائية.فاليد أداة للقتل، وأداة للخلق.. في ذكراك الثانية عشرة، سأقف، قليلا، عند البدايات، بدايات اليد التي « تعشق قبل العين أحيانا». اليد ترى قبل العين. تلك لازمتك الشهيرة. وسواء تعلق الأمر باليد العاقلة عند«كانط»، أوبالأذن المبصرة عند «بشا ر بن برد»، أو بالموسيقى المرئية عند «سترافنسكي».. سواء كان هذا أو ذاك، فإنك سرت على هدي ما رأته يدك قبل عينيك، بدءا باختيارك لخشب حامل اللوحات وإطاراتها، مرورابنوعية القماش، وزاوية النظر، وطبيعة الضوء...في هذه المرحلة، أيضا، أبصرت، بيديك، طين النهر المقدس، ونحت منه رؤوس كبار الفلاسفة اليونان- سقراط خاصة- ورؤوسا أخرى صلعاء بعيون منطفئة. لاأذكر أصحابها، وإن كان أحدها يشبه رأس جارنا بائع الفحم الذي كان يحرص على حلق رأسه- كل أسبوع-بآلته البدائية- المكونة من قطعة قصب في طول الكف، بعد أن غرس في مقدمتها نصف شفرة الحلاقة. كانت رأسه الحليقة أشبه برأس كاهن فرعوني يستعد للصلاة. كانت الأم - رحمها االله- وهي تقترب من مرسمك بسطح المنزل، بالقرب من «بيت الصابون» تبسمل، عدة مرات، وهي ترنو إلى الرؤوس الملساء دون أن تغادرها الإبتسامة الخفيفة التى تزداد اتساعا بعد أن قدمت إليها كرة من الطين الأسود سرعان ما تحولت إلى كانون كان أشبه بمبخرة تداولتها أيدي الجارات بإعجاب وحسد أيضا.. ورثت عن الأم - رحمها الله - أصابعها التي توزعت بين اللين والصلابة..كانت أصابعها الحانية تصنع من « اللاشئ » أشياء كثيرة. وكذلك أنت.. الريشات الأولى، أقلام الرصاص، المجلات المصورة، إطارات الصور السليمة، أو المكسرة، علب الألوان المعدنية المستعملة. .. و قد لايعرف الكثيرون أن لوحات معرضك الأول- بدار الفكر- مدينة لصباغة السيارات قبل أن تدين للأنابيب الأنيقة التى يستعملها الرسامون في لوحاتهم.. كل هذه الأشياء كانت يدك الرائية تلتقطها من « مزبلة ماريكان» أحيانا، أو من «جوطية السكة» التى كانت مدرسة ثانية مفتوحة تربت عليها أذواقنا. ونحن نتحسس خشب الشوك الأملس، بأنفاس مكتومة، للدواليب والمكاتب والكنبات والأ باجورات...خشب كلما ازداد عتاقة ازداد جمالا، واسترسل في نفث رائحة طيبة مازال يحتفظ بها أنفي، ودولاب جدتي- رحمها الله- إلى الآن. وحواشى اللوحات. وصورنجوم السينما..وآلات غريبة واقفة ومنبطحة، وقمصان بألوان زاهية، وبنطال الدجين الذي لايبلى ولايحول.. والمجلات المصورة التي لاعد لها ولاحصر... ونقف أمام المرايا الصقيلة ونبحث عن الذي يجب أن يكون، فمرايا منازلنا البئيسة، بإطارها البلاستيكي المرقط بفضلات الذباب في معظم الأحيان، لاتعكس إلا ماهو كائن. يدك كانت ترى كل هذه الأشياء، ثم تبدأ التخطيطات الأولى في الإنثيال من بين أصابعك..وعند شجرتك المفضلة، شجرة البلاتان المحاذية للقنطرة الصغيرة، ترنو إلى النهر وفضائه الذي يتحول إلى منتزه للأفراد والعائلات وسط الخضرة الطافحة، وتتابع فلك الصيادين، وهم يعرضون سمك البوري في سلال الخوص المغطاة بأعشاب النهر.. كان « رونوار» يحضر في هذه الأثناء من خلال لوحاته الشهيرة عن المنتزهات، أو أيام الآحاد.. أما القنطرة العتيدة التي تربط بين الضفتين، فكانت تربض، من بعيد، في دعة واطمئنان كما أوحت لك بها قنطرة «فان جوخ» الشهيرة. ولم يمنعك النهر الأثير من متابعة الإنسان. كان الوجه، عادة، هو أكبر التحديات بالنسبة إليك. قد يسهل رسم الجسد كما عكسته العديد من رسوماتك وتخطيطاتك بالأبيض والأسود، لكن السؤال الذي كنت تكرره، كل وقت وحين، هوالتالي: كيف يعكس الوجه، في اللوحة، لغة الجسدالداخلية والخارجية، كيف تصب كل أعضاء الجسد في الوجه؟.. كانت لوحة دفن الرضيع المحمول من قبل الأب، ووراءه الأم المكلومة، خاضعة لسيطرة وجه الأب الذي وضعت فيه كل أحاسيس معاناة الفقد والخوف والغضب الإستسلام..ملامح مشدودة توحي بالإقتراب من البكاء، ولكنها، في الوقت ذاته، تتماسك وتزداد صلابة إلى الحد الذي تحول فيه الوجه إلى قطعة من صخر أصم.اا. أما لوحات العازف ( بالأحمر) ولوحة العازف ( بالأزرق) فإن حركة الأصابع العازفة لايمكن تفسيرها إلا بملامح الوجه المنتشية الدالة علىمدي ماوصل إليه العازف في عزفه..فتكسيرة الجبيبن، وزم الشفتين في (العازف بالأحمر) تدل على البدايات الأولى للعازف وهو يضبط الإيقاع المطلوب. أما اللوحة الثانية (العازف بالأزرق) فالعازف في مرحلة «السلطنة» كما دلت عليها جبهته المنبسطة، وبسمته المائلة، يمينا، ورأسه المندلقة إلى الوراء.. الوجه مرآة الداخل والخارج.. ولذلك كانت لوحتك عن الأم- رحمها الله- آخرما شف عنه وجهها الهادئ في رقدتها الأخيرة.كان وجهها البتولي يرين عليه بياض شفيف شع في جنبات المكان. لم نكن نملك صورة للأم- رحمها الله- فكانت لوحتك صورتها الأولى والأخيرة. كانت يدك هى التي رأت كل شئ.